
السفير عاطف سالم
إسرائيل والحراك العالمى للاعتراف بالدولة الفلسطينية
يوجد فى إسرائيل فى الوقت الحالى تياران متعارضان، أحدهما تيار يمينى شديد التطرف يسيطر على مقاليد الحكم، لديه أجندة توسعية مسيانية، ويسعى لإقامة دولة اليهود التوراتية طبقا لما يطلق عليه الهالاخاه (الشريعة اليهودية) ويدور هذا التيار فى أفلاك حزب الليكود اليمينى، وتيار اّخر يمكن أن نطلق عليه تجاوزا تيار شبه ليبرالى يضم أحزاب الوسط وبقايا أحزاب وتنظيمات اليسار، وهذا التيار يضم نخبا ضعيفة ومعارضة مستأنسة ويغلب على قياداته وأحزابه نوع من الأنانية والتظاهر وسعيهم لتحقيق مصالح شخصية، إلا أن كلا التيارين يتفقان تماما فى المعارضة والحيلولة دون إقامة الدولة الفلسطينية ويعتبرونها خطرا وجوديا على إسرائيل، وقد ظهر ذلك بشكل جلى بعد اعتراف عدد من الدول الأوروبية والكاريبية بالدولة الفلسطينية، والذي ترتب عليه أن اتخذ الكنيست قرارا فى فبراير 2024 برفض الاعترافات الدولية أحادية الجانب بدولة فلسطينية وقرار اّخر فى يوليو 2024 برفض الاعتراف بدولة فلسطينية لا بتسوية ولا بشكل أحادى الجانب.
تكرر الموقف الإسرائيلى المعارض لإقامة دولة فلسطينية مجددا بعد توالى اعترافات عدد من الدول الغربية خلال وقبيل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الحالية حيث أجمعت الحكومة والمعارضة الإسرائيلية على أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية، وأن الاعتراف بها ضرر سياسى بالغ بالنسبة لإسرائيل وأنها بمثابة مكافأة للإرهاب، وتشدد البعض منهم – خاصة سموتريتش وبن جفير – إلى مرحلة طلب إنهاء دور السلطة الفلسطينية، واعتقال الرئيس محمود عباس، بل إن نفتالى بينت – رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب سياسى جديد – حذر من الاعتراف بدولة فلسطين باعتبار أن ذلك سيؤدى إلى إنشاء دولة إرهاب كاملة، على حد تعبيره، وأن هذا الإرهاب سيضرب باريس نفسها غدا.
يواجه الائتلاف الإسرائيلى الحالى العديد من الصعاب الداخلية من مظاهرات تتصاعد ضد الحكومة وسياستها فى غزة، ومشكلة تجنيد الحريديم، وتنامى عدم ثقة المواطن فى القيادة الإسرائيلية واستنزاف الجيش الإسرائيلى، وبوادر تفكك العقد الاجتماعى الذي قامت عليه الدولة منذ نشأتها بل إن الأساس الذي قامت عليه إسرائيل هو توفير الأمن للمواطن اليهودى قد أصبح محل شك، هذا فضلا عن مشكلات إقليمية مع دول الجوار وتحذيرات لإسرائيل من تاّكل الأسس التي قامت عليها اتفاقيات السلام فى المنطقة، إضافة إلى عزلة دولية وبعض العقوبات الأوروبية، ورغم ذلك تسعى الحكومة الإسرائيلية ردا على الحراك العالمى للاعتراف بدولة فلسطينية إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية وعلى وجه التحديد ضم المنطقة (ب) التي تمثل 22 % من مساحة الضفة الغربية إلى جانب المنطقة (ج) التي تسيطر عليها بالفعل أمنيا وإداريا - حسب اتفاقية أوسلو 1993 – والتي تمثل 60 % من مساحة الضفة، وبالتالى السيطرة الإسرائيلية على نحو 82 % من الضفة بما يحول مستقبلا من استحالة إقامة دولة فلسطينية، إلا أن هذا القرار يعتمد بالأساس على حصول نتنياهو على ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية خلال لقائه مع الرئيس ترامب فى 29 سبتمبر الجارى، كما أنه يتوقف أيضا على مدى استجابة المسؤولين الإسرائيليين لتحذيرات كبار المسؤولين الأوروبيين من أن أى محاولة لضم أراض فى الضفة الغربية كرد فعل على الاعتراف سيؤدى إلى عقوبات على الحكومة الإسرائيلية وقد تدمر اتفاقيات السلام القائمة فى الشرق الأوسط.
تجدر الإشارة إلى أنه سبق أن اتخذ الكنيست الإسرائيلى قرارا فى فبراير 2024 ردا على اعتراف بعض الدول الأوربية والكاريبية بدولة فلسطينية على حدود 1967 برفض الاعتراف بشكل أحادى الجانب كما صوت بأغلبية كبيرة فى يوليو 2024 على رفض إقامة دولة فلسطينية لا بتسوية ولا بشكل أحادى.
يمارس نتنياهو فى التعامل مع الاعترافات بالدولة الفلسطينية سياسة الرفض القاطع لإقامة دولة فلسطينية، ومواصلة نهج الاستيطان، مع اتخاذ موقف يجمع بين الحفاظ على تماسك ائتلافه الحاكم وعدم التصعيد الدولى فى المرحلة الحالية، والتركيز على التنسيق مع الإدارة الأمريكية 2024 خاصة فى ضوء تصريح مبدئى لوزير الخارجية الأمريكى روبيو بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو مكافأة لحماس، وسيستفز إسرائيل للقيام بضم الضفة الغربية.
واتصالا بالحراك العالمى للاعتراف بالدولة الفلسطينية :
إن الاعتراف يمثل توجها تاريخيا إيجابيا لتصحيح أخطاء الماضى ولتعزيز الحقوق الفلسطينية استنادا إلى المرجعية الدولية، وقد يكون ذا ثقل رمزى يغير معادلة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ويضع المزيد من الضغوط على الجانب الإسرائيلى، إلا أنه يتطلب أيضا خطوات أخرى بالتحرك نحو تجريم السلوك الإسرائيلى فى قطاع غزة والضفة الغربية وإيقاف الحرب وفرض المزيد من العقوبات عليها لإيقاف عمليات الإبادة والتهجير والتجويع فى غزة وإيجاد السبل التي تسمح بإقامة الدولة الفلسطينية على أرض الواقع.
إن الحكومة الإسرائيلية الحالية، على الرغم من المصاعب التي تواجهها والتي سبق الإشارة إليها، وعدم قدرتها على مواجهة هذا الحراك، لن تتنازل عن موقعها فى الحكم نتيجة الفشل فى إدارة الملف الفلسطينى أو التظاهرات فى الشارع الإسرائيلى أو تنامى هذه الاعترافات، فلم يسبق فى تاريخ إسرائيل أن استطاع الشارع الإسرائيلى إسقاط حكومة إسرائيلية، وكان السقوط دائما مرتبطا بإجراء الحكومة الإسرائيلية محادثات سلام مع الفلسطينيين ( حكومة شارون وحكومة إيهود باراك..) وصولا إلى عملية اغتيال اسحاق رابين نتيجة إبرامه اتفاقية أوسلو مع ياسر عرفات. كما أن هناك مصلحة حيوية للأحزاب الحريدية المتطرفة فى عدم انهيار الائتلاف الحاكم خاصة أن استطلاعات الرأى تفيد أن حزب الصهيونية الدينية لسموتريتش لن يحصل على نسبة الحسم اللازمة لاجتياز أى انتخابات مقبلة ( وهى نسبة 3,25 % المطلوبة لنجاح أى حزب فى دخول الكنيست) وتحول بعض مؤيدى حزب الليكود إلى تأييد أحزاب أخرى جديدة ( حزب نفتالى بينت، وحزب جادى ايزنكوت ) فضلا عن ضعف أحزاب المعارضة الإسرائيلية فى التأثيرعلى الوضع القائم أو إزاحة هذه الحكومة.
فمنذ عام 1948 وحتى الآن كان متوسط عمر الحكومة الإسرائيلية أقل من سنتين، والحكومة الحالية داخلة إلى عامها الثالث كما أن الانتخابات البرلمانية فى إسرائيل ستكون فى نهاية أكتوبر 2026 وربما يلجأ نتنياهو إلى خلق ذريعة أمنية تعرقل الانتخابات المقبلة ومن الأرجح خلق حالة حرب مع إيران، علما بأن حربه الأخيرة مع إيران قد منحته دفعة كبيرة فى استطلاعات الرأى.. ويحضرنى هنا تصريح يشير إلى هذا التوجه صدر مؤخرا عن نفتالى بينت بأنه لن يسمح لأحد أن يؤجل أو يعرقل إجراء الانتخابات المقبلة فى 2026 نظرا لخبرته التاريخية مع نتنياهو وألاعيبه فترة عملهما معا.
وفيما يتعلق بالجانب الأمريكى نجد أن هناك توافقا بين ترامب ونتنياهو على خلاف مايتم تسويقه حول التعامل مع الاعترافات الدولية ومجمل جوانب القضية الفلسطينية، فكلاهما يتفقان فى أن فرض السلام يجب أن يتم من خلال استخدام القوة، كما أن كليهما لديه أجندة اقليمية لإعادة هندسة الوضع الجيوسياسى فى منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى أن كليهما يسعى إلى صناعة مجد وتاريخ سياسى لنفسه، وعلى الرغم مما نشرته مجلة فورين بوليسى تحت عنوان العلاقات المعقدة بين ترامب ونتنياهو فى إشارة لها إلى قيام الإدارة الأمريكية بعقد اتفاق مع الحوثيين، وإجراء حوار فى مرحلة ما مع حماس، ورفع العقوبات عن سوريا، إلا أنها لم تغفل دور ترامب فى منح نتنياهو الدعم لمواصلة الحروب على كافة الجبهات، ومساعدته بشكل مباشر فى حربه مع إيران، وفى البحث عن دول لتهجير سكان غزة، والاستجابة لكل طلباته من السلاح، بل يعمل على الدفاع عنه فى قضايا الفساد المتهم بها المطالبة بعدم محاكمته.