الإثنين 4 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

كيف عرفته وتعلقت به وخرجت من أزمتى بسببه:

أنا مش كافر.. أنا أحب زياد

توقفتُ كثيرًا قبل أن أشرع فى كتابة هذا المقال. وكلما حاولت العثور على زاوية للحديث عن رحيل «زياد الرحبانى»، شعرت بأن الكلمات تخذلنى، وأن ما أكتبه لا يرقى إلى قامة هذا الفنان، ولا يليق بمكانته.



ربما لأنه الفنان الوحيد الذى، إذا استمعتَ إلى أعماله، ستجد أن كل ما كتبته سابقًا فى هذه المجلة يتجسد هناك: فى نغمة مفاجئة، أو جملة مسرودة بنبرة ساخرة، أو سؤال فلسفى يمرّ عابرًا وسط مقطوعة موسيقية.

 

هو فنان يعبّر بصدق عن واقعه، لا يخشى التورط فى السياسة أو الدين، ويشتبك مع الجميع بجرأة وسخرية، دون أن يتخلى لحظة عن حسه الجمالى البديع.

 

الرحلة الأولى:

من «ما تفل» إلى ما لا يُقال

لكن المدخل الأصدق إلى هذا النص ليس ما مثّله «زياد» فنيًا، بل كيف عرفته أنا؟ كيف تسلّل إلى وجداني؟ وكيف صار جزءًا من صوتى الداخلى؟

أعرف، بالطبع، أنه ابن الأيقونة «فيروز». وأعرف أنه من أبرز صنّاع الموسيقى العربية الحديثة. لكن الحقيقة أن هذا لم يكن سبب تعلقى به.

منذ أربع سنوات تقريبًا، دعانى الفنان «محمد محسن»، هذا المطرب الشاب المثقف والعاشق لـ«زياد»، وكنت بصحبة «د. يحيى يوسف»، الموزّع الموسيقى الموهوب الذى ترك الطب حبًا فى النغم. وأصرّ «يحيى» على أن نستمع معًا إلى ألبوم (هدوء نسبي)، الصادر عام 1985، أى قبل مولدى بخمس سنوات. وظل يعيد تشغيل أغنية (ما تفل) مرة بعد أخرى، كأنه يطلب منى أن أنصت لا بحواسى، بل بأعماقى.

قبلها كنت أسمع «زياد» من بعيد، لا أقف عنده. لكن حين استمعت لـ(هدوء نسبي) وجدتنى مصغيًا بكلى، كأن شيئًا ما يُعاد ترتيبه بداخلى.

الموسيقى ليست عزفًا بل موقفا

ما بهرنى لم يكن فقط الكلمة أو اللحن، بل قدرته على تطويع الآلات كأنها شخصيات فى مسرحية. لم يعتمد على الكلمة وحدها، كما يفعل معظم فنانى هذا الشرق المتعب سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

«زياد» كان يكتب موسيقاه كما يكتب مقاله. يغنى كأنه يهمس لك وحدك. يتحدث إليك من مقعده فى المقهى، لا من برج عاجى. وكما قال فى (بصراحة): «ما فى أحلى من الصراحة».

 

زياد كمُفسر للوجع العربى

ولهذا، فإن أغانيه التى اشتبك فيها مع واقعنا العربى، لا تزال تنبض بالحياة. وإذا كنت أكتب هذه الكلمات بعد رحيله بساعات، فإن غزة تمر فى الوقت نفسه بمجاعة قاسية. وحين ننظر إلى أحوال شعبنا الفلسطينى، نرى «الجوع» يحاصرهم، «الفقر» يُطوقهم، و«الذل» يُطاردهم.

ونعود إلى أغنيته (أنا مش كافر)، فنجدها كأنها تُكتب الآن، لا قبل أربعين عامًا:

«أنا مش كافر، بس الجوع كافر... المرض كافر... الفقر كافر... والذلّ كافر».

 

الطائفية: جرس الإنذار الذى لم يُسمَع

وفى نفس الألبوم، تظهر «المقاومة الوطنية» فى جزءين، حيث يلمح «زياد»، مبكرًا، إلى مأزق جماعات تقاتل باسم الدين لا باسم الوطن. كأنه يتحدث عن الحوثى فى اليمن، حماس فى غزة، حزب الله فى لبنان، ومن على شاكلتهم. جماعات لا ترى فى الوطن مساحة مشتركة، بل رقعة ضيقة تُفصّل على مقاس الطائفة، لا الوطن بأكمله بمختلف طبقاته.

وإذا ألقينا نظرة على سوريا اليوم، وما يشتعل فيها من صراعات طائفية، سندرك أن أغنيته (يا زمان الطائفية) ليست نشيدًا ماضويًا، بل صفارة إنذار ما زالت ترن.

ربما لو كانت أيدينا على الهوية، لا على الطائفة، لبقينا شعوبًا متماسكة لا قبائل متناحرة، كما قال: «درزى، بوذى، أو كاثوليك».

من سيد درويش إلى زياد..

السلسلة لا تنقطع

وإن كنت يا صديقى القارئ مهتمًا بشؤون هذه الأمة، فاستمع إلى «زياد» وهو يعيد تقديم رائعة «سيد درويش»، (آهُو ده اللى صار). والتى أتصور أنه اختارها لأنه يؤمن بما قيل فيها:

«إيدك فى إيدى وقوم نجاهد... وإحنا نبقى الكل واحد... والأيادى تصير قوية».

زياد كعزاء شخصى

قد تظن، بعد كل ما سردت، أن علاقتى بـ«زياد» هى علاقة موقف سياسى.

أبدًا.

عرفته بالصدفة كما قلت سابقًا. لكن بعدها بأشهر قليلة، كنت قد وقعت فى حب كبير، انتهى بزواج قصير، ثم بطلاق أسرع. كنت فى دوامة لا تطاق، وتوقفت عن الكتابة، بل عن التفكير.

وفى خضمّ هذا الخراب الشخصى، كنت ألوذ بأغانى «زياد» ذات الإيقاع الجاز والـBossa nova، مثل: (ما منيحة الرسالة، وصباح ومسا، ويا مريم، وما بتفيد). لكن الأقرب إلى قلبى حينها كانت (شو بخاف)، لأنى كنت أخاف فعلًا من الفقد، والفراق.

لكن من وحى أغنياته، تعلمت منه أن الخوف لا يُواجه بالهروب، بل بالاصطدام.

واجهت، وتعافيت، وخرجت من التجربة كما خرج «زياد» من كل نكسة: أكثر صراحة، أكثر سخرية، وأكثر إخلاصًا لنفسه. رحمك الله يا زياد.

كنت أكبر من موسيقى، وأعمق من مقال.

وستبقى صوتًا لا يشيخ.