
ثروت الخرباوى
الإخوان والمصالحة المستحيــــــــلة
السياسة فى جوهرها هى فن الممكن كما يقولون، لكن هناك لحظات يتضح فيها أن الممكن نفسه مستحيل، والمستحيل الذى لم تفهمه جماعة الإخوان هو إمكانية المصالحة بينها وبين الشعب المصرى، إذ نحن أمام جماعة جربتها مصر عبر قرن كامل، وعرفتها دول العالم العربى والإسلامى، ولم تجد منها إلا العنف والمؤامرات والتحالف مع الخارج. واليوم، بينما يطرح الإخوانى محمد عماد مبادرة مصالحة بالتنسيق مع أيمن نور، يظن البعض أن الأمر قد يحمل بارقة أمل لإنهاء أزمة ممتدة.
لكن التحليل الهادئ يكشف أن هذه المبادرة ليست سوى انعكاس لأزمة الجماعة الداخلية، ورغبتها فى تفادى التصنيف الدولى كتنظيم إرهابى، وليس إنقاذا لمصر كما يدّعون. فالدولة المصرية قوية وراسخة، والشعب يعرف تماما حجم التضحيات التى قدمها فى مواجهة الإرهاب، ولا ينتظر من الخارج أو من خصومه ما يمنحه القوة والثبات.
فالمصالحة الحقيقية لمصر لا تكون مع جماعة لم تعترف يوما بالوطن، بل مع المستقبل الذى تبنيه الدولة بشعبها ومؤسساتها.
وحينما ظهرت فى الأيام الأخيرة المبادرة التى طرحها محمد عماد- وهو أحد وجوه الصف الثانى فى جماعة الإخوان- عن مصالحة مع الدولة المصرية، نجد أنها لم تخرج من فراغ، بل جرى الترويج لها من إسطنبول، حيث تلاقت مع اسم أيمن نور، الرجل الذى اعتاد التنقل بين الأدوار والألوان، من زعيم سياسى لأحزاب كرتونية داخل مصر، إلى معارض فى الخارج، ثم إلى مستثمر فى الإعلام يتكسب من تقلباته. ولعل اجتماع هذين الاسمين يكفى ليفضح أن ما يراد هو محاولة سياسية لا تعكس أى مراجعة فكرية أو تحول فى جوهر الجماعة، بل تعكس مأزقا يبحث عن مهرب.
فالتاريخ كله شاهد على أن الإخوان لم يكونوا يوما دعاة سلم أو بناء. منذ أواخر الثلاثينيات، حين أسس حسن البنا «النظام الخاص»، وقتها أخذت الجماعة طريق الاغتيالات والتفجيرات. بداية من اغتيال القاضى أحمد الخازندار بدم بارد، ثم اغتيل رئيس الوزراء النقراشى باشا، بالتوازى مع سلسلة من التفجيرات فى المحال والشركات وأقسام الشرطة، ثم جاءت محاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى حادث المنشية عام 1954 لتكشف بجلاء أن الرصاصة عندهم بديل الصندوق، وأن الولاء للتنظيم عندهم فوق كل ولاء. ولم تكن تلك إلا البداية.
وعلى امتداد العقود التالية ظل العنف جزءًا أصيلًا فى تكوينهم. ومع ثورة يونيو 2013 عاد المشهد فى أوضح صوره، تفجيرات استهدفت الجيش والشرطة، اغتيالات طالت القضاة والضباط، كنائس أُحرقت، وأقسام شرطة دُمرت. ثم خرجت من رحم الجماعة أذرع مسلحة تحمل أسماء جديدة مثل «حسم» و«لواء الثورة»، لكنها لم تحمل فكرا جديدا، إنما أعادت إنتاج إرث واحد، لا يعرف إلا العنف كوسيلة وحيدة للبقاء فى المشهد. حتى علاقاتهم مع تنظيمات أكثر تطرفا فى سيناء وخارج الحدود لم تكن سوى استمرار لنفس الخط.
فالماضى محفوظ فى كتب التاريخ، والحاضر يؤكد أن العنف قاعدة، لا استثناء.
ورغم ذلك، يخرجون بين الحين والآخر برفع شعار «المصالحة». والسؤال: مصالحة مع من؟ مع شعب دفع أثمانا غالية من دماء أبنائه؟ مع دولة حاولوا إسقاط مؤسساتها وتحالفوا مع أعدائها؟ أم مع أنفسهم المأزومة وقد ضاقت عليهم السبل؟ إن المبادرة التى يطرحها محمد عماد، بالتنسيق مع أيمن نور، لا علاقة لها بإنقاذ مصر، وإنما هى محاولة يائسة لإنقاذ التنظيم من ورطة تهدد بقاءه.
ففى الغرب، خصوصا الولايات المتحدة، هناك أصوات متزايدة تدفع نحو تصنيف الجماعة أو أذرعها كتنظيم إرهابى، وهناك مشروعات قوانين تُطرح بهذا الشأن. لذلك فإن المبادرة هى محاولة لتقديم صورة سياسية مخففة أمام الغرب، حتى يظل باب التمويل مفتوحا، وحتى تبقى المنابر الإعلامية متاحة، وحتى لا يُغلق المجال أمام التحرك الدولى باسم المعارضة.
لذلك فإن ما يُسوّقونه ليس مصالحة مع الدولة المصرية، بل مناورة للهروب من مصير التنظيم الإرهابى.
أما الشعب المصرى، فموقفه محسوم. ذلك المجتمع الذى عاش سنوات الإرهاب بعد 2013، ورأى التفجيرات فى شوارعه، وشيّع شهداء من أبنائه فى الجيش والشرطة، لا يمكن أن يُخدع بشعار. والحقيقة أن الجماعة لم تقدم مراجعة فكرية واحدة تتبرأ فيها من إرث سيد قطب، ولا من فكر «السمع والطاعة» الذى يجعل المرشد فوق الوطن. ولم تعتذر عن تحالفاتها مع قوى معادية، ولا عن حملاتها الإعلامية ضد مصر، ولا عن تشويهها لصورة الدولة فى الخارج. فكيف يمكن لشعب بهذا الوعى وهذه التجربة أن يمد يده إلى من لم يغيّر فكره ولا لغته؟ الحل الوحيد لهذه الجماعة هو الحل، أى أن تحل نفسها لتذهب إلى مقابر التاريخ.
أما أيمن نور، فهو نموذج صارخ على التلون السياسى. فهو رجل يقتات على التمويل الخارجى، ويتحرك من قضية إلى أخرى ليبقى فى دائرة الضوء. من حزب الغد، إلى منصات إعلامية تمول من الخارج، إلى مبادرات مصالحة جوفاء. هو لا يسعى لمشروع وطنى، بل إلى موقع جديد يحفظ بقاءه، ويضمن له استمرار التمويلات. ومثله مثل الجماعة، فإن مصلحته فى البقاء، لا فى إنقاذ وطن.
ويبقى السؤال: هل تنجح هذه الخطة فى خداع الداخل أو الخارج؟ الغرب، كما هو معروف، لا يتحرك بدافع أخلاقى، وإنما بدافع مصالحه. قد يمنحهم غطاء مؤقتا، لكنه لن يمنحهم شهادة براءة. وأما فى الداخل، فإن الإجماع الشعبى والوطنى على رفض هذه الجماعة يجعل أى مصالحة بلا معنى. مصر اليوم ليست مصر الأمس، والدولة التى واجهت الإرهاب، وقدمت الشهداء، وأثبتت قدرتها على الصمود، لن تقبل أن تعود إلى نقطة الصفر عبر مبادرة زائفة.
إنّ معركة مصر مع الإخوان لم تكن يوما مجرّد خلاف سياسى عابر، بل كانت صراعا بين مشروع وطنى يسعى إلى البناء، وبين مشروع هدام لا يعرف إلا التمكين لنفسه ولو على أنقاض الدولة. واليوم، وهم يطرحون مبادرات مصالحة بواجهات ملونة، يحاولون أن يلبسوا ثوب الحمل بعد أن مزقت أنيابهم جسد الوطن سنين طويلة. لكن الذاكرة الوطنية لم تُنسَ، والتاريخ لا يُمحى بالمراوغة أو التلاعب.
والمصالحة فى معناها الحقيقى لا تكون بين الدولة والإرهاب، ولا بين الشعب ومن خان دماء أبنائه، بل تكون دائما بين قوى وطنية صادقة اختلفت فى الاجتهاد، لا بين من آمن بالرصاص وفجَّر الكنائس وحاصر المحاكم، ثم عاد يطلب العفو بدعوى المظلومية.