
هاني لبيب
مصر أولا.. كنيسة السيدة العذراء مريم برشيد.. ليست أزمة دينية ..لكنها قانونية
فى تقديرى، أن أزمة كنيسة السيدة العذراء مريم الأثرية برشيد ليست مجرد نزاع عقارى، بل هى اختبار حقيقى للدولة المدنية المصرية، وعلى مدى قدرتها على ترسيخ سيادة القانون والحفاظ على الهوية الوطنية المصرية. أزمة قديمة.. تعود إلى سنة 2006 وعادت تحت الأضواء مرة أخرى فى سنة 2025.
ظلت الكنيسة التي شيدها داود باشا سنة 1817 مسرحاً لصراع غير مسبوق مع رجل دين مسيحى تخلى عن مسؤوليته، ورجل قانون استغل سلطته، وأحكام قضائية تاريخية لم تُنفذ، ومؤسسات رسمية غابت وصمتت. والنتيجة كانت هدمًا تدريجيًا لأثر عمره أكثر من 200 سنة، ورسالة خطيرة عن مدى حماية التراث الدينى المصري.
رشيد والكنيسة
فى تاريخ مصر، تتميز مدينة رشيد بأنها مدينة ذات مكانة وطنية خاصة. إنها المدينة التي قاومت الحملة الفرنسية، ومنها خرج حجر رشيد الذي غير مسار تاريخ علم المصريات. وفى قلبها بنيت كنيسة السيدة العذراء سنة 1817 بوقف من داوود باشا، وتم إطلاق اسم شارع كنيسة الروم على المكان الذي تقع فيه الكنيسة، وقد عرفت أيضاً باسم «دير الأروام».
لم تكن كنيسة السيدة العذراء.. مجرد دار عبادة فحسب، بل مركزاً اجتماعياً واقتصادياً.. يضم داخل أسواره 14 محلاً مؤجراً للمواطنين. وهو ما جعل لها ارتباطًا مباشرًا بالمجتمع.. جعلها تكتسب مكانة متميزة.. لتصبح جزءًا من النسيج المصري.
قرارات متناقضة
فى منتصف العقد الأول من الألفية، اتخذ المطران كيرلس «مطران طائفة الروم الأرثوذكس» بمدينة رشيد قرارين متناقضين: الأول بأن تؤول الكنيسة المذكورة إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. والثانى قيامه ببيع الكنيسة لأحد المستشارين الذي كان يترأس إحدى دوائر محكمة جنايات القاهرة حينذاك بعقد ابتدائى سنة 1990، والذي سجله رسمياً فى سنة 2008. هذا التناقض الذي فجر الأزمة، خاصة أن القانون المصري يمنع بيع الكنائس أو التصرف فيها باعتبارها وقفًا أبديًا.
اليوم الأسود
فى 19 سبتمبر سنة 2008، تحولت الأزمة إلى مواجهة مباشرة حينما قام المستشار المذكور بعملية اقتحام الكنيسة بصحبة عدد من وكلاء النيابة وأكثر من خمسين شخصاً تابعين له. وكانت النتيجة: تدمير أجزاء من السور باستخدام البلدوزرات واللودرات والحفارات. وتحطيم الأيقونات والصلبان التاريخية. وإصابة أشرف فهمى عبد الله «حارس الكنيسة» كما أثبتت محاضر الشرطة.
ونهب المحلات المؤجرة داخل سور محيط الكنيسة. وانتهاك رفات الرهبان المدفونين داخل الكنيسة.
وهو المشهد الذي أثار غضبًا شعبيًا كبيرًا حينذاك. وترتب عليه، خروج مظاهرات للمواطنين المسيحيين المصريين فى شوارع رشيد. بينما تم الاكتفاء حينها بوقف الاعتداء فورًا بشكل مؤقت دون محاسبة جادة. ومن هنا بدأ نزيف السنوات الطويلة.
سنوات النزيف
وخلال الفترة بين سنة 2008 وسنة 2016، تداولت القضية داخل أروقة المحاكم. وخلال كل هذه السنوات، كان المستشار المذكور ينفذ عمليات هدم جزئى منظم ومتكرر كل فترة.. مثلما حدث سنة 2012 حينما جرت محاولة جديدة لهدم المبانى الجانبية باستخدام البلدوزرات، وتدخل الأجهزة الأمنية لمنع استكمال الجريمة، فيتراجع.. ليعود مرة أخرى. ومع ذلك، لم تواجه تلك التجاوزات بأى عقوبة رادعة.
الغريب، أن وزارة الآثار التزمت الصمت المريب، رغم أن الكنيسة مسجلة كمبنى أثرى منذ القرن التاسع عشر. والمفارقة أن الوزارة تتحرك سريعًا فى مثل تلك الحالات، غير أنها تركت ما يحدث فى رشيد من هدم كنيسة عمرها 200 سنة على مرأى ومسمع من الجميع.
حكم وطني
بعد حوالى ثمانى سنوات من النزاع القضائى، أصدرت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية (الدائرة الأولى بالبحيرة) برئاسة المستشار د. محمد عبد الوهاب خفاجى حكمًا حاسمًا.. يمثل علامة فارقة. ومن أبرز ما نص عليه الحكم:
1 - لا يجوز بيع أو شراء الكنائس بأى حال من الأحوال.
2 - الكنائس وقف أبدى، وحمايتها التزام دستورى.
3 - محاولة تغيير صفتها إلى أرض فضاء باطل قانونًا.
4 - الدولة مسؤولة عن حماية دور العبادة للمسلمين والمسيحيين واليهود.
وجاء ضمن حيثيات الحكم: (من يعتدى على الكنائس.. يعتدى على حرية العقيدة، والحرية الدينية أساس وحدة الأمة). وهو ما جعلنى أكتب.. أن هذا الحكم أقر نهاية الأزمة. لكن مع مرور الوقت.. تبين أنه ظل قيد التنفيذ، وهو ما فتح الباب أمام اعتداءات لاحقة حتى وصلنا لما حدث منذ عدة أيام.
حكم قيد التنفيذ ووثائق كاشفة
وفى سنة 2019، أصدرت محكمة جنح قسم الدقى فى القضية رقم 20468 لسنة 2019 حكمًا ضد المستشار المذكور ومحاميه، وإلزامهما بدفع تعويض مدنى قدره 40 ألف جنيه لصالح القس لوقا أسعد بعد ثبوت سبه وازدرائه للدين المسيحى علنًا. لكن الواضح أن العقوبة المالية لم تكن رادعة، إذ لم يتم اتخاذ أى إجراء قانونى أو إداري ضد المستشار الذي يتعارض الحكم السابق مع عمله ومسؤوليته كقاضى فى تحقيق العدالة.
خلال هذه الفترة من سنة 2020 و2023، قام القس لوقا أسعد (كاهن الكنيسة) بنشر وثائق رسمية تؤكد أن الكنيسة وقف لداوود باشا. وأن محافظة البحيرة أصدرت موافقة على ضم الكنيسة إلى مجلد التراث بعد التأكد من مطابقتها لكل الاشتراطات والمعايير المعمول بها لتسجيل المبانى التراثية. وأن عقود البيع نفسها وصفتها بأنها «دار عبادة» بها برج كنيسة.
هذه الوثائق.. أثبتت أن هناك محاولات متعمدة لطمس الحقيقة عبر تقديم مستندات مضللة وغير حقيقية أو قانونية.. للتشكيك فى صفة الكنيسة عن المبنى المراد هدمه سواء برفع تلك الصفة عن الموقع، أو بالادعاء بأنها أرض فضاء.
الاعتداء الأخير
مؤخرًا، ومع نهاية شهر أغسطس 2025، تم التعدى على الكنيسة بالجرافات لهدم ما تبقى من الكنيسة. وقد انتشرت الصور والفيديوهات التي توثق ما حدث على السوشيال ميديا. وكشفت سقوط جدران تاريخية مسجلة تعود إلى سنة 1817.
السؤال المنطقى هنا: أين وزارة الآثار؟ وأين الأجهزة التنفيذية؟ وكيف نترك أثرًا بهذا التاريخ ونعرضه للهدم رغم وجود حكم قضائى واضح؟ لقد كان كل يوم تأخير فى تنفيذ هذا الحكم بمثابة فرصة جديدة لتكرار الاعتداء، والمزيد من الاستهانة بالعدالة القضائية. وللأسف، فإن الإجابة المنطقية والصادمة أيضًا: أنه غياب كامل لبعض المؤسسات الحكومية والأجهزة التنفيذية، وكأن قرار الهدم صدر خارج سياق المسؤولية والسيطرة والسيادة الحكومية.
قانونيًا.. هناك تقاعس حكومى عن تنفيذ الحكم الصادر سنة 2016، أن تكرار مثل تلك النوعية من الاعتداءات، يضعف هيبة الدولة أمام مواطنيها ويستغل لتشويه صورتها دوليًا. ووطنيًا.. فإن السماح بهدم كنيسة أثرية يعنى ضرب مفهوم التراث الدينى، الذي هو أساس الهوية الوطنية المصرية.
إدارة الأزمات الطائفية
الواقع السياسى يؤكد أن أحد أهم مكتسبات ثورة 30 يونيو ما رسخه الرئيس عبدالفتاح السيسي من تفعيل منظومة المواطنة على أرض الواقع، وتحويلها لممارسات يومية، وليست مجرد نص فى الدستور. وهو الأمر الذي حاول البعض مواجهته وعرقلته بكل قوة. ولذا فإن الدروس المستفادة من أزمة كنيسة رشيد، تفرض علينا أهمية إعلان الحقيقة بشكل معلوماتى وبشفافية. وأهمية التحرك السريع للردع القانونى الفورى. وأهمية مشاركة المثقفين والمفكرين والمجتمع المدنى فى التفاعل مع مثل تلك الأزمات لقطع الطريق على الشائعات.
إن الصمت والتأجيل يؤديان إلى تأجيج الأزمات، ومضاعفة التكلفة الوطنية على المجتمع والدولة.
حلول سريعة
أعتقد أن الحلول السريعة تكمن فى عدة خطوات متتابعة لتأكيد أحقية الكنيسة فى صفتها الأثرية والتاريخية، هى:
1 - التنفيذ الفورى الحاسم للحكم القضائى الصادر سنة 2016.
2 - إصدار قانون جديد يجرم بيع أو محاولة بيع دور العبادة.
3 - تسجيل الكنيسة رسميًا كأثر، وترميمها على نفقة الدولة.
4 - تشكيل لجنة وطنية لبحث مشكلة حماية دور العبادة المهجورة.
5 - تحويل الكنيسة المذكورة إلى مركز ثقافى تراثى يعكس التنوع والتعددية المصرية.
نقطة ومن أول السطر
من السذاجة أن نتعامل مع أزمة كنيسة رشيد باعتبارها أزمة طائفية ودينية.. لأنها فى الحقيقة أزمة تعبر عما يتم استغلاله وتوظيفه واستخدامه من ثغرات قانونية.. تفتح الباب لحالة من الفوضى التي تهدد الهوية الوطنية المصرية فى شكل نعرات طائفية وأزمات وتوترات دينية.
من يعتدى على أى كنيسة الآن، قد يعتدى على أى مسجد غدًا، ومن يستهين بمبنى أثرى فى شكل كنيسة.. عمره أكثر من 200 سنة.. قد يهدم تراثًا عمره آلاف السنوات.
الاختبار: الخيار الوطني هو انتصار العدالة وسيادة القانون، وفى كل الأحوال.. لن نسمح بالفوضى والطائفية.