
د. وليد جاب الله
قراءة فى خارطة طريق ما بعد صندوق النقد
بالأرقام كيف يشعر المواطن بـ«سردية الإصلاح الاقتصادى»؟
السردية هي كلمة ذات بُعد قصصي ترتبط بالسرد المُنظم للوقائع، وقد استخدمتها الحكومة في صياغة رؤيتها الخاصة بمُستقبل الاقتصاد المصري، حيث نجد أن مُستقبل الاقتصاد تحكمه مجموعة مُتنوعة من الخطط والاستراتيجيات، فهناك رؤية 2030، ورؤية مصر 2052، ووثيقة سياسات ملكية الدولة، وخطط التنمية المتوسطة، والسنوية التي تُعدها وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، والخطط المُستقبلية التي يتم إعدادها في الوزارات المُختلفة، وغيرها من الأُطر التخطيطية.
وقد طرحت الحكومة ما أطلقت عليه «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» والتي يتم من خلالها السرد والتنظيم والربط بين مسارات التخطيط المُختلفة، وصولاً إلى وثيقة تتضمن مسارا واضحا للمُستقبل في المدي القريب، والمتوسط تُحدده عناصر تلك السردية الحكومية، وما تتم إضافته لها من خلال الحوار المُجتمعي الذي يُضيف إليها لتصل إلى صيغتها النهائية.
وإطلاق تلك السردية يرتبط بإطار زمني، وهو قُرب انتهاء برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتم بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، والذي من المُقرر انتهاؤه بنهاية نوفمبر 2026، ما يُحتم طرح مسألة تحديد مسار الإصلاح الاقتصادي المصري فيما بعد ذلك البرنامج للنقاش من أجل الوصول إلى رؤية واضحة لمسار الإصلاحات الهيكلية فيما بعد نوفمبر 2026 وربط ذلك بمراجعة ما تبقى من مُستهدفات لرؤية مصر 2030 وإدارج تلك المُستهدفات في برنامج متوسط المدى لتنفيذها، مع طرح الأفكار لرؤى الدولة المصرية لما بعد 2030
وفي الإطار التنظيمي، فإن هذه السردية تؤكد على حتمية مسار الإصلاحات الهيكلية، وبأن قُرب انتهاء تنفيذ برنامج مصر مع صندوق النقد الدولي، وما حققه من نجاح يفتح الباب أمام صياغة برنامج إصلاح مصري دون حاجة لتمويل مُساندة من الصندوق، وهو الأمر الذي لا يعني ارتداد مصر عن مسارها الإصلاحي، ولكنه يبرز الآمال في السير بمسار الإصلاحات الهيكلية مع الاكتفاء بالتعاون الفني مع الصندوق، وهو ما يُعطي للإدارة الاقتتصادية قُدرة ومرونة أكبر في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية. فلا يوجد تعارض بين مبادئ الإصلاح الاقتصادي المصري وأفكار صندوق النقد الدولي، ولكن يُمكن لمصر في حالة عدم طلبها تمويلا من الصندوق أن تُحقق نتائج أفضل سيما في مجال اكتشاف القُدرات الكامنة للاقتصاد المصري، ومُراعاة الخصوصية المحلية دون الابتعاد عن استهداف التقدم في المؤشرات الدولية التي ستتحسن بصورة تلقائية في حالة حدوث تقدم أكبر في الاعتماد على القُدرات المحلية.
وتُقدم السردية رؤية تخطيطية شاملة تبني على ما تحقق من نجاحات، منها تحقيق مُعدلات نمو أكبر مما كانت تتوقعه المؤسسات الدولية، سيما مع تسجيل مُعدل نمو نسبته 4,2 % في الأشهر التسعة الأولى من العام المالي الجاري، مُقارنة بنسبة 2,4 % خلال العام الماضي، وكذلك تحقيق فائض أولي في الموازنة بواقع 3,6 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع مُعدل التضخم من 25,7 % في يوليو 2024 إلى 13,9 % في يوليو 2025، وارتفاع كبير للاحتياطي النقدي الذي بلغ نحو 49,25 مليار دولار وهو يسير في مسار تنازلي مُتأثر تأثراً إيجابياً بتحسن إيرادات مصر من العملات الأجنبية سيما مع تحقيق مُعدل نمو في قطاع الصناعات التحويلية بلغ نحو 18 %، وتسجيل قطاع السياحة مُعدل نمو بلغ نحو 17 %، وارتفاع تحويلات المصريين لتتجاوز 36,5 مليار دولار، مع تراجع مُعدلات البطالة لتصل إلى أدنى مستوياتها.
والسردية الوطنية للتنمية الاقتصادية تؤسس للمُستقبل من خلال استهداف استكمال عمليات الإصلاح الهيكلي للوصول إلى نموذج اقتصادي أكثر انفتاحاً ومرونة، يتم فيه التأكيد على الدور التنظيمي للدولة، وتطبيق مبدأ الانتقال التدريجي من الدور التشغيلي المُباشر للدولة، إلى دور يركز على التنظيم، والشراكة مع القطاع الخاص والعمل على تحسين كفاءة تخصيص الموارد وتعظيم العائد من الأضول العامة، وفتح المجال أمام القطاع الخاص، سواء من خلال الشراكة أو التخارج الكلي أو الجزئي. حيث يتم استهداف تحقيق مُعدلات نمو ما بين 5-7 % بصورة مُستدامة، لتضمن تحسنا حقيقيا في جودة حياة المواطنين، بدعم من سياسات نقدية ومالية مرنة تُحقق أكبر قدر من التحفيز للقطاع الخاص، والذي يتم توجيه مساره الاستثماري من خلال باقة متنوعة من الحوافز التي تُشجعه على اقتحام القطاعات الإنتاجية، مثل القطاع الزراعي، وقطاع الصناعات التحويلية، إلى جانب قطاعات السياحة والتكنولوجيا، وغيرها من القطاعات التي تُحقق زيادة القيمة المُضافة وتعزيز تنافسية الاقتصاد المصري عبر سياسات داعمة للنمو والتشغيل، تكون قائمة على تعزيز استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتحسين بيئة الأعمال، ودعم الانتقال الأخضر.
وإذا كانت السردية تُركز بصورة كبيرة على صناعة النمو عبر توسع أنشطة القطاع الخاص، فإن التحدي الذي يُواجه هذا المسار هو مدى استجابة القطاع الخاص لما تُقدمه له الدولة من مُحفزات، فالدولة المصرية أنفقت تريليونات الجنيهات لتهيئة الاقتصاد المصري لكي يكون جاهزا لتوسع أنشطة استثمارات القطاع الخاص، بما في ذلك تطوير البنية التحتية، وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، والدخول في شراكات وتكتلات اقتصادية إقليمية ودولية تفتح الباب أمام زيادة صادرات القطاع الخاص، وكذلك تبني سياسات نقدية ومالية تُراعي المعايير الدولية بما في ذلك تبني نظام سعر صرف مرن، والبدء في مسار التيسير النقدي وخفض أسعار الفائدة بما يخفض من تكاليف تمويل المشروعات، وغير ذلك من حوافز وضمانات، ليأتي طرح «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» للحوار المُجتمعي ليكون مُناسبة جديدة للاستماع لكيانات القطاع الخاص والعمل على إدراج أفضل الأُطر التنظيمية التي تدعم مسار تحفيز القطاع الخاص خلال السنوات القادمة.
وهكذا نجد أن تلك السردية بمثابة آلية جديدة لتنظيم مرحلة ما قبل التخطيط، حيث يتم من خلالها سرد كل ما هو كائن، والبحث عما ينبغي أن يكون، من أجل إدراجه في موقعه المُناسب بخطط التنمية السنوية، وبرنامج العمل الاقتصادي في المدى المتوسط لمرحلة ما بعد اكتمال برنامج الإصلاح الاقتصادي الحالي في نوفمبر 2026. لن تضمن السردية تحقيق التنمية، ولكنها تضمن الوصول إلى أفضل المسارات إليها، حيث إن تحقيق التنمية ذاته يكون عبر الاتفاق على المسار، ووحدة الصف في مجال التنفيذ، وقيام كل طرف بالدور المنوط به دون إبطاء أو تردد. تؤكد السردية على تصميم الدولة المصرية على المُضي في مسارها الإصلاحي، وتُعلن عن رسالتها بأنها لن ترتد عن مسارها الإصلاحي، وبأنها تستهدف رفاهية المواطن عبر تنمية الاقتصاد الحقيقي، بما يُناسب الواقع المحلي، ومعايير العصر. تؤكد الدولة المصرية عبر سرديتها التنموية أنها تنتظر من القطاع الخاص المصري مزيدا من المُشاركة في النشاط الاقتصادي، بما في ذلك دوره في جذب الاستثمار الأجنبي، كما يُعبر طرح تلك السردية للحوار المُجتمعي عن رغبة الحكومة في عدم الاستئثار برسم مُستقبل الاقتصاد، وبأنها مُنفتحة على كافة التوجهات المنطقية التي تدعم مسار التنمية المصرية عبر تقديم الأفكار التي تُساعد على مواجهة التحديات والمُتغيرات الخارجية المُتسارعة، لتكون «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» هو الوثيقة الشاملة التي ترسم المسار، وتُحدد الأدوار في المُستقبل القريب.