الجمعة 26 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
«نهر النيل» لا يعرف الأمر الواقع

«نهر النيل» لا يعرف الأمر الواقع

فى لحظة حملت من الرمزية أكثر مما حملت من المياه، اختارت إثيوبيا أن تحتفل رسميًا بافتتاح سد النهضة وتشغيله، كأنها تُعلن انتصارًا على نهر لم يكن يومًا ساحة للصراع بقدر ما كان جسراً للتواصل بين الشعوب. لكن وراء مظاهر الاحتفال تختبئ سياسة الأمر الواقع، تلك التي تراهن على فرض حقائق مادية تتجاوز روح القانون وأحكامه، وتتنكر للاتفاقيات التاريخية التي جعلت من النيل شريان حياة لا يُحتكَر ولا يُختطَف.



لقد أرادت أديس أبابا أن تحتفل أمام العالم بإنجاز مادى، لكنها فى حقيقة الأمر تُكرّس لجريمة سياسية؛ اغتصاب حق تاريخى وقانونى لدولتىّ المصب، مصر والسودان، فى المياه التي لا تُوهَب ولا تُستولى عليها بقرارات أحادية.

مصر لم تقف مكتوفة الأيدى. ففى ذات اليوم الذي نصبت فيه إثيوبيا خيم الاحتفال، وجّهت القاهرة خطابًا صارمًا إلى مجلس الأمن، مؤكدة أن ما يجرى ليس خلافًا عابرًا على مشروع تنموى؛ بل تهديد مباشر للأمن القومى المصري، ومساس بشريان حياة لا يملك أحد أن يقطعه أو يتحكم فى مجراه. النيل بالنسبة لمصر ليس موردًا يُقاس بالأمتار المكعبة؛ بل مسألة بقاء.

إن سياسة الأمر الواقع التي تمارسها إثيوبيا ليست سوى محاولة بائسة لتغيير معادلة الجغرافيا والتاريخ. فالنهر الذي ارتوى منه المصريون منذ آلاف السنين لا يعرف منطق الابتزاز، ولا يقبل أن يتحول إلى أداة ضغط سياسى. وكل قطرة تحاول أديس أبابا أن تحتجزها قسرًا؛ هى فى عُرف القانون الدولى سرقة موصوفة، وفى عرف المصريين إعلان حرب على حق الحياة ذاته.

مصر أعلنتها بوضوح: لن تُفرط فى حقوقها المائية، ولن تعترف بأى إجراء أحادى يخالف القانون الدولى. وإذا كان خطابها إلى مجلس الأمن تأكيدًا على التمسك بالشرعية الدولية؛ فإنه أيضًا إنذار صريح بأن الصبر له حدود، وأن الدفاع عن النيل يرقى إلى الدفاع عن الوطن نفسه. القاهرة ترفض أن يُختزَل نهر النيل فى معادلة إثيوبية ضيقة، وتصر على أنه نهر دولى تحكمه اتفاقيات ملزمة، لا نزوات سياسية عابرة.

لقد حاولت مصر لعقدٍ كامل أن تسلك مسارات التفاوض، وأن تقدم المبادرات تلو المبادرات؛ لكن إثيوبيا لم ترَ فى الحوار إلا فرصة لكسب الوقت وفرض الأمر الواقع. والنتيجة أن العالم بات أمام مشهد خطير؛ دولة منبع تتصرف وكأنها وصىّ على النهر، بينما تتعرض دولة مصب إلى تهديد وجودى لا يمكن السكوت عليه.

إن لجوء مصر إلى مجلس الأمن ليس طلبًا للوساطة بقدر ما هو كشفٌ للحقائق، وتعرية للانتهاك الإثيوبى أمام المجتمع الدولى. وهى رسالة واضحة أن السكوت عن هذا السلوك يمثل شراكة فى جريمة تهدد الاستقرار الإقليمى، وتفتح الباب أمام صراعات مائية قد تمتد آثارها إلى ما هو أبعد من حوض النيل.

النيل بالنسبة لمصر ليس مجرد نهر؛ بل كتاب وجود كُتِبَ منذ فجر التاريخ. وكل من يتوهم أن بإمكانه إعادة كتابة هذا الكتاب منفردًا؛ إنما يعبث بحدود الحياة ذاتها. ومن هنا؛ فإن موقف مصر لا يُختزل فى كلمات دبلوماسية؛ بل هو تعهد تاريخى أمام شعبها وأمام العالم. لن نسمح بأن يُختطف النيل، ولن نتهاون فى الدفاع عن حقوقنا المائية مَهما كانت التضحيات.

لقد اختارت أديس أبابا طريق المكابرة والاحتفال الزائف، أمّا القاهرة فقد اختارت طريق القانون والتحذير. واليوم، يُمتحَن ضمير المجتمع الدولى، هل ينحاز إلى العدالة ويكبح جماح المعتدى، أم يتواطأ بالصمت مع من يحاولون تحويل الماء إلى سلاح؟

 

النيل لا يعرف الأمر الواقع؛ بل يعرف فقط الحق والعدل. ومصر، وهى تواجه التحدى، تُعلن أن الدفاع عن النهر الخالد ليس خيارًا سياسيًا؛ بل قدر وجودى لا رجعة فيه.