
هناء فتحى
عكس الاتجاه
حارس السلالة
وأنت تدق على الباب الخشبى العتيق المنقوش بالتاريخ والجغرافيا وحكايا الذين قتلهم حارس البوابة، حارس السلالة، الرواية البديعة، سينفتح لك الباب على مصراعيه فهو ليس موصدًا، فالحارس ميتٌ ومشنوق فى ليلة عيد أضحى بعيد، ولسوف يشكل موته وليلة دفنه أرضية وسقفًا وتفاصيل الأحداث التى ستمر حولها رواية «حمزة الحسن» الروائى العراقى الكبير المقيم فى النرويج منذ ثلاثين عامًا.
صدام حسين، حارس السلالة هو أحد شخوص العمل ومحور أحداثه، والشخوص بالرواية قليلة جدًا، أحدهم كاتب الرواية نفسه «حمزة الحسن» وهو صانعُ بعض مهم من أحداثها أيام حكم صدام، كان أحد الجنود الذين شاركوا حروبها وسجونها العبثية المريرة منذ 2003 وحتى تهريبه من سجن مع صديق ورفيق زنزانته «مهدى أصفهانى»- كان الصديق عدوه المحارب ضده فى الجبهة الأخرى مع الطرف الآخر فى الحروب المتعددة التى صنعها حارس السلالة، كانا الصديقان فيما بعد ضمن جيشين يقتتلان- تم إخراجهما بواسطة الأمم المتحدة إلى النرويج، وهكذا سوف تنتقل الشخوص- الحقيقية الروائية ما بين العراق والنرويج ذهابًا وإيابًا مع الذكريات، مع الأحداث المهمة ليس فى العراق وحدها بل فى كثير من دول الشرق الأوسط، لكننا مع سيارة نقل جثة صدام حسين من المشرحة إلى المقبرة.. وخلال صفحات الرواية -239 صفحة- سنتابع الخيط الدموى الذى يربط الشخوص بالمكان بالحبل السرى لحارس السلالة (لو أُجيز التعبير)، سنتابع رحلة أبطال الرواية من جبهات حروب صدام حسين إلى المنفى، وفى المنفى جثة صدام ستلاحقهم، ستؤرقهم هناك، لن تتركهم حتى فى منامهم يهنأون، ولا حتى عشيقته الأثيرة المُقرّبة حتى ساعة إعدامه سوف تترك البوابة.
الرواية البديعة الصعبة فى تركيبتها والسهلة فى تفكيكها ستكون أنت أيضًا كقارئ أحد شخوصها الهامشيين، أو أحد المشاهدين الجالسين فى مقاعد المتفرجين والمتفاعلين مع أبطال النص المسرحى (حسب نظرية التمسرُح) ولِمَ لا! وأبطالها حقيقيون من لحم ودم وخيال ومجازات! لكن لغة الكتابة وتكنيكها وبناء الشخوص والأحداث نقلتها من مربع (السيرة) إلى إبداع (الرواية) بلا جدال.
الكتابة بديعة ومرهقة ومخاتلة لأن الروائى الكبير يقول لك (ياللا نلعب رواية) أو سأعلمك كيف تكتب رواية لن يستطيع أحد تقليدها أو سرقة فكرتها، الرواية تصنع تناصًا مذهلاً مع قصة (الصرخة) لـ «محمد خضير»، القصة القصيرة المنشورة عام 1972، «حمزة الحسن (نفسه روائى) حكّاء ماهر. استعان بقصة «خضير» داخل نسيج روايته وأعاد صياغة رسومات صندوق سيارة السيرك التى تتلون بالطيور والحيوانات وجعلها تنطق وتتحرك، على أحدٍ جوانبها لوحة «هنرى روسو» (ساحرة الأفاعى) وأضاف المؤلف لها أحداثًا وحذف أخرى، وقاربَ رسومات سيارتها التى تتماهى مع سيارة نقل جثة صدام حسين فى روايته (حارس السلالة) وأكمل جُملاً فى القصة القصيرة وشرح عباراتها وتحدث مع طيورها وأسُودها وقرودها وليلها ونهارها وطريقها الوعر فى فجر الليالى العراقية. وأخذ كل ذلك ليُخَدّمَ على روايته كصانع حليةٍ من الذهب والجواهر، حتى إن المؤلف استعان بصفحات من روايته (الأعزل) وضفّرها فى نسيج (حارس السلالة).
و أنت تجتاز بوابة (حارس السلالة) ستسير خلف تيمة (عربة نقل جثة صدام حسين) من المشنقة إلى القبر، التيمة المتكررة والتى ستطاردك دون أن تتوقع ستتبدّى لك بين صفحة فى الرواية وأخرى ،مارًا بأحداث العراق التى غيّرت وجه المنطقة، كل الأحداث فى الرواية تبعد عن، وتهرب من، وتعود إلى، سيارة الجثة، كل الشخوص فى الرواية تمزقوا أشلاءً أسفل عَجلاتها الثقيلة.
وأنت تجتاز بوابة (حارس السلالة) حيث ستبدأ رحلتك من ليلة شنق صدام حسين ستروق لك الفكرة الطازجة المصنوعة بمهارة بمزيج من لغة الشعر المشحونة بالمجازات ومزيج من اللوحات العالمية لمشاهير الرسامين وأبيات كبار الشعراء وبأجزاء من أعمال أدبية أخرى كما فعل مع قصة (الصرخة)، ولسوف تستمر المقاربة بين أحداث الرواية وبين أحداث القصة حتى انتهاء الرواية القصة والمقاربة مع باقى الفنون والتى لها علاقة وثيقة بالسرد الروائى، الرواية مُزيّنة بفنون متعددة- وليست مجرد سرد تقريرى تتخلله شخوص، وهى أيضًا لا تشبه ما خبرناه من قبل وقرأناه عن (فنون الرواية)- لأن العناصر داخل الرواية التى سوف يمزجها- كصانع الخبز والكعك الطازج- «حمزة الحسن» ويضيف إلى أحداثها أحداثا وتصاوير، فى (تحدّى كتابة مع القارئ ومع نفسه ومع مؤلفى هذه الأعمال الفنية والأدبية) بحيث تمضى كل الأحداث فى مياه رائقة كالفرات، سويًا بسكون وهدوء وتآلف و(بحرفية) ممزوجة بسلاسة وجمال.
لماذا كان العنوان (حارس السلالة) وماذا يعنى؟
وأنقل عن «حمزة الحسن» نصًا: (صدام حسين ليس فردًا بل حارس سلالة طغاة عبر التاريخ، وهو عقلية ذهنية وطريقة تفكير: المجتمع والتاريخ والعقلية والرحم الذى أنتجه سينتج غيره.
فى الصفحة الأخيرة من الرواية حيث إن للسيارة أن تنقل صدام إلى المقبرة يكتب المؤلف: لكنه الآن فى الطريق إلى المقبرة، حصن الأم كى ينهى عذاب الخوف وبدا الصعود إلى السماء على جناح نسر سماوى كما كان يتوقع يومًا، صعد إلى المشنقة ونقل تابوته فى سيارة بيضاء صغيرة مخصصة لنقل الأغنام، والسلع العالية والخضروات وكان قبل ساعات قد حلق وشطب لحيته واستحم بماء بارد لأول مرة وأصيب برشح لكنه حين سُئل برغبته فى دواء أجاب بكلمة واحدة: لا)..
ينهى حمزة الحسن روايته: سمعت صوتًا من غرفة الإعدام بعد الضغط على زر الحبل فى شريط الفيلم يقول: (نزّل نزّل نزّل) قلتُ: هل كنتَ تتصوره سيخرج؟
-دعنا نخرج
-الى أين؟