الكنيسة و الدولة 6.. حكاية تلميذى البابا بطرس
«أرشيلاوس» نسى وصية معلمه.. و«ألكسندروس» واجه انشقاق «آريوس»

وفاء وصفى
بطاركة الكنيسة القبطية
118 بطريركًا تعاقبوا على كرسى مار مرقس منذ بداية النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، وهو تاريخ دخول المسيحية مصر وحتى الآن، بداية من القديس مرقس الرسول إلى قداسة البابا تواضروس الثانى الذى يحمل الرقم 118، وخلال 20 قرنًا تقريبًا ارتبط هؤلاء البطاركة بالدولة والمجتمع المصرى، عبروا عنه وحملوا همومه.
فى هذه السلسلة نقدم نبذة سريعة عن بطاركة الكنيسة القبطية للتعريف بهم وبدورهم ورسالة كل منهم.
ظلت أزمة آريوس تلقى بظلالها على الكنيسة الأولى لفترة ليست بالقصيرة، وزاد منها الأسقف ميلتيوس أسقف أسيوط الذى انشق عن كنيسته الأم بعد أن خضع وبخَّر للأوثان، وعندما أراد الرجوع رفض أن ينفذ شروط عودته. وقبل رحيل البابا بطرس خاتم الشهداء، البطريرك الـ17، اجتمع مع تلميذيه أرشيلاوس وألكسندروس ونهاهما عن قبول آريوس فى الكنيسة.
أكد لهما أنهما من سيخلفانه على الكرسى المرقسى، وبالفعل بعد رحيله جاء تلميذه الأول أرشيلاوس ليصبح البطريرك الـ18 فى تاريخ كرسى مارمرقس.
وُلد أرشيلاوس بالإسكندرية، واتسم بالتقوى بجانب نبوغه وعلمه، فرسمه البابا ثأونا قسًا وسلمه رئاسة مدرسة الإسكندرية، وتتلمذ القديس بطرس خاتم الشهداء فى المدرسة أثناء رئاسة أرشيلاوس لها، ولما سيم بطرس بابا الإسكندرية (17)، اتخذ أرشيلاوس وألكسندروس تلميذين له.
عندما أُلقى البابا بطرس فى السجن، استدعاهما وأخبرهما بأن أرشيلاوس القس سيكون خلفًا له، ومن بعده ألكسندروس، وحذرهما من المبتدع آريوس، إذ قال لهما إنه يمتنع عن قبوله ليس عن قسوة من جانبه، ولكن لأن آريوس مهرطق مخادع.
إلا أن أرشيلاوس لما جلس على الكرسى، توسل إليه آريوس ليعيده إلى الكنيسة، متظاهرًا بالندم، فنسى أرشيلاوس وصية سلفه وقَبِله فى الكنيسة، بل ورسمه قسًا، فكان آريوس نكبة على الكنيسة فى العالم كله شرقًا وغربًا.
ولم تدم رئاسة البابا أرشيلاوس أكثر من ستة أشهر فقط، لتكون الأقصر لبطريرك على الكرسى المرقسى.
مقاومة آريوس
جاء بعد البابا أرشيلاوس تلميذ البابا بطرس الآخر، ألكسندروس، الذى أخذ على عاتقه منذ اللحظة الأولى لجلوسه على الكرسى البابوى المرقسى، مقاومة ضلالات آريوس وبدعته التى عُرفت باسمه، والتى انتشرت فى ربوع الإسكندرية وتجاوزت حدودها، مما كان ينذر بالمخاطر ويهدد استقرار الكنيسة وانحرافها عن تعاليم الكتاب المقدس.
ورفع عدد من الكهنة شكوى إلى البابا ألكسندروس يشكون فيها تمادى آريوس فى تعاليمه المضللة، فكان قرار البابا ألكسندروس إيقاف آريوس عن التعليم والوعظ بقرار رسمى، كما وقّع المجمع على قرار حرمان آريوس من الوعظ والتعليم فى جميع الكنائس.
ولما أبدى آريوس عدم الطاعة لهذا القرار، واستمر فى التعليم والوعظ والترويج لتعاليمه المضللة، اضطر البابا ألكسندروس إلى طرده من مدينة الإسكندرية نهائيًا.
صراع الكنيسة
فى الوقت الذى كانت فيه كنيسة الإسكندرية تقاوم آريوس وأتباعه، حاول أتباع ميلتيوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) بكل طاقتهم عرقلة سيامة ألكسندروس، مرشحين آريوس ليكون هو البابا البطريرك، إلا أنه لم ينجح فى ذلك.
وقد شهدت كنيسة الإسكندرية أحداثًا جسامًا على يد ميلتيوس، أشهرها عندما أودع البابا بطرس الـ17 فى السجن، حيث استغل ميلتيوس سجنه ليجلس على كرسيه ويرسم كهنة بالإسكندرية ويسلم أساقفة إيبارشيات غير إيبارشياتهم، وبهذا كوّن لنفسه حزبًا من ثلاثين أسقفًا يعلنون استقلالهم عن البابا ويدخلون بعض الأنظمة اليهودية فى عبادتهم.
فى ذلك الوقت، عقد البابا بطرس خاتم الشهداء مجمعًا حكم فيه بتجريد ميلتيوس من درجته، فلم يأبه بذلك.
وأصدر مجمع نيقية حكمه بشأن انشقاق ميلتيوس، فخضع لحكم المجمع والبابا ألكسندروس حتى مات عام 330م.
بالعودة إلى آريوس الذى ظل يحاول شق الكنيسة المصرية، فى عام 319م، عقد البابا ألكسندروس مجمعًا محليًا يطالبه بترك بدعته، وإذا رفض، عقد مجمعًا آخر بالإسكندرية يضم 100 أسقف من مصر وليبيا حرم آريوس وبدعته.
لكنه ظل على حاله، فكتب آريوس إلى أوسابيوس أسقف نيقوميديا يستعطفه كمن هو مضطهد من أجل الحق، وبقى فى عناده يبث سمومه، فطرده البابا.
وتمادى أتباع آريوس فى مواجهة الكنيسة الأولى، حيث عقدوا مجمعين، الأول فى بيثينية عام 322م والثانى فى فلسطين عام 323م، وقررا أن الحكم الصادر ضد آريوس من بطريرك الإسكندرية باطل، وطالبا بعودة آريوس إلى الإسكندرية.
مجمع نيقية
اضطر البابا أن يُشهر حرمان آريوس ويطرده للمرة الثانية، وقام الشماس أثناسيوس بكتابة منشور ضد بدعة آريوس وقّعه 36 كاهنًا و44 شماسًا.
من جانب آخر، استطاع أوسابيوس أسقف نيقوميديا أن يستميل الإمبراطور قسطنطين إلى آريوس، فأرسل الإمبراطور أوسيوس أسقف قرطبة من إسبانيا، وهو من المعترفين الذين احتملوا العذابات فى عهد مكسيميانوس، إلى الإسكندرية للتوسط لدى البابا فيقبل آريوس.
بوصول الأسقف إلى الإسكندرية، لمس بنفسه ما يفعله أتباع آريوس، فانضم إلى البابا وطلب من الإمبراطور أن يأمر بعقد مجمع مسكونى لينظر فى أمر الأريوسيين.
وهنا عُقد مجمع نيقية عام 325م، وهو الذى تحتفل به الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشهر القادم بمناسبة مرور 17 قرنًا على انعقاده.
وكان للقديس أثناسيوس الرسولى، والذى كان الشماس الخاص بالبابا ألكسندروس، دوره الكبير فى كشف أباطيل الأريوسيين.
تميز بفصاحة اللسان وقوة الإقناع والحضور الدائم، فتمكن من أن يوقف مسيرة الضلال التى كان يقودها آريوس، فقطع آريوس وأتباعه، ونُفى إلى الإليريكون، وتم إقرار قانون الإيمان الأرثوذكسى فى هذا المجمع.
وكان للكنيسة المصرية دور كبير فى هذا المجمع، حيث ترأسه البابا ألكسندروس، وعملوا له كرسيًا عظيمًا من الذهب ليجلس عليه، ولكنه رفضه وجلس فى المؤخرة، لكن عندما أصر الجميع على ذلك، جلس عليه، وكان مقررًا أن الرئيس هو هوسيوس أسقف قرطبة، ولكن الجميع سلّموا البابا ألكسندروس أن يتقدمهم فى كل الجلسات لأنه هو البابا الوحيد فى وسطهم.
وبعد صراع كبير، رحل البابا ألكسندروس حوالى عام 328م، تاركًا حوالى سبعين رسالة له، فُقدت جميعها ما عدا رسالتين فى غاية الأهمية بخصوص الصراع الأريوسى، كما ترك عظات، منها عظة بالقبطية والسريانية عن النفس والجسد.
رحل البابا ألكسندروس عن عالمنا، لكن أصبح له مكانة خاصة فى الكنائس الأخرى وليست المصرية فقط، حيث تعيّد له الكنيسة الغربية فى 26 فبراير، واليونانية فى 29 مايو، والقبطية فى 22 برمودة.
ترك البابا ألكسندروس أثناسيوس تلميذه وشماسه الخاص ليصبح البابا أثناسيوس الرسولى، البطريرك الـ20، لتكون فترته من أهم الفترات التى ستشهدها الكنيسة المصرية، وهى التى ستكون موضوع حلقتنا القادمة بإذن الله.