
احمد باشا
قوة الردع الرشيد.. لا سلام بدون سلاح
لم تُخلق الجيوش لتشعل الحروب، بل لتمنعها، فالتاريخ يعلمنا أن السلام لا يحيا إلا فى ظل قوة تحرسه، وأن الفراغ العسكرى يفتح شهية المغامرين ويدفع بأقدام الطامعين إلى اقتحام الأوطان.
من هنا جاءت مقولة الفيلسوف الرومانى القديمة: «إذا أردت السلام، فاستعد للحرب»، لتظل دستورًا غير مكتوب فى العلاقات الدولية، يترجم حكمة الردع الرشيد الذى يُبقى البنادق صامتة، لكنه يجعل الأعداء يحسبون ألف حساب قبل أن يغامروا.
فالردع ليس نزوعًا إلى الهيمنة أو اندفاعًا إلى العدوان، بل هو عقل استراتيجى يدرك أن القوة الحقيقية تكمن فى منع إطلاق الرصاصة الأولى.
وقد عبّر هنرى كيسنجر عن ذلك حين قال: «إن التوازن العسكرى هو الضمان الأوحد لاستقرار النظام الدولى»، بينما أكد المفكر العسكرى كلاوزفيتز أن الحرب ليست سوى امتداد للسياسة، مما يعنى أن جيشًا قويًا هو امتداد للسياسة الرشيدة، لا خصمًا لها.
وفى مناطق النزاع، يصبح وجود جيش رادع هو صمام الأمان لاستقرار إقليمى يُجنب الشعوب ويلات الفوضى، فحين تكون الكفة مختلة، ينفجر الصراع، أما حين تكون موازين القوى متكافئة، تتراجع شهية المغامرة، وتعلو كفة التفاوض.
هنا تتجلى القوة المصرية كنموذج حيّ لما يمكن أن نصطلح على تسميته “الردع الرشيد”. فالجيش المصرى – أكبر جيوش المنطقة وأعرقها – لم يكن يومًا أداة تغوّل أو عدوان، بل كان دومًا درعًا يحمى الحدود، وسيفًا يقطع الطريق على الطامعين، وقاعدة صلبة تحفظ مكتسبات الدولة، قوته الهائلة تجعل العدو يفكر ألف مرة قبل أن يغامر، لكنها فى الوقت نفسه تمنح الداخل طمأنينة وثقة بأن هناك من يسهر على حماية الأرض والعرض.
حركة التسليح المتطورة، التى شهدها الجيش المصرى فى العقد الأخير، لم تكن استعراضًا أو ترفًا عسكريًا، بل كانت رسالة مزدوجة للمصريين بأن دولتهم قادرة على صون أمنها ومقدراتها، وللخارج بأن لمصر جيشًا عصيًّا على الكسر، لا يطلب القتال لكنه لا يتردد فيه إذا فُرض.
ومن يقرأ مشهد المناورات المشتركة، والتدريب المتواصل، وتطوير العقيدة القتالية، يدرك أن هذا الجيش يزداد صلابة يومًا بعد يوم، وأنه يُراكم عناصر الردع لا ليغزو أحدًا، بل ليمنع أى مغامر من التفكير فى الغزو أصلًا.
هذا الردع الرشيد لا يكتفى بحماية الأرض، بل ينعكس مباشرة على قوة المفاوض المصرى. فحين يجلس السياسى على مائدة التفاوض، وهو يستند إلى جيش قوى، تتضاعف أوراقه وتعلو كلمته، ويصبح صوته أكثر حضورًا ووزنًا.
لقد قال ونستون تشرشل ذات يوم: «الكلمات بلا قوة عسكرية ليست سوى أصوات فى الهواء»، ومصر تعرف ذلك جيدًا، لذلك تبنى قوتها العسكرية جنبًا إلى جنب مع قوتها الدبلوماسية، ليظل القرار الوطنى مصانًا، والسيادة المصرية محفوظة.
إن الجيش المصرى اليوم يمثل مدرسة فى إدارة القوة بعقل الدولة لا بنزق السلاح؛ قوة قادرة على الحسم، لكنها أكثر حرصًا على الاستقرار، وهذا هو جوهر الردع الرشيد، أن تمتلك السلاح كى لا تضطر لاستخدامه، وأن يكون السلام غايتك العليا، بينما تقف القوة وراءه كظل وفيٍّ لا يفارق الخطى.
هكذا، حين ننظر إلى خريطة المنطقة المضطربة، ندرك أن مصر لا تملك ترف الضعف، وأن جيشها القوى هو ركيزة الأمن القومى العربى، وحائط الصد أمام مشاريع الفوضى، إنه جيش يُحسب له ألف حساب، ويظل – فى جوهر رسالته – جيش السلام.