
أحمد إمبابى
النيـران موقوتة ومؤثرة
رسائل القوة والسلام من ميدان النجم الساطع
فى ميدان المرحلة الرئيسية لتدريبات النجم الساطع، وسط صحراء قاعدة محمد نجيب العسكرية؛ حيث كانت قوات الدول المشاركة تُنفذ تدريب «الرماية التكتيكية» باستخدام الذخيرة الحية، قبل انتهاء النسخة التاسعة عشرة من التدريب الأسبوع الماضى، كانت القوات المشاركة فى حالة محاكاة لحرب حقيقية، تتناغم فيها أدوار قوات الدول المشاركة، من التخطيط للهجوم وتنفيذ عمليات نوعية وتدمير الأهداف المعادية.
كان مشهد التدريب، الذي عايشته لعدة ساعات، شديد الانضباط، يعكس مدَى التطور والمرونة فى البنية العسكرية المصرية، التي تؤهلها للاندماج والتفاعل سريعًا مع أساليب وتكتيكات الجيوش الكبرى كالولايات المتحدة وحلف الناتو، ولكن أكثر ما استوقفنى فى هذا المشهد تلك الرسالة التي ردّدها ضباط العمليات فى الميدان، عند نجاح القوات فى إصابة أهدافها؛ ليعلن قائلًا «النيران موقوتة ومؤثرة»، فى إشارة إلى مدَى الدقة فى تدمير الأهداف بنجاح.
تلك الرسالة كانت حاضرة، مع كل نجاح عملياتى للقوات المشاركة، بمختلف أدوارها، من قوات جوية ورماية ودفاع جوى، وغيرها، غير أننى لم أستطع التوقف مع رسالة ضباط الميدان المتكررة للحضور؛ بأن «النيران موقوتة ومؤثرة»، بَعَدِّها نجاحًا فى إصابة الهدف المحدد فقط؛ وإنما رأيتها رسالة شديدة البلاغة؛ لواقع يتعدى حدود ميدان أكبر تدريب عسكرى فى الشرق الأوسط، فهى رسالة تعبر عن «القدرة المصرية»، فى محيط تجاوز مراحل الاضطراب، وبات على فوهة بركان مشتعل.
صحيح هى رسالة إعلان نجاح كل عملية نوعية كانت تنفذها القوات المشاركة فى «تدريب الرماية التكتيكى» على الأرض، أمام الحضور، لكنى قرأتها كرسالة بعِلم الوصول، إقليميًا ودوليًا، شرقًا وغربًا وجنوبًا، بأن نيران القوة المصرية حاضرة؛ لتوجه للهدف المعادى فى ميقات محسوب بدقة، وتحقق تأثيرها وغايتها فى تدمير كل ما هو يعادى الأمن القومى، حينما تقتضى الضرورة.
هى رسالة تعكس مفهوم «قوة الأمن القومى»، من حيث تقدير عناصر القدرة التي تمتلكها الدولة، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا وتكنولوجيًا، وكيفية إدارتها بشكل فعّال فى مواجهة كل مهددات أمنها، وحماية مواطنيها وأراضيها ومصالحها الوطنية.

كفاءة قتالية
وبينما كنت أشاهد التدريب من يمين المنصة، لم أستطع أن أخفى تفاعلى مع كل عملية نوعية نفذتها القوات المصرية، المشاركة فى تدريب النجم الساطع، بالشراكة مع قوات الدول المشاركة، وكأنها انتصار فى ميدان معركة حقيقية، للدرجة التي كنت أردد فيها أيضًا رسالة تدمير الأهداف «النيران موقوتة ومؤثرة»، والواقع أن التفاعل كان من جميع الحضور، وهم نخبة من العسكريين، فقد جرى تنفيذ تدريب «الرماية التكتيكية»، أمام القائد العام للقوات المسلحة المصرية، الفريق أول عبدالمجيد صقر، ورئيس الأركان الفريق أحمد خليفة، إلى جانب قائد القيادة المركزية الأمريكية، براد كوبر، وأيضًا قادة وفود الدول المشاركة، وعدد من قادة القوات المسلحة المصرية.
كان تفاعلى مصدره الكفاءة فى التعامل مع الأهداف المعادية، كما رأيت فى ميدان العمليات بالذخيرة الحية، وهى درجة رفيعة من درجات التدريبات المشتركة، تتجاوز مسألة تبادل الخبرات والاطلاع على أساليب الآخرين، والاستفادة من السيناريوهات التدريبية لدى قوات الدول المشاركة؛ لتترجم ما جرى التدريب عليه فى فترة وجيزة إلى مشروع عملى وميدانى، تظهر فيه قدرات قوات كل دولة مشاركة.
وهنا نتوقف أمام معنى آخر، مرتبط بفعاليات النسخة التاسعة عشرة من تدريب «النجم الساطع»، التي انطلقت من 28 أغسطس حتى 10 سبتمبر، فمع كونه أقدم وأكبر تدريب عسكرى فى منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه يشهد تطورًا فى عدد الدول المشاركة فيه، ذلك أنه بدأ بشكل ثنائى بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية عام 1980، وتطور حتى وصلت أعداد المشاركين فيه هذا العام، إلى 43 دولة، إلى جانب منظمتين دوليتين، بينها 14 دولة مشاركة بقوات، و29 دولة مشاركة بصفة مراقب.
وبالتالى على الصعيد التدريبى؛ أتاحت المناورة، للقوات المصرية، اكتساب خبرات قتالية متقدمة، وتجربة أساليب قتالية حديثة، وتقييم مدى الجاهزية المختلفة برًا وبحرًا وجوًا، إلى جانب، التدريب على تنسيق العمليات متعددة الجنسيات، ويمكن أن نضيف إلى ذلك، الوقوف إلى أى مدى وصلت قدرات القوات المصرية، من واقع الاحتكاك المباشر مع جيوش كبرى.
التأهيل لمواجهة التحديات
نقطة التوقف الأخرى فى تدريب «النجم الساطع»، تتعلق بحجم التنوع فى النشاط التدريبى المشترك بين القوات المشاركة، ذلك أن تدريب هذا العام، يشارك فيه أكثر من 8 آلاف مقاتل من 14 دولة، ويستهدف تحقيق المواءمة العملياتية بين قوات الدول المشاركة بما يدعم قدرتهم على مجابهة التحديات الأمنية والعسكرية على الصعيدين الإقليمى والدولى.
والواقع أن أنشطة التدريب شملت مجالات مختلفة تتعلق بتحديات أمنية غير تقليدية تواجهها الدول فى العصر الحديث، من بينها مكافحة الإرهاب والحروب غير النظامية، وتأمين الحدود الدولية، وعمليات الأمن السيبرانى، واستخدام المُسَيرات، ومكافحة القناصة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعى فى المجالات العسكرية، وهى تدريبات تجعل القوات المشاركة أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع التحديات المستقبلية.
وبالإضافة إلى تلك الأنشطة، كانت هناك تدريبات نوعية أخرى، على «تخطيط وإدارة وتنفيذ العمليات العسكرية المشتركة، وتخطيط وإدارة وتنفيذ العمليات الجوية المشتركة، وعمليات الأمن البحرى، وتكامل عمليات الدفاع الجوى والصاروخى». ومن المدهش أثناء تنفيذ مشروع «الرماية التكتيكية»، حجم التناغم بين قوات الدول المشاركة فى تنفيذ مثل هذه العمليات فى ميدان عمليات واحد.
أمّا جديد الأنشطة التدريبية للنجم الساطع، فى نسخة هذا العام؛ فكان تنفيذ رماية صاروخية لصاروخ «ستينجر»، إلى جانب تنفيذ قفزة الصداقة بالأعلام فى منطقة الأهرامات، والتدريب العملى على اكتشاف وقياس المصادر المشعة، باستخدام الأجهزة والمعدات الحديثة للحرب الكيميائية، إلى جانب تشكيل أطقم قتال مشتركة من الجانب المصري والأمريكى؛ للعمل بمنظومات الدفاع الجوى والإعاقة الإلكترونية؛ لتنفيذ أعمال الكشف والتتبع والتدمير والإعاقة للطائرات بدون طيار (المُسَيرات)، مع التخطيط للتدريب على مهام الاستجابة للكوارث، من تقديم المساعدات الإنسانية وإجلاء المدنيين.

رسالة طمأنة وسلام
وإذا كنا نتحدث عن أبعاد تتعلق بالقدرة والكفاءة القتالية، فى مناورات النجم الساطع؛ فإنها تبعث فى نفس الوقت برسالة وحدة وطمأنة أيضًا؛ خصوصًا للدول المشاركة فيها، ذلك أنها تعكس قدرًا من المرونة فى البنية العسكرية المصرية، تمكنها من العمل المشترك مع قوات أخرى فى مواجهة أى عدائيات تهدد السلم الإقليمى والعالمى.
وهذا أحد المعانى التي تحدّث عنها القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبدالمجيد صقر، حينما أشار فى حديثه، إلى أن «مشهد القوات فى التدريب، يعكس مدَى الاندماج بين القوات المشاركة»، ولذلك عبَّر عن تطلعه فى أن يواصل التدريب توسعه، بزيادة الأعداد المشاركة فيه؛ لتعميق تبادل الخبرات، والعمل على تطوير القدرات القتالية للقوات.
والواقع أن تدريبات النجم الساطع، جزء من استراتيجية أشمل للقوات المسلحة، تنتهج التوسع فى التدريبات المشتركة؛ لتعزيز تبادل الخبرات ورفع مستوى الكفاءة القتالية، ولعل الشاهد على ذلك، حجم التدريبات المشتركة التي شاركت فيها القوات المسلحة، خلال عام 2024، والتي بلغت 58 تدريبًا، منها 48 تدريبًا داخل الحدود المصرية، و10 أنشطة تدريبية خارج الحدود.
وبلا شك؛ تعزز مثل هذه الأنشطة، من مستوى الاستعداد المستقبلى، وتهيئ القوات المصرية؛ لمواجهة التحديات المقبلة، فى منطقة تواجه اضطرابات وصراعات وتقلبات متعددة، وبالتالى من المهم امتلاك القدرة على الاستجابة السريعة والفعَّالة مع مثل هذه التحديات.
دبلوماسية عسكرية
وإلى جانب الأبعاد العسكرية والسياسية، تحقق تدريبات النجم الساطع، بُعدًا دبلوماسيًا، قائمًا على التواصل المباشر بين القوات المسلحة المصرية، ونظيراتها من عواصم مختلفة، وبالتالى بناء شبكة من العلاقات العسكرية والدبلوماسية، مع الدول المشاركة.
ويتخذ البعد الدبلوماسى، هنا صورًا متعددة، ما بين التعاون على الصعيد الثنائى مع الدول المشاركة، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن حرص القاهرة وواشنطن على انعقاد تلك المناورة، يؤكد على مسار الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وامتداد للتعاون الأمنى والدفاعى المشترك، ويعكس فى نفس الوقت مستوى التنسيق العسكرى بين البلدين، الذي لا يتأثر كثيرًا بتجاذبات وتباينات المواقف السياسية، وحتى مع اختلاف الإدارات السياسية.
وتمتد شبكة الدبلوماسية العسكرية، للدول الأخرى المشاركة (43 دولة)، والمكسب هنا فى الأبعاد الجغرافية والجيوسياسية التي تمثلها تلك الدول، ما بين دول أوروبية مثل المملكة المتحدة وإيطاليا، وفى منطقة شرق المتوسط مثل اليونان، ودول عربية شقيقة، ودول أفريقية، وبالتالى تتيح مشاركاتها قنوات تواصل بشأن قضايا ترتبط بالمصالح المصرية الاستراتيجية، مثل أمن البحر الأحمر، وشرق المتوسط، وغيرهما من التحديات الإقليمية.
وإلى جانب الصعيد الثنائى، تتيح المناورات قنوات التواصل العسكرى، على المستوى الجماعى المتعدد، وبالتالى تفتح المجال للتعاون فى قطاعات أخرى غير عسكرية، ويعزز من دور ومساهمات الدولة المصرية على الصعيد الإقليمى والدولى.

التوازن الاستراتيجى
أمّا البعد الذي يلفت الانتباه، ما يتعلق بدلالات توقيت انعقاد تدريبات «النجم الساطع»، وسط تعقد الأمور فى منطقة الشرق الأوسط؛ خصوصًا بسبب تطورات أزمة قطاع غزة، والمواقف الأمريكية التي تنحاز إلى الممارسات الإسرائيلية؛ بل تدعو إلى إخلاء القطاع من سكانه والسيطرة عليه، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن تقاطعات المصالح الوطنية مع السياسات الإقليمية والدولية للدول المشاركة فى المناورة.
وهو مشهد يجعلنا ننظر لانعقاد «النجم الساطع»، باعتبارها تعكس حجم المرونة والقدرة على التوازن الاستراتيجى فى علاقات مصر الخارجية، وهندسة تعاونها ومصالحها مع القوى الكبرى، بما يحفظ للقرار الوطني استقلاليته، وبصيغة تستطيع فيها القاهرة إقامة علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة وروسيا والصين فى وقت واحد.
وهنا نتوقف أمام شواهد عديدة، منها انعقاد مناورات مصرية مشتركة مع الصين، باسم «نسر الحضارة»، فى شهر أبريل الماضى، أى قبل عدة أشهُر من انعقاد «النجم الساطع»، وإلى جانب ذلك، نجد أن الرئيس عبدالفتاح السيسي، فى اليوم الذي التقى فيه، براد كوبر، قائد القيادة المركزية الأمريكية، وأكد على أهمية مناورات النجم الساطع، باعتبارها امتدادًا للتعاون الأمنى والدفاعى بين البلدين، شارك فى نفس اليوم، فى القمة الاستثنائية الافتراضية لتجمع «بريكس»، وانتقد فيها ازدواجية المعايير فى المجتمع الدولى، وقدم فى نفس الوقت، خارطة لتعزيز التعاون والشراكة مع دول التجمع.
والخلاصة؛ أن ما شهدناه فى تدريبات «النجم الساطع» هذا العام، من قدرة وكفاءة وتعاون، ما هو إلا انعكاس لمستوى التطور لبنيان العسكرية المصرية، الذي ارتكز على تعزيز قدرات المؤسّسة العسكرية، وامتلاك أحدث أنواع الأسلحة، وتنويع مصادر التسليح، إضافة لاستمرار الأنشطة التدريبية المشتركة، وجميعها مسارات جعلت من القوات المسلحة المصرية، «الرقم الصعب» فى دعم قدرات الدولة المصرية فى مواجهة تقلبات واضطرابات إقليم مشتعل.