
نبيل عمر
البناء والتشغيل والتحويل: الرجل الذى باع خطة ريفيرا غزة إلى ترامب!
نعم، الرئيس الأمريكى دونالد ترامب هو من فاجأ العالم بخطة الريفيرا الفلسطينية وألقى بها فى وجه الفلسطينيين والعرب جميعًا، محدثًا صدمة لم يفق منها العالم حتى الآن، لكنه ليس صاحب الفكرة ولا مخترعها، ولم يقلها عفو الخاطر فى المؤتمر الصحفى المشترك قبل أسبوعين، مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو مجرم الحرب حسب حكم صادر من المحكمة الجنائية الدولية!
الفكرة عمرها ستة أشهر، وصاحبها هو الدكتور جوزيف بيلزمان الأستاذ بجامعة جورج واشنطن، الخبير فى الاقتصاد والعلاقات الدولية، ورئيس مركز التميز للدراسات الاقتصادية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقدمها إلى فريق ترامب خلال حملته الانتخابية، فى أول يوليو الماضي.
وقد نشر بيلزمان تقريرًا عن فكرته فى (جلوبال وارلد جورنال)، وهى مجلة عالمية متخصصة فى موضوعات تتعلق بالعولمة والعلاقات الدولية والدراسات المشتركة بين الثقافات، وكان عنوان التقرير «خطة اقتصادية لإعادة إعمار غزة : نهج «بى أو تي»، و(بى أو تي) اختصار لكلمات «البناء والتشغيل والتحويل» بالإنجليزية، وهو نموذج لإدارة المشروعات الكبيرة بالشراكة بين القطاعين الحكومى والخاص، بتأسيس كيان يبنى منشآت ويشغلها لفترات زمنية محددة، تبدأ من 25 عامًا أو 35 عامًا وتمتد، ثم ينقل ملكيتها فى نهاية مدة التعاقد إلى جهات رسمية، لكن التقرير لم يلفت الأنظار، ربما بسبب غرابة الفكرة أو الاقتناع باستحالتها، أو بسبب نخبوية المجلة الجادة المعروفة بلغتها المتخصصة الجافة إلى حد ما!
وقد وصف بيلزمان مشروعه بأنه يتعامل مع قطاع غزة من منظور اقتصادى بحت، ويسعى به إلى حل استثمارى لتجربة فاشلة منذ انسحاب إسرائيل منه فى عام 2005.
لم يكن ممكنًا أن تدع إسرائيل هذه الفرصة أو الفكرة أن تمضى دون أن تلتقطها وتمررها إلى الرأى العام وتعمل على دعمها، وكان أبرز المهتمين بها الدكتور كوبى باردا، الخبير فى العلاقات الإسرائيلية الأمريكية، خصوصًا جماعات الضغط اليهودية الصهيونية فى أمريكا وتاريخها منذ وعد بلفور، والباحث الأول فى مختبر حيفا للدراسات الدينية، والذى سبق أن نشر مقالًا على «جوجل سكولار»، عن دونالد ترامب فى نهاية ولايته الأولى، بعنوان: كيف حول ترامب الحزب الجمهورى إلى حزب الشعب؟، وأجرى باردا حوارًا مع بيلزمان فى أغسطس الماضي، أذاعه على «بودكاست أمريكان بيبي»، شرح فيه بيلزمان المشروع بالتفاصيل، وقال: فكرت وقلت لنفسي: لماذا لا أكتب منظورًا غير تقليدى حول كيفية إصلاح غزة بعد انتهاء الحرب، وقدمت الورقة إلى فريق ترامب، لأنهم كانوا الأكثر اهتمامًا، وليس فريق بايدن، وكان فريق ترامب قد طلب منى التفكير خارج الصندوق حول ما يمكننا فعله بعد الحرب، حيث لم يكن أحد يتحدث عن ذلك!
تقول دراسة بيلزمان إن قطاع غزة قد دمر اقتصاديًا تمامًا، وكانت بيانات البنك الدولى تبين أن الناتج المحلى الإجمالى السنوى لغزة نما بنسبة 4.% فقط، فى الفترة من 2007 إلى 2022، بينما زاد معدل السكان بنسبة %2.5 سنويًا، وهذا أدى إلى انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي، مما أدى إلى انتشار الفقر وارتفاع معدله إلى %53، ووصل معدل البطالة إلى %45 سنة 2022، بالمقارنة كان معدل الفقر بين السكان العرب المسلمين فى الضفة الغربية، (ملحوظة لم يكتب الضفة الغربية وإنما كتب يهودا والسامرة) %13 خلال نفس الفترة، كما خَلُص البنك الدولى إلى نتيجة الآن وهى أن أكثر من %60 من سكان غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة أصبحوا بلا مأوى نتيجة الحرب التى بدأتها حماس (الإرهابية) فى 7 أكتوبر 2023، وأغلب المبانى القائمة تعرضت لأضرار بالغة ولم تعد صالحة للسكن، و%90 من الطرق الرئيسية دُمرت، باختصار لن تدخل أى جهة استثمارية خاصة أو دولية إلى غزة فى ظل الوضع الحالي، الدمار واسع جدًا، يتجاوز الإصلاح أو إعادة الإعمار.
وقال بيلزمان: يجب أن تبدأ من الصفر، لديك اقتصاد يتكون فعليًا من ثلاثة قطاعات، إمكانات سياحية، وإمكانات زراعية، وقطاع التكنولوجيا العالية، ولديك فيه الكثير من الأذكياء، وهذا النموذج الاقتصادى ثلاثى القطاعات يتطلب إخلاء المنطقة بالكامل، أقصد إخلاءها تمامًا من سكانها، فلا توجد قيود مسبقة على حركتهم للخروج منها، عليك تدمير المكان بأكمله، وبدء التشغيل من الصفر، حتى يمكن إعادة تدوير الخرسانة، أى عدم بقاء أى شيء من البناء العمودى الممتد عميقًا تحت الأرض!
(لاحظوا عبارة «عميقًا تحت الأرض»، فهى تعنى ببساطة الوصول إلى الأنفاق التى فشلت إسرائيل فى التعامل معها».
وحدد بيلزمان مستقبل غزة المزدهرة اقتصاديًا، وحدات سكنية على الطراز الصينى مكونة من 30 طابقًا على الجانب الشرقى من الشريط الساحلى الضيق، ثم مبان سكنية فاخرة وفنادق ومطاعم على الواجهة البحرية الغربية، أما القطاع الزراعى فسوف يعتمد على الصوبات الزراعية الحديثة، على أن يعمل القطاع بالكامل بالطاقة الشمسية، وبه نظام السكك الحديدية الخفيفة وتخدمه المطارات والموانئ البحرية، ويكون مستقلًا عن إسرائيل لتلبية احتياجاته من الطاقة.
وقال بيلزمان: إن هذه العملية ستستغرق ما بين خمس إلى عشر سنوات، وسوف تتراوح تكلفة إعادة الإعمار الضخمة ما بين تريليون إلى تريليونى دولار، والتريليون ألف مليار دولار، أى ما يعادل حجم الناتج المحلى الإجمالى لإسبانيا والبرتغال معًا، وعدد سكانهما يقترب من 60 مليون نسمة!
وفى هذه الحالة تدخل شركات ومؤسسات القطاع الخاص فى شراكات استثمارية مع الجهات الحكومية وتحصل على عقد إيجار عقارى من الحكومة لمدة تتراوح ما بين 50 إلى 100 سنة، وخلال فترة التشغيل يسمح للجهة الخاصة بفرض رسوم على استخدام البنية التحتية.
وكتب بيلزمان فى ورقته أن النمط المفضل إليه فى حكم غزة هو الحكومة الإلكترونية، أى الحكومة التى تستخدم الوسائل التكنولوجية، وسينحصر تبادل الأموال بين المقيمين والشركات عبر شبكة الإنترنت فقط، مما ينفى الحاجة إلى النقود الورقية أو بطاقات الائتمان أو المساعدات الخارجية، باختصار لن يكون للقطاع سلطة نقدية، وسوف يتحكم أصحاب المصالح من الأجانب فى جميع تدفقات رأس المال.
ويقترح بيلزمان نظامًا تعليميًا جديدًا، يديره الخبراء الأجانب لضمان تنمية مجموعات سكانية ماهرة، وتقوم المناهج على مكافحة التطرف من رياض الأطفال إلى الجامعة، وتستورد من النماذج التعليمية فى الإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية، بناء على إصلاحاتهما الأخيرة والتعاليم الإسلامية السنية الصوفية.
أما الأمن فمن الطبيعى أن يسند إلى الشركاء الذين تجمعهم المصلحة المشتركة المتمثلة فى إزالة حماس والمتآمرين معها من أى دور، وهؤلاء الشركاء مهتمون بتجريد غزة من السلاح بشكل دائم.
ثم استدرك بيلزمان فى حواره مع باردا: ثمة صعوبة وحيدة، هل يستطيع الرئيس ترامب أن يقنع أى دولة فى الشرق الأوسط بتوفير مأوى مؤقت لسكان غزة؟
لم يضع إجابة وترك السؤال مفتوحًا..
هذا هو الرجل الذى باع الريفيرا الفلسطينية إلى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وهذه هى خطته بالتفاصيل، والتى مررها إلى الرئيس دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية وقبل نجاحه بشهور، ثم نشرها فى مجلة عالمية متخصصة وأذاعها على شبكة الإنترنت، ولم يدرك أحد من العرب خطورتها، فلم يستعدوا لها، حتى فوجئوا بترامب وهو يحاول أن يعيد بها رسم خريطة بلادهم، متصورًا أنه يملك القوة والعلاقات التى تمنحه الثقة بأنه قادر على تنفيذها!
إذن بنيامين نتنياهو يكذب حين يقول إن اقتراح ترامب جديد، وفكرة أصلية لم تطرح منذ سنوات، ويمكن أن تغير التاريخ، فإسرائيل تعلم بها منذ شهور، وكتبت عنها جريدة «تايمز أوف إسرائيل» أكثر من مرة، وكلام نتنياهو مجرد إطراء ونفاق محبب إلى ترامب الذى يظن فى نفسه قدرات خارقة وذكاء نادرًا، وتستهويه كلمات الإطراء إلى حد الجنون!
والسؤال: هل يمكن أن يفيق العرب من الصدمة ويواجهوا هذا الخطر الوجودى معًا؟
الله أعلم..
يبقى الفلسطينيون، فى قطاع غزة الذين تحملوا ما يتجاوز طاقة البشر طوال 15 شهرًا، هم رمانة الميزان وجوهر الحل، وليس بليزمان ولا ترامب، فطالما تمسكوا بأرضهم، فلن تقوم للريفيرا الأمريكية فى غزة قائمة.
وطوبى لهم..