الأربعاء 23 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

حكاية أسير... فارس العصار أحد قادة كتائب شهداء الأقصى

الأسرى عظماء ينكسر أمامهم اليأس والألم "الحلقة الأخيرة"

فارس حقيقى ترك بندقيته وحمل صموده وإيمانه داخل زنازين الاحتلال التى قضى فيها نصف عمره، 22 عامًا مليئة بقصص تروى حكايات الصبر، والتحدى، والأمل، وكل زنزانة حُبس فيها كانت تُضيف إلى قصته فصولًا من البطولة، وكلماته ترسل رسالة عميقة، وعبرة خالدة، وشهادة حيّة على قوة الروح الإنسانية فى مواجهة أعتى سجان جبان فى جحيم سجون الاحتلال، وهو ما جعله يتمنى أن تحول حكايته لفيلم سينمائى. 



 

كيف كانت طفولتك فى ظل الاحتلال؟

- طفولتى كانت مثل أى طفل فلسطينى، وتربيت بين عائلة بسيطة فى أزقة مخيمنا، ونشأت فى قطاع غزة، واستيقظت على الانتفاضة الأولى، وكنت لا أعلم شيئًا ولا أعرف ماهية المحتل، وتعلمت بعدها أن هذا المحتل غاصب وغاشم ولا يرحم، ومن هنا انطلق الانتماء فى عقلى بأن هذا الاحتلال ليس ضيفًا على أرضنا، بل قاتلا ولا يرحم طفلًا أو امرأة أو حتى عجوزًا، وكانت لعبتنا المفضلة هى ضرب جنود الاحتلال والمستوطنين بالحجارة.

متى فكرت فى الانضمام إلى مقاومة المحتل؟

- عندما بلغت من العمر 12 عامًا، بدأت فى الالتحاق بالمسيرات الشعبية حتى نحمى أرضنا، وفى هذا العمر تمت إصابتى بـ4 طلقات، ولكن الحمد لله لم أُقتل، وهو ما دفعنى لمقاومة المحتل الجبان الذى يقتل أبناء شعبى، ومن ثم أمضيتُ مسيرتى حتى بلغت من العمر 19 عامًا ثم التحقت بصفوف الأجهزة الأمنية، حتى دخلت الانتفاضة الثانية وكنتُ أُعايش الرئيس الراحل ياسر عرفات أبو عمار.. وكنتُ عندما أراه يُناشد العالم بإنقاذ الشعب الفلسطينى ويبكى على جرائم الاحتلال بحق أبناء الوطن، قررت الالتحاق بكتائب شهداء الأقصى حتى أساعد فى حماية شعبى واسترداد كرامته، ومن ثم بدأت العمل فى الجناح العسكرى لكتائب شهداء الأقصى.

كيف تم القبض عليك ودخول السجن؟

- بعد أن تمت مطاردتى من قِبل الاحتلال فى كل مكان ونجوت من محاولتى اغتيال، تم اعتقالى وحُكِم علىّ بالسجن مدى الحياة، وكان اليوم الأول داخل السجن من أصعب الأيام فى حياتى، والصعوبة ليست فى السجان ولا فى إغلاق باب السجن، ولكن فى أننى لم أُكمل الدفاع عن كرامة شعبى. 

كيف كانت المعاناة فى السجن مع غياب الأهل والأصدقاء؟

- الشوق للأهل لم أشعر به كثيرا لأننى تغربت عنهم منذ الصغر عندما التحقت بصفوف الأجهزة الأمنية فى مدينة رام الله، والوحدة التى مررتُ بها علمتنى أن هذه المشاعر تُضعفك أمام العدوان الغاشم. 

ولم يكن لى أى سند داخل السجن، وعندما انتقلت من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية تعلمت أن لا سند لك سوى نفسك. 

متى بكيت أثناء سنوات الأسر وأصعب رسالة وصلتك؟

 - بكيت عندما استشهد صائب عريقات لأنه كان الرجل العظيم فى الدفاع عن قضيتنا، والشخص الثانى شادى السعايدة، ابن قضيتى الذى أُعدم داخل السجن، وأصعب رسالة تلقيتها كانت من حبيبتى الأولى والأخيرة عندما قالت لى لن أراك مُجددا، لأنك لن ترى النور مرة أخرى، وهنا وقفت مع نفسى نصف دقيقة ومسحتُ هذه الشخصية من كل خيوط أفكارى، وأثناء التدريب الذى تلقيته داخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعلمت كيف أحافظ على توازنى العقلى والنفسى بجميع أنواع الطرق الصعبة والجيدة، وهكذا أمضيت 22 عامًا داخل السجون، كأنى أستجم على شاطئ البحر.

ما هى طقوسك الخاصة خلال سنوات السجن؟

- كنت أمارس الرياضة يوميا صباحا وأمارس القراءة، وأتواجد فى ساحة السجن وأتفاعل مع الزملاء فى النقاش وتحليل آخر مستجدات الأخبار عربيًا وإقليميا، وحتى من قلب أوروبا وأمريكا.

كيف كنت تتابع أخبار الأسرة والأهل؟

 - كنت لا أهتم كثيرا لأننى كنت مؤمنا بالله عز وجل، وكنت أتقبل قضاء الله عندما كان يصيبهم ابتلاء، حتى عندما تلقيت خبر وفاة والدى لم أتأثر، لأن إيمانى بربى كان عميقًا جدًا.

صف لنا معاناة الأسرة أثناء الزيارة؟

الحقيقة التى يعلمها جميع الأسرى، هى أن معاناة الزيارة لا توصف، لأن الأهل يأتون بِمشقة، كانوا يخرجون من البيوت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، حتى يصلوا عندنا الساعة العاشرة صباحًا، ليجلسوا معنا 45 دقيقة من خلف زجاج مُحصن، ثم يغادرون ويصلوا بيوتهم فى العاشرة مساء، لم أفرح بالزيارة، كنت أزداد قلقًا عليهم عند عودتهم إلى البيت.

كيف استفدت من تجربة التعليم داخل الأَسْر؟

تجربة التعليم فى الأسر كانت مفيدة جدا، لأننى كنت أفتقر للمؤهل العلمى، ولكننى داخل السجن حصلت على تعليمى الجامعى ثم الدراسات العليا، وأنا اليوم على مشارف إنجاز الدكتوراه.

هل قابلت أحدًا من القيادات الفلسطينية داخل الأسر؟

طبعا تشرفت بلقاء العديد من القيادات الفلسطينية، منهم الأخ الدكتور مروان البرغوثى، والقائد الراحل يحيى السنوار، والمناضل الراحل أحمد سعدات، وعندما كنت أرى هؤلاء العمالقة كان يموت اليأس فى داخلى، وأعلم أن الوطن لن ينسى تضحيات هؤلاء، وأنهم يؤدون دورهم تجاه الوطن، وهم داخل الزنازين المظلمة بقسوة وجبن السجان. 

من الأشخاص الذين تمنيت وجودهم لحظة الإفراج؟

والدى وحبيبتى، هما الشخصان اللذان تمنيت أن يكونا بجانبى لحظة الإفراج، لكن والدى مات وأنا فى السجن، وحبيبتى انتهت عندما قالت لى بعد الاعتقال أننى لن أرى النور مرة أخرى.

ماذا تمثل لك المرأة الفلسطينية؟

 المرأة الفلسطينية لا يكفينى أى كتابة عنها فى كل كتب العالم أجمع، لكن سأختصر القول بأنه لو خُلِق بعد سيدتنا مريم نساء فى الأرض، فهى المرأة الفلسطينية. 

هل تجربة السجن أثرت على شخصيتك؟

 أنا شخصيتى لم تتأثر بطبيعة الحياة ولا بمؤثراتها ولا بالعالم الافتراضى، لأننى عندما انتقلت من الحياة المدنية إلى العسكرية تعلمت أن كل شىء إيجابى سأخلقه أنا وليست المؤثرات البشرية والخُلقية، وخرجت من داخل السجن أكثر حِكمة، تعلمت فى السجن بأن لا أُسامح ولن أغفر لأى شخصٍ تركنى فى محنتى.

- ما زلت أتمنى أن أحولها إلى فيلم وليس كتابا، وإذا عرض على الفيلم سأقوم بتمثيله، وأنا واثق من أننى سأُتقِن الدور، لأن مسيرة حياتى لم تقتصر على الجانب العسكرى وإنما كان فيها علاقة حب، وما زلت أتمنى أن يتبنى أحد فكرة الفيلم، ومن أجمل اللحظات إنسانية التى أتمنى ظهورها على الشاشة هى عندما نسمع أخبارًا سارة عن زملاء فى الأسر رزقهم الله بأطفال، أو إخوة آخرين يخطبون، هذه كانت أسعد لحظات.

كيف ترى الموقف المصرى والعربى تجاة قضية فلسطين؟

- أنا أعرف أن مصر الشقيقة هى الحاضنة الوحيدة لقضية فلسطين، وما زالت تحارب لنصرة القضية الفلسطينية، ورسالتى إلى الشعب المصرى قيادة وشعبا أن المجد والخلود يركع لكم أيها الشعب العظيم، وأرى أن المواقف العربية ضعيفة، ولكن أتمنى من الله عز وجل أن يحمى كل الشعوب الإسلامية والعربية.

ما رسالتك للأسرى؟

- الأسرى لا ينتظرون رسائل لتقويتهم أو التهوين عنهم، لأنهم دائما هم الأقوياء والعظماء، وينكسر أمامهم كل اليأس والألم، ويبقون على أمل أن الأبواب ستفتح ذات يوم، مثلما فتحت علينا بعد 22 عامًا.

كيف رأيت غزة بعد الحرية؟

- عندما رأيت دمار غزة قُتلتُ فرحة الحرية داخلى، رأيت الناس ينامون فى الشوارع، ورأيتهم يبحثون عن لقمة العيش حتى ولو كانت على الرصيف، هذا كان أصعب شىء فى حياتى، ورسالتى للعالم والبشرية كلها «لا تعليق»، لأن غزة قبل اعتقالى كانت تتمتع بِحيوية وقوة وجمال، فرغم أننا خرجنا من الانتفاضة الأولى تاركين خلفنا قصصًا وحكايات مُؤلمة، لكن طبيعة الشعب الفلسطينى تجعله ينهض سريعًا من تحت الرُكام، وبعدها استقبلنا فى سنة 1994 عودة السلطة الفلسطينية إلى أرض الوطن، وكان هذا من أجمل ما شاهده الفلسطينى فى ذلك الوقت، لأنه حلم كل فلسطينى كبير وصغير هو أن يلتقى بهؤلاء الرجال العظماء الذين قاتلوا من أجل أن يصنعوا لنا الهوية الفلسطينية، وترعرعنا فى حضن السلطة الفلسطينية وشعرنآ بِدفء وأمان، وكنت سعيدا جدا فى تلك الفترة لأننى كنت أشعر بأننى صاحب هوية، وصاحب قضية، ولذلك كنت أعيش فى غزة بطولها وعرضها، ولكن للأسف لم يستمر ذلك، وأتت علينا الانتفاضة الثانية وعلى ما يبدو كان مُدبرًا أن يزول هذا الغطاء الملىء بالدفء والأمان عن شعبنا الفلسطينى، ومن ثم تم اعتقالى وأمضيت 22 عامًا داخل السجون الإسرائيلية، بعد حكم كان مدى الحياة، وعندما تحررت نزلت من الباص الذى نقلنى من الجانب الإسرائيلى إلى الجانب الفلسطينى، رأيت مشاهد مروعة ومؤلمة فى قطاع غزة، كانت كل البيوت مُدمرة وخيآم النازحين فى كل شارع وكل مكان، وكنت أسأل كل من كان برفقتى عن كل هذا الدمار، وبعدما تألمت أوقفت الأسئلة لأننى أيقنت أن أكثر من ثلث قطاع غزة أُبيد بشكل كامل، ومُسحت العائلات من السجل المدنى، هُنا بقيت بصمت مؤلم على هذه المشاهد، كان صمتى بقوة وضخامة جبال الأرض، وتركتُ نفسى أدعى لهذا الشعب العظيم، وها أنا اليوم وبحمد الله خرجت من مقابر الأرقام داخل السجون الإسرائيلية، وعدتُ إلى وطنى ليس بِفرحة إفراج، وإنما عُدتُ كضيف على هذه الأرض، لأننى لم أر أصدقاء الطفولة، حتى أولادهم أصابهم الشيب قبل الأوان.