بين الجذور والتجريب:
كيف يبدأ «عمرو دياب» من جديد مع كل ألبوم؟

محمد شميس
من الصعب الحديث عن المشهد الفنى العربى خلال العقود الأربعة الأخيرة دون أن يتصدر اسم «عمرو دياب» الواجهة.. ليس فقط لأنه صاحب الأرقام القياسية فى المبيعات والحفلات، بل لأنه استطاع أن يتجاوز فكرة «المغنى الناجح» ليصبح رمزًا ثقافيًا واجتماعيًا يعكس تطور الذوق العام للملايين فى مصر وخارجها.
مواكبة العصر
قوة «عمرو دياب» لم تكن يومًا محصورة فى صوته العذب أو مظهره المتجدد، بل فى قدرته على قراءة المتغيرات، وتقديم منتج فنى يواكب العصر، دون أن يتخلى عن هويته الخاصة. عبر أغانيه، استطاع دمج الشرق بالغرب، مستعينًا بأحدث التقنيات الموسيقية، وإيقاعات عالمية مع نكهة مصرية أصيلة. لم يتوقف عند حدود الشهرة، بل كان جزءًا من الذاكرة الجمعية لجيل كامل، رافقهم فى لحظات الحب والفراق، النجاح والانكسار. تأثيره امتد ليصبح أيقونة تتوارثها الأجيال، حيث لا يزال حتى اليوم يُنتظر ألبومه الجديد بنفس الحماس الذى كان يُنتظر به قبل ثلاثة عقود.. ومع كل إصدار، يثبت «عمرو دياب» أن الفن الحقيقى لا يعرف العمر، وأن البدايات قد تتكرر، لكنها مع الهضبة، تتكرر من القمة.
ابتدينا
منذ اللحظة الأولى التى أعلن فيها «عمرو دياب» عن ألبومه الجديد (ابتدينا)، أدركنا جميعًا أننا لا نواجه مجرد ألبوم عابر، بل نواجه مشروعًا فنيًا متكاملًا يحمل بين طياته رسالة واضحة: الهضبة، رغم كل سنوات المجد والنجاح، لا يزال يتعامل مع كل عمل جديد وكأنه بداية مشواره، بنفس الحماس ونفس الشغف الذى عرفناه عنه منذ عقود، وأيضًا نفس الحالة الجدلية بين مؤيد ومعارض للعمل، وهو ما يؤكد أن أعماله مسموعة، لأن طالما أن هناك من لا يستحسن العمل، فمن المؤكد أنه استمع إليه.
اسم الألبوم نفسه يحمل دلالات عميقة. (ابتدينا) ليست كلمة عابرة، بل تلخيص لموقف نفسى وفنى، وكأن «عمرو دياب» يخاطب جمهوره قائلًا: «مهما طال الطريق، كل خطوة جديدة أشعر معها وكأننى أبدأ من جديد». الألبوم كذلك يُعد الأطول فى مسيرته، إذ يضم 15 أغنية بألوان موسيقية متنوعة تُرضى جميع الأذواق، من المستمع العربى إلى عشاق الموسيقى العالمية، وكل ذلك تحت إشرافه الفنى المباشر.
جانا وعبدالله
البداية جاءت غير تقليدية بأغنية (خطفونى)، كلمات «تامر حسين»، ألحان «عمرو مصطفى»، توزيع «أسامة الهندى». اختيار يحمل أبعادًا اجتماعية وفنية وتجارية وصحفية ذكية، فمن الناحية الاجتماعية، يتحدى «عمرو دياب» النظرة الذكورية المتشددة التى تضع قيودًا على غناء النساء، عبر تقديم ابنته «جانا» كمطربة وملحنة للأغنية، بل والأجرأ أنه يبدأ الألبوم بصوتها لا بصوته، فى خطوة غير مسبوقة فى تاريخه. «جانا» تغنى باللهجة العامية المصرية المتأثرة بثقافتها الأجنبية، وتمزج بين العربية والإنجليزية، فى ترجمة حقيقية لفكرة عبور الفن للثقافات.
فنيًا، الأغنية درس فى تقديم «الغنوة المشتركة» الحقيقى، بعيدًا عن النمط السائد فى الأغانى العربية المشتركة، حيث تتداخل أصوات «عمرو دياب وجانا والرابر المشارك» بجُمل لحنية مختلفة، تمنح الأغنية عمقًا وتنوعًا.
الموسيقى تحمل توقيع «عمرو دياب» الأصيل، عبر إيقاع «المقسوم» بنكهته اليونانية، وهو اللون الذى ابتدعه الهضبة منذ أواخر الثمانينيات فى أغنية (نعشق القمر) التى كانت من ألحانه وطورّه على مدار عقود.
أما من الناحية التجارية، فالأغنية جاءت ضمن الحملة لإحدى شركات المحمول، فى مشهد يجمع بين «عمرو دياب» وابنته، يصنع ارتباكًا إيجابيًا لدى المستمع، بين مشاعر الأبوّة والرومانسية. صحفيًا، اختيار الأغنية من تلحين «عمرو مصطفى» الذى لحّن الأغنية من مقام النهاوند، أعاد إلى الأذهان الخلافات السابقة بين الثنائى، مما أشعل التساؤلات وولّد جدلًا صحفيًا يضمن للألبوم دعاية مجانية واسعة.
ثانى محطات الألبوم، أغنية (يلا) كلمات «تامر حسين»، ألحان «عزيز الشافعى» من مقام الكرد، توزيع «أحمد إبراهيم»، التى تؤكد التزام «عمرو دياب» الحقيقى بفكرة الدويتو، حيث يظهر ابنه «عبدالله» كشريك فنى مكتمل، لا كضيف شرف. الأغنية مبنية على فكرة «المردات» بين الأب والابن، بأجواء صيفية مرحة، مستندة إلى توزيع موسيقى يجمع بين روح «عمرو دياب» الكلاسيكية ولمسات الـDancehall والإيقاعات الإلكترونية والطبول الإفريقية، فى مزيج عصرى متقن.
الرومانسية الناعمة
(ماليش بديل) كلمات «تامر حسين»، ألحان «إسلام زكى» من مقام العجم، توزيع «عادل حقى»، تأتى لتكشف الجانب الشاعرى من «عمرو دياب»، حيث يقدّم أغنية رومانسية تعبّر عن الاشتياق والذكريات العالقة رغم مرور الزمن، بلغة موسيقية غربية تمامًا بتوزيع لاتين بوب، فى توليفة تُقرّب الأغنية إلى الأشكال العالمية مع احتفاظها بلمسة شرقية خفيفة.
(أرجعلها) من كلمات «بهاء الدين محمد»، وألحان «عمرو دياب» من مقام النهاوند، وتوزيع «أسامة الهندى»، وهى أغنية ذات قراءتين؛ إما نصيحة عاطفية من «عمرو دياب» لمن يخشى العودة لحبيبته، أو حوار داخلى بين القلب والعقل، فى صراع بين الحب والكبرياء، مدعوم بتوزيع على طابع الروك الحزين، ملىء بالجيتارات والدرامز، يخلق جوًا دراميًا مشحونًا بالمشاعر.
فى (دايمــًا فاكر)، من كلمات «تامر حسين»، وألحان «شادى حسن» من مقام النهاوند، وتوزيع «أحمد إبراهيم»، يفاجئنا الهضبة بتوظيف موسيقى الـ Afro بأسلوب شاعرى رومانسى بعيد عن الإيقاعات الراقصة المعتادة، ممزوجة بجيتارات إسبانية ناعمة، ليخلق حالة حالمة من الحنين الهادئ، تذكّر المستمع بأن الذكرى قد تكون أكثر حضورًا من الحب نفسه.
فى (حبيبتى ملاك) من كلمات «أمير طعيمة»، وألحان «عمرو دياب» و«أحمد إبراهيم».. وتوزيع «أحمد إبراهيم» من مقام النهاوند، يتخلى «عمرو» عن قناع الرجل الصلب، ويكشف عن جانب نادر من شخصيته، الرجل الضعيف أمام الحب الصادق. هنا تتجلى حِرَفية «أحمد إبراهيم» فى تقديم توزيع ناعم يمزج بين البساطة والروح الغربية، فيما يكتب «أمير طعيمة» كلمات مباشرة تحمل قدرًا هائلًا من الصدق الإنسانى.
التكرار الذكى
أما أغنية (قمر) من كلمات «محمد القياتى»، وألحان «محمد يحيى» من مقام النهاوند، وتوزيع «شريف فهمى»، فهى استمرار لفلسفة التكرار الذكى التى يتقنها «عمرو دياب»، حيث يُحوّل كلمة واحدة بسيطة إلى لازمة موسيقية تعلق بالأذهان، مصحوبة بتوزيع فلامنكو إسبانى، وجيتارات كلاسيكية وأكورديون، فى مشهد رومانسى ناعم يتُقن فيه الهضبة اللعب على أوتار القلب.
وفى أغنية (ابتدينا) من كلمات «تامر حسين»، وألحان «عمرو مصطفى» من مقامى الكرد والحجاز، وتوزيع «عادل حقى»، التى تمثل خلاصة تجربة «عمرو دياب» مع موسيقى الفلامنكو، بأسلوب «نيو فلامنكو» يمزج بين الجذور الإسبانية والإيقاعات العصرية، مع لمسات إلكترونية محسوبة بعناية، وصوت جانبى يصرخ «Olé!» كتوقيع فنى صريح على جودة العمل. الكلمات تحمل رسالة مباشرة للجمهور: رغم كل النجاحات، «عمرو دياب» لا يزال يبتدئ، لكنه يبتدئ من قمة جديدة كل مرة، مؤكدًا أن شغفه بالموسيقى لا يعرف خط نهاية.
من الشعبى للكوميديا السوداء
وفى أغنية (يا بخته) من كلمات «منة القيعى»، وألحان «عزيز الشافعى» من مقام النهاوند، وتوزيع «توما»، يقتحم «عمرو دياب» عالم «المقسوم» الشعبى، لكن على طريقته الخاصة، بعيدًا عن الابتذال أو التكرار. هنا لا نسمع مجرد إيقاع تقليدى، بل نلمس حالة إنسانية نابعة من قلب الشارع المصرى الذى عاش الهزائم والخسارات، لكنه يُصر على الوقوف من جديد. الكلمات، رغم بساطتها، تحمل فلسفة شعبية عميقة: «يا بخته اللى تحبه قلوبنا»، ليست مجرد جملة عابرة، بل أسلوب مقاومة نفسية وترميم معنوى، وهو ما قدّمه بذكاء، حيث تحمل الأغنية جانبًا اجتماعيًا وآخر عاطفيًا.
أما فى (هلونهم) من كلمات «أيمن بهجت قمر» وألحان «وليد سعد» من مقام الكرد، وتوزيع «أحمد إبراهيم»، فهى مثال على براعة «عمرو دياب» و«أيمن بهجت قمر» فى تقديم كوميديا سوداء داخل أغنية. الأغنية ليست مجرد فكاهة، بل تحليل ساخر للخيانة والخذلان، بتحويل الجراح إلى جداول وألوان، وكأن «عمرو دياب» يقول للناس: واجهوا خيباتكم بشىء من السخرية، لا بالبكاء والمرارة. موسيقيًا، «أحمد إبراهيم» يضعنا فى حالة تجمع بين النوبى والتركى، ليخرج منتجًا مصريًا صرفًا، لكنه منفتح على الإيقاعات العالمية.
تجريب الفلكور
ثم نأتى إلى واحدة من أكثر أغانى الألبوم جرأة وتجديدًا، وهى (بابا)، التى تمثل تجربة موسيقية فريدة، حيث يمزج «عادل حقى» بين موسيقى الـ Dancehall العالمية والهوية الصعيدية المصرية، فى توليفة تكاد تكون غير مسبوقة. المذهل هنا ليس فقط المزج الموسيقى، بل أيضًا إصرار الهضبة على الخروج من النمطية، ببحثه المتعمق وتجاربه مع أكثر من موزع حتى استقر على هذه الصيغة المبهرة. «ملاك عادل» كتب كلمات شديدة الذكاء، مستلهمة من البيئة الصعيدية بروح عصرية، بينما «محمد يحيى» قدّم لحنًا شرقيًا أصيلًا من مقام البياتى، يعكس عمق الانتماء الموسيقى للمكان.
كلمات موسيقية
أما (ما تقلقش)، فهى عودة إلى رومانسية الرجل الحامى لحبيبته، المطمئن، وهى منطقة يعرف «عزيز الشافعى» كيف يحرك أوتارها جيدًا مع «عمرو دياب». الأغنية من مقام الكرد، بتوزيع «أحمد إبراهيم» الذى حافظ على الطابع الكلاسيكى، لتصبح واحدة من تلك الأغانى الخالدة التى لا ترتبط بزمن، بل تعيش كقطعة موسيقية تحمل ملامح الاستمرارية.
مع (يا خبر أبيض)، يدخل «عمرو» عالم الموسيقى الإلكترونية الراقصة (EDM)، بتوقيع «عادل حقى». هنا تتضح قدرة الهضبة على إعادة صياغة أغنيته بما يخدم سياق الألبوم، بعدما كانت النسخة المسربة أقرب للريجاتون اللاتينى. الأغنية ليست معقدة، لكنها دقيقة فى صنع مزاجها، والكلمات لـ«أيمن بهجت قمر» تأتى كمكمل للموسيقى، لا كبطل منفر، وكذلك لحن «محمد يحيى» من مقام النهاوند.
ثم نصل إلى (قفلتِ اللعبة)، واحدة من الأغانى الشعبية الذكية فى الألبوم، حيث يظهر «مصطفى حدوتة»، كاتب المهرجانات المعروف، لكن بإطار يناسب مشروع «عمرو دياب» الفنى الأوسع. الأغنية تحمل خفة دم، كلماتها تبتعد عن الابتذال، واللحن من «محمد يحيى» بمقام نهاوند مصرى، مع توزيع «وسام عبد المنعم» الشعبى المتقن.
أخيرًا، (إشارات)، التى يمكن اعتبارها من أعقد أغانى الألبوم وأكثرها تركيبًا. هنا يسبق التوزيع الموسيقى كل شىء، فيقدّم «أسامة الهندى» تجربة صوتية مستوحاة من موسيقى الـ Ambient العالمية، مستعينًا بآلات صينية تقليدية وأجواء كونية تحاكى صوت الموجات والإشارات الإلكترونية، وكأننا أمام أغنية لا تخاطب فقط الأذن، بل تحاصر المستمع بتجربة صوتية بصرية شاملة، تحيى ذكرى ألبومات أسطورية مثل (الجانب المظلم من القمر) لفريق «Pink Floyd»
الخلاصة
فى المجمل، ألبوم «عمرو دياب» الأخير ليس مجرد مجموعة أغانى، بل مشروع موسيقى متكامل يكشف عن عقل فنى دائم البحث والتجريب، يحترم جذوره، يستوعب متغيرات العصر، ويثبت مرة أخرى أن الهضبة هو حالة خاصة فى الموسيقى العربية، قادر على الحفاظ على الريادة وسط عواصف التجديد، وعلى إبهار الجمهور بعد أربعة عقود من الصعود المستمر.
وبشكل عام، يجب أن نقدّر له قدرته المستمرة على الحفاظ على الريادة الموسيقية المصرية وسط كل المنافسين العرب، وكل ذلك يأتى تتويجًا لمسيرة 40 عامًا من النجاح المتواصل.