مجزرة مار إلياس تطرح تساؤلات مؤلمة
جراح غائرة فى قلوب المسيحيين فى سوريا

فاتن الحديدى
ليس سرًا أن غالبية المسيحيين فى سوريا، وخاصة فى حلب، لم يكونوا مؤيدين لانتفاضة عام 2011، وكان رأيهم أنها لن تؤدى إلى ديمقراطية، بل ستستبدل بالحكومة الحالية نظامًا إسلاميًا أكثر تطرفًا، من شأنه تهديد أسلوب حياتهم، وربما طردهم من ديارهم، فهل كانوا على حق؟ أم يُمكن القول إن الخوف هو الذى شلّ حركتهم ومنعهم من المشاركة؟.. أسفر الهجوم الانتحارى داخل كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس فى دمشق عن مقتل 25 مصليًا وإصابة 63 آخرين، وسارعت وزارة الداخلية السورية إلى نسب التفجير إلى تنظيم داعش، لكن فى اليوم التالى، أعلنت جماعة غامضة أخرى مسئوليتها: «سرايا أنصار السنة» المعروفة بسلسلة من الهجمات على الأقليات الدينية.
ولا يُعرف الكثير عن هذه الجماعة، لكن الهجوم المروع يشير إلى أن حكام سوريا الجدد قد يواجهون تحديًا من داخل بيئتهم الأيديولوجية، مما قد يحمل احتمالات خطيرة لعنف مستقبلى.
تشير المعلومات القليلة المتوافرة عن جماعة سرايا أنصار السنة، إلى أنها انبثقت من فرع لهيئة تحرير الشام، المنظمة الجهادية سابقًا، والتى قادت حملة الإطاحة بنظام الأسد فى ديسمبر 2024، وتُشكل نواة الحكومة الانتقالية الجديدة حاليًا، وكان يقودها الرئيس الحالى أحمد الشرع.
وتشير هذه الأطروحة إلى أن جماعة سرايا أنصارالسنة، انفصلت عن هيئة تحرير الشام لفشلها فى تطبيق الشريعة الإسلامية حسب رؤيتها، وواصلت الجماعة تجنيد مقاتلين من بين أعضاء الهيئة المُحبطين (وآخرين) من الملتزمين بالجهاد، والذين خاب أملهم لبراجماتية القيادة وتساهلها مع الدول الغربية.
وبينما تتفق سرايا أنصار السنة أيديولوجيًا مع داعش، فإنها تُؤكد على استقلاليتها تنظيميًا، ومع ذلك، يشتبه البعض فى أنها قد تكون فى الواقع واجهة لداعش.
سبب الهجوم
لتبرير الهجوم، استشهدت الجماعة بقرار الحكومة الانتقالية الذى يحظر تحويل المسيحيين إلى الإسلام، لا سيما فى المنطقة التى وقع فيها الهجوم، وفشل الحكومة فى تطبيق الشريعة الإسلامية.
وهكذا تجد الحكومة نفسها فى مأزق. فإذا حاولت كبح جماح المتعصبين، فقد تكتسب تعاطفًا معهم، مما يساعد على تنامى صفوفهم، ولكن إذا منحت لهم مساحة أكبر للعمل، فقد يكون ذلك بمثابة نعمة لتجنيد أعضاء، وفى الحالتين إذا تزايد عددهم بما يكفى، فسيشكلون تهديدًا خطيرًا لأمن واستقرار النظام الجديد، كما أن بروزهم المتزايد يشوه صورة الاعتدال الذى تسعى دمشق إلى إبرازها فى دبلوماسيتها.
يؤكد المنتقدون أن هيئة تحرير الشام هى من خلقت هذه المعضلة، بسماحها للمتطرفين بأن يصبحوا عنصرًا من عناصر جهاز الأمن الجديد، ويلومون الحكومة على فشلها فى التصرف بحزم لوقف تصاعد خطاب الكراهية والعنف الطائفى.
وكان المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، قد صرح بأن الخلية التى تقف وراء الهجوم «تتبع داعش رسميًا»، مضيفًا أن سرايا أنصار السنة «ليست مستقلة.. بل تتبع داعش».
وأضاف أيضًا أن مُنفّذ هجوم الكنيسة ليس سوريًا، دون تحديد جنسيته، وأنه جاء إلى دمشق برفقة انتحارى آخر من مخيم الهول فى شمال شرق البلاد للنازحين وأقارب عناصر داعش.
سرايا أنصار السنة
بينما أكد بيان سرايا أنصار السنة، عبر تطبيق تيليجرام، أن رواية الحكومة للأحداث «غير صحيحة ومُفبركة». وأضاف أن قيادتها تضم عضوًا سابقًا فى تنظيم حراس الدين، وهو تنظيم تابع لتنظيم القاعدة أعلن حل نفسه بناءً على أوامر الحكومة الجديدة.
وكان الشرع قد اتصل بمستشار البطريركية لتقديم تعازيه، وهو ما وصفه البابا يوحنا العاشر بأنه «غير كافٍ»، وأضاف أنها أول مجزرة من نوعها فى سوريا منذ عام 1860، فى إشارة إلى عمليات القتل الجماعى للمسيحيين فى دمشق فى عهد الإمبراطورية العثمانية.
وأضاف: «لن تُرعبنا الانفجارات ولن تُطفئ وجودًا دام ألفى عام. المسيحيون ليسوا ضيوفًا على هذه الأرض، بل هم جذورها». «متى سينتهى هذا التطرف؟ متى سنتمكن من العيش كإخوة؟ متى سيسود التسامح بيننا؟ متى يرى كلٌّ منا أخًا فى الآخر؟ ما حدث ليس طبيعيًا، وليس بشريًا. لا يمكن لأى شخص عاقل أن يصل إلى هذا المستوى من الكراهية والاستياء والانتقام، ولماذا؟ ضد من؟ ضد إخوته، ضد شعبه؟».
مواجهة العنف
من جانبه صرح وزير الخارجية الأمريكى الأسبق جون كيرى، بأن داعش يرتكب إبادة جماعية ضد المسيحيين وغيرهم من الأقليات فى سوريا، قائلًا: «فى تقديرى، داعش مسئول عن إبادة جماعية ضد جماعات فى المناطق الخاضعة لسيطرته، بمن فى ذلك الإيزيديون والمسيحيون والمسلمون الشيعة».
وقال البروفيسور مارك توماس، مؤلف كتاب «الجذور الدينية للصراع السوري»، وهو من حلب وكان عضوًا فى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، التى لا تزال قائمة حتى اليوم: «من المحزن أن نرى هذا، ونحاول أن نتدبر أمرنا ونتظاهر بأن الحياة مستمرة، وستستمر، لكن من الصعب تقبّلها، ليس من السهل رؤية الأماكن التى نشأتَ فيها تُدمَّر، والأماكن الرائعة تُدمَّر».
وأضاف: «الناس يفقدون إيمانهم هذا هو السبب الرئيسى الذى يدفعهم إلى محاولة الهرب قبل الحرب، لم تكن لدينا أى مشاكل، كنا نعيش كسوريين تمامًا، فى مجتمعنا، لم تكن هناك مشاكل دينية». «بعد الحرب، تغيّر كل شيء».
«اليوم نرى وئامًا ظاهريًا، الناس غاضبون من بعضهم البعض»، الجميع هنا خائف من حدوث شيء ما. إذا كنت فى مجتمع أقلية، فأنت خائف، على الرغم من أن الوضع لم يكن مثاليًا، إلا أنه كان هناك على الأقل سلام.
الفرار من الوطن
المسيحيون اليوم أقلية فى حلب، وكانوا الأغلبية حتى عام 1924، كانوا عددًا، أما الآن ومع عدم وجود بيانات إحصائية، فمن الصعب معرفة عدد المسيحيين فى المدينة، لكن يُقدّر أن حوالى خمسين بالمائة منهم قد غادروا خلال الصراع الحالى.
فى حلب، عائلات مسيحية عراقية اضطرت للفرار بين عشية وضحاها بعد تلقيها رسائل فدية من جماعات جهادية تهدد بخطف بناتها إن لم يدفعوا.
أثرت هذه الأمثلة والقصص على الوعى الجمعى للمسيحيين فى سوريا، وأثرت بلا شك على موقفهم من الانتفاضة.
لم يكن الشمال الغربى خيرَ مثالٍ على الحياة فى ظلّ الجماعات المسلحة التابعة للمعارضة. لم يكن للجناح السياسى للمعارضة أى سيطرة على الجماعات المسلحة أو أمراء الحرب التابعين لها. لم يتمكنوا من منع نهب الممتلكات والانتهاكات المرتكبة ضد الأكراد فى عفرين، ولا اضطهاد الدروز فى إدلب. تورطت هذه الجماعات المسلحة مرارًا وتكرارًا فى صراعات فيما بينها على الغنائم، مما أسفر عن مقتل العديد من المارة الأبرياء.
من جانبها لم تُجدِ تغطية قناة سوريا، وهى قناة المعارضة الرئيسية، والتى تبث من إسطنبول عن تسامح مقاتلى المعارضة مع المسيحيين وقدرتهم على أداء شعائرهم الدينية دون إزعاج يوم الأحد، نفعًا يُذكر.
كما شوهد بعض المراسلين يُجرون مقابلات مع مواطنين مسيحيين فى الشوارع، وكان من الواضح أن من أُجريت معهم المقابلات كانوا مرعوبين، غير قادرين على رفض طلبات المقابلة، كانوا يحاولون موازنة كل كلمة ينطقونها حتى لا يُغضبوا الحكام الجدد، مع تجنّب انتقام النظام فى حال عودته إلى المدينة. كان هؤلاء المواطنون المساكين يُشيدون بالحكام الجدد لسماحهم لهم بقضاء حاجاتهم.
أصرّ بعض ضيوف القناة نفسها لأيام على أنه لن يُفرض على المسيحيات زيّ إسلامى أو تُغلق الكنائس، وكأن هذا يكفى، وأن مخاوف المسيحيين الرئيسية وأسلوب حياتهم تقتصر على هاتين النقطتين، بهذا النوع من التغطية والخطاب الساذج، لا تفعل وسائل الإعلام المعارضة سوى تعزيز الخوف من المستقبل.
لا تتمحور مخاوف المسيحيين الرئيسية حول قدرتهم على الذهاب إلى الكنيسة كل يوم أحد، رغم رمزيتها، ولا حول إجبارهم على ارتداء الحجاب أو النقاب، بل حول احتمال العودة إلى نظام الملل العثمانى أو الملالى الإيرانى، حيث يُنظر إلى المسيحيين ليس على أنهم يتمتعون بكامل الحقوق والمسئوليات، بل كمواطنين من الدرجة الثانية.
إن الطريقة الوحيدة لطمأنة المسيحيين فى هذه الظروف هى أن تُدار حلب من قبل إدارة مدنية من وجهاء المدينة بعد انسحاب جميع الجماعات المسلحة منها، وأن تفهم هيئة تحرير الشام وما يسمى بـ«حكومة الإنقاذ» التابعة لها أن المسلمين والمسيحيين والأكراد فى المدينة عاشوا معًا لقرون ويعرفون كيف يديرون حياتهم اليومية دون أى وصاية.
بين عشية وضحاها أصبحت المدينة التى كانت تعج بالحياة، منطقة خالية من أى سلطة. لا جيش ولا شرطة إذ سيطرت عليها المعارضة، وأقاموا حواجز عسكرية فى ساحات المدينة الرئيسية، مثل ساحة سعد الله الجابرى، وبدأ أعضاء الفصائل بالتجول بسياراتهم الخاصة، يشترون السلع بالليرة التركية أو الدولار الأمريكى.
ازدادت ساعات توفر الكهرباء قليلًا، أكثر أربع ساعات فقط يوميًا، بدأت الفصائل بتوزيع الخبز مجانًا، وهو سلعة نادرة كانت تُقدم سابقًا لحاملى البطاقة الذكية، استأنفت المخابز عملها، لكن رغم هذه التغييرات، ما زال أهل حلب غير متأكدين مما سيحل بهم خاصة المسيحيون من مختلف الطوائف.