من الأبارتايد إلى الاحتلال
عدالة القضية جمعت «مانديلا» و«فلسطين»

آلاء البدرى
لم يكن إحياء ذكرى ميلاد مانديلا فى الـ18 من يوليو التى دعت إليها الأمم المتحدة كيوم للعمل الإنسانى تحت اسم «اليوم العالمى لنيلسون مانديلا» أبدًا من قبيل الترف التاريخى بل هى ضرورة ملحة، خاصة فى الوقت الحالى، فـ«مانديلا» الزعيم الذى قاد بلاده إلى التحرر من نظام الفصل العنصرى، نربط نضال بلاده بشعوب أخرى وعلى رأسها الشعب الفلسطينى. وربما لا يعر ف الكثير من أبناء الجيل الحالى ارتباط «مانديلا» العاطفى والسياسى بالقضية الفلسطينية وكيف شكل دعمه للقضية موقفًا أخلاقيًا عابرًا للحدود.
و هو ما يفسر موقف «جنوب إفريقيا» عندما قدمت مذكرة فى محكمة العدل الدولية فى «لاهاى» فى 29 ديسمبر 2023 تتهم فيها «إسرائيل» بارتكاب أعمال إبادة جماعية فى «غزة» ثم الترحيب الرسمى الكبير بقرار محكمة العدل إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو».
كفاح «مانديلا» فى «جنوب إفريقيا»
قضى «مانديلا» العمر فى النضال من أجل العدالة فواجه نظام الفصل العنصرى القائم على سيادة البيض فى جنوب أفريقيا والذى فرق بين البشر بلون الجلد واعتبر الجنوب إفريقيين غير البيض مواطنين من الدرجة الثانية تحكمهم قوانين تقييدية تحدد أماكن سكنهم وعملهم وسفرهم وتقيد حصولهم على الحقوق الأساسية من تعليم ورعاية صحية وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأمر الذى دفعه للثورة ضد هذا النظام ودعا الجميع للانضمام إليه.
ورغم سجنه لمدة 27 عامًا فى جزيرة «روبن» ولم يتخل «مانديلا» عن النضال أولم يستسلم للكراهية. كان «مانديلا» يكافح، فى الأساس، النظام العنصرى لكنه كافح أيضًا من أجل عالم أفضل تتاح فيه الحرية والعدالة للجميع. وحتى قبل إطلاق سراحه لم يصب بلعنة الغضب والانتقام بل دخل فى مفاوضات مع الحكومة لإنهاء النظام العنصرى وساهمت مفاوضاته السلمية فى منع حرب أهلية دامية وأصبح «مانديلا» أول رئيس منتخب ديمقراطيًا للبلاد.
وحتى بعد أن أسدل الستار على معاناة بلاده لم يتوقف عن النضال بل بدأ فصلاً جديدًا على مستوى عالمى إذ دافع عن قضايا التحرر فدعم القضية الفلسطينية وحركات التحرر فى «زيمبابوى» و«الكونغو». وانتقد «مانديلا» الهيمنة الأمريكية على السياسة الدولية.
وبعد انتهاء رئاسته لبلاده، لم يتوقف «مانديلا» عن العمل، بل أنشأ «مؤسسة مانديلا» التى كافحت فى تعزيز حقوق الإنسان عالميًا ومكافحة الفقر والإيدز والتمييز وشارك فى مبادرات دولية مثل مجموعة الحكماء لحل النزاعات الدولية وظل يناضل ويدعم حتى آخر أيامه.
«مانديلا» و«عرفات».. محطات من النضال المشترك والدعم
علاقة قوية ربطت الزعيمين المناضلين «نيلسون مانديلا» و«ياسر عرفات». وربط «مانديلا» بين نضاله فى «جنوب إفريقيا» ونضال الرئيس الفلسطينى الراحل وأظهر الدعم الكامل للقضية الفلسطينية بعد 16 يومًا فقط من إطلاق سراحه حين التقى بـ«عرفات» فى مطار «لوساكا» عاصمة «زامبيا» وعانقه وأكد دعمه لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» ونضال الشعب الفلسطينى وصرح بعبارات خالدة دعمت القضية قائلًا: «إن عرفات يناضل ضد شكل فريد من الاستعمار ونتمنى له النجاح فى نضاله» وأضاف: «أعتقد أن هناك أوجه تشابه كثيرة بين نضالنا ونضال منظمة التحرير الفلسطينية».
وصرح خلال زيارته لأستراليا بأن الموقف العدائى الذى تتبناه الحكومة الإسرائيلية غير مقبول لدينا مؤكدًا أنه لا يعتبر «منظمة التحرير» جماعة إرهابية وأنه إذا كان لا بد من وصف أى من الأطراف بأنه دولة إرهابية «فيمكن وصف الحكومة الإسرائيلية لأنهم هم من يذبحون العرب الأبرياء والعزل فى الأراضى المحتلة».
وفى عام 1997 وبمناسبة الاحتفال بيوم الأمم المتحدة للتضامن مع الشعب الفلسطينى صرح قائلا: «اتخذت الأمم المتحدة موقفًا حازمًا ضد نظام الفصل العنصرى وعلى مر السنين تبلور إجماع دولى ساهم فى إنهاء هذا النظام الجائر لكننا نعلم جيدًا أن حريتنا لا تكتمل إلا بحرية الفلسطينيين».
إرث مانديلا الممتد من منفاه فى جزيرة «روبن» إلى «غزة»
ولم تكن مقولات «مانديلا» الخالدة مجرد عبارات رنانة بل كانت بمثابة وصية لم يتنكر لها الأحفاد الذين اعتبروا «غزة» مرآة لـ«جوهانسبرج» وأثبتوا ذلك بمواقف حقيقية بدأت فى 2004 حيث عارضت حكومة «جنوب أفريقيا» بناء إسرائيل للجدار فى الضفة الغربية وقدم وفد رسمى مذكرة لدعم القضية الفلسطينية فى محكمة العدل الدولية واستمرت لأعوام.
وفى 2006 أعلن مؤتمر النقابات العمالية فى جنوب إفريقيا الذى كان آنذاك أكبر اتحاد نقابى فى جنوب إفريقيا دعمه لمقاطعة «إسرائيل» واصفًا الأخيرة بأنها دولة فصل عنصرى. بينما استعدت «جوهانسبرج» السفير الإسرائيلى ووبخته واستدعت سفيرها لدى «إسرائيل» اعتراضًا على هجوم «إسرائيل» على مجموعة سفن كانت متجهة إلى «غزة» لفك لحصار عام 2010.
أما فى عام 2012 فقرر المؤتمر الوطنى الأفريقى رسميًا دعم حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على «إسرائيل» وكان من أكثر الأمور حساسية مقاطعة إسرائيل أكاديميًا من قبل بعض الجامعات فى «جنوب إفريقيا».
كما قام «نكوسى زويليفيليلى» حفيد «مانديلا» بجولات حول العالم من أجل تأييد القضية الفلسطينية والتنديد بالمأساة الإنسانية التى تعيشها «غزة» بسبب العدوان الإسرائيلى الغاشم ورغم تعرضه للمضايقات والمنع من بعض الدول التى وصلت إلى حد المنع من دخول «بريطانيا» إلا أنه لم يتراجع خطوة إلى الوراء واستكمل مسيرة جده.
مانديلا الملهم
لم تكن تجربة «مانديلا» مجرد فصل فى تاريخ «جنوب إفريقا» بل أصبحت منارة يهتدى بها الكثيرون حول العالم ممن وجدوا فى شخصيته القيادية وثباته الأخلاقى قدوة حقيقية لهم.حتى اليهود البيض الذين ناضلوا مع «مانديلا» ضد سياسات الفصل العنصرى مثل «رونى كاسريلز» وهو سياسى وقائد عسكرى سابق فى «جنوب أفريقيا» رفض ولاء الجالية اليهودية للصهيونية وكان مع يهود آخرين من أشد المؤيدين للقضية الفلسطينية وتعرضوا لانتقادات كثيرة من المنظمات اليهودية.
لكن هذا لم يزدهم إلا إصرارًا، فوقّع أكثر من 200 يهودى جنوب أفريقى عريضة شارك «كاسريلز» فى صياغتها تندد بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين وتقارنها بنظام الفصل العنصرى أثارت الوثيقة المسماة إعلان الضمير جدلًا حادًا داخل الجالية اليهودية وجاء فى الوثيقة: «يزعم الإسرائيليون أنهم شعب الله المختار ويجدون مبررًا توراتيًا لعنصريتهم وحصريتهم الصهيونية هذا يشبه تمامًا ماحدث فى جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصرى الذين آمنوا أيضًا بالمفهوم التوراتى بأن الأرض حق إلهى لهم مثل الصهاينة الذين زعموا فى أربعينيات القرن الماضى أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
لم يكن مانديلا ملهمًا فقط لليهود الذين عاصروه وشاركوه المصير والنضال من أبناء وطنه فقط بل ألهم الكثير حتى داخل إسرائيل نفسها وعلى رأسهم «إيلان بابيه» الملقب بأشجع مؤرخ إسرائيلى ألف العديد من الكتب منها «التطهير العرقى فى فلسطين» و«عشر خرافات عن إسرائيل». دعم «بابيه» المقاطعة الاقتصادية والسياسية لإسرائيل (BDS) بما فى ذلك المقاطعة الأكاديمية ويرى أن المقاطعة مبررة لأن الاحتلال الإسرائيلى حركة تاريخية شبيهة بحملة مناهضة الفصل العنصرى ضد نظام التفوق الأبيض فى «جنوب إفريقيا».