
نبيل عمر
رسالة مصرية إلى ترامب ممنوع اللعب فى المناطق الخطرة!
رغم رد مصر القاطع فى بيان رسمى بأنها لن تسمح بتهجير أهل غزة إلى سيناء، ومع تصريحات وزير الخارجية الأردنى برفض بلاده قبول فكرة التهجير الملعونة، فإن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب «عاد» إلى أفكاره التى تشبه الخرافات فى قصص الأطفال، كأنه يطرح أشياء وأعمالا ليست سابحة فى فضاء الأوهام، ويمكن أن تهبط إلى أرض الواقع، وأتصور أن أفكاره ومواقفه سواء من العدوان الإسرائيلى الهمجى على غزة أو من الترحيل القسرى لأهلها إلى مصر والأردن يتفق وفهمه لمعنى القوة العظمى وتاريخ الولايات المتحدة.
أمريكا إمبراطورية حديثة، تأسست فى الأصل على العنف والتطهير العرقى، فلم تستطع أن تصبح دولة عظمى بالمعنى الصحيح، نعم هى صارت قوة عظمى، لكن الفارق هائل بين القوة والدولة، القوة حالة مادية هائلة الإمكانات لكنها غشيمة هادرة بلا ضوابط، مثل الطوفان والزلزال والبركان والإعصار وحرائق الجفاف فى الغابات والعواصف الدوامية.. إلخ، تقتلع الإنسان والحيوان والنبات والعمار وكل شيء دون منطق أو رؤية، هكذا هى طبيعتها، ألم تفعل الولايات المتحدة ذلك فى اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق وغزة، باسم الدفاع عن النفس؟!، أما الدولة العظمى فهى شىء آخر، قدرات عظيمة لكنها مبصرة تميز وتدرك الحقائق على طبيعتها وتختار بينها وتوازن إلى حد ما بين مصالحها والقيم الإنسانية العليا، ولا ترتكب جرائم ضد الإنسانية من باب إثبات قدراتها وإشاعة الخوف منها لفرض ما تريد، أى تضع حدودا أخلاقية على استخدام طاقاتها وإمكاناتها فى الدفاع عن مصالحها أو فى اتخاذ مواقف من أى صراعات أو نزاعات فى العالم.
ولو تتبعنا سياسات الولايات المتحدة ومواقفها وأفعالها منذ كسرت عزلتها خلف المحيطين الأطلنطى والهادى، وخرجت إلى العالم الخارجى مع بدايات القرن العشرين، سنجد فجوة واسعة بين القيم النبيلة التى رفعتها أمام العالم والأفعال الهمجية التى مارستها، فالخطاب دولة عظمى تستند إلى تراث الآباء المؤسسين المكتوب عن الحقوق والإنسانية والمثل، والأفعال قوة عظمى تمضى على درب الإمبراطوريات عديمة القيم الإنسانية والأخلاقية، ولم تلعب أبدا دور الدولة العظمى فى أى صراع دخلته بنفسها أو ساندت فيها طرفا على طرف، ربما فى العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956، لتستكمل عملية الإحلال محل بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين فى النظام العالمى.
وإذا تأملنا أفكار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب منذ نجاحه فى الانتخابات عن سياساته الخارجية والتى شرحها فى خطاب التنصيب أو فى تصريحاته أو تغريداته على صفحته الشخصية، نجد خطابه عدوانيا تقطر منه القوة العظمى وليس الدولة العظمى، فهو يعلن نياته فى الاستيلاء على قناة بنما، واحتلال جزيرة جرينلاند الدنماركية وضم كندا إلى الولايات المتحدة، وتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، وترحيل المجرمين المسجلين الخطر المحكوم عليهم فى جرائم من سجونهم المحلية إلى دول أجنبية مقابل «أجر» معلوم.. وهكذا. هل هذه أفكار دولة عظمى أم قوة عظمى بكل ما تحمله القوة من معنى فيزيائى بحت؟ لهذا ليس غريبا أن ترامب - رئيس تلك القوة العظمى - لا يستوعب كيف تحمل الشعب الفلسطينى فى غزة هذا الحجم الرهيب من الجرائم الإسرئيلية التى وصلت إلى حد إلقاء ما يعادل خمس قنابل نووية، من التى ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما اليابانية فى نهاية الحرب العالمية الثانية، مع العلم أن مساحة هيروشيما ضعف مساحة غزة، أى كأن مساحة غزة ألقيت عليها عشرة قنابل نووية، وبالطبع لم يفهم ولم يُقدر قيمة هذا الشعب الذى صمد جائعا عاريا عاطشا نازفا مقتولا متشردا ولم يهرب ويهجر أرضه إلى الدول المجاورة!
أليس من الغباء السياسى أن يتصور أى كائن على كوكب الأرض مهما كانت رعونته أو غباؤه أو جنوحه أو حتى جنونه أن شعبا عاش وسط هذا الجحيم 16 شهرا، يمكن أن يقبل الترحيل من أرضه بمجرد أن هذا الكائن رغب فى ذلك أو صرح به أو تحدث عنه مع آخرين.
وبالطبع عرت تصريحات الرئيس ترامب هدف الحرب الإسرائيلية على غزة بكل وضوح وصراحة، لا هى القضاء على حماس ولا يحزنون، وإنما القضاء على الفلسطينيين وتصفية قضيتهم وأحلامهم فى دولتهم المستقلة، وتحويل تلك القضية إلى مجرد أوراق صفراء فى ذاكرة التاريخ، وما لم تستطعه حرب الإبادة أن تفعله بالقنابل والهدم والقتل والتجويع والتعذيب، يتولاه السمسار الأمريكى الجديد بالتفاوض مع أهل المنطقة، وفرض أفكاره عليهم!!
وهذا وهم كبير..
لقد فهمت مصر حقيقة الحرب الإسرائيلية من أول طلقة، وتأكدت رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى مع تحذير إسرائيل إلى أهل غزة بالنزوح من بيوتهم جنوبا، ثم توالت الأدلة تباعا من خلال مكالمات تليفونية قادمة من قادة الغرب «المتحضر الديمقراطى»، ومباحثات مباشرة معهم، فالكل يستهل كلامه بـ«حماس» والوحشية والأسرى الإسرائيليين وإدانة ما قامت به فى طوفان الأقصى، دون أى كلمة عن «الفلسطينيين» وما يرتكب ضدهم من جرائم لأكثر من 75 سنة، كما لو أن «حماس» جماعة تعانى فراغا ومللا، وقررت أن تهاجم مستوطنات وثكنات عسكرية إسرائيلية وتقتل وتأسر بعض أهلها، من باب التسلية وقتل الوقت. وهنا لا أقيم ما فعلته حماس، يقيمها شعبها فهو صاحب المصلحة وهو الذى دفع الثمن الأكبر..
وليس غريبا أن تكون أفكار الرئيس الأمريكى ترامب عن تهجير أهل غزة مستمدة من أفكار صهيونية قديمة، وقد فصلها الكاتب «كيت كلارينبرج» فى مقال نشره موقع «جراى زون»، بعد العدوان الإسرائيلى على غزة بأسبوعين وقال فيه: إن معهد الأمن القومى والاستراتيجية الصهيونية فى تل أبيب نشر دراسة كتبها الباحث الليكودى «عامير وايتمان»، بعنوان الحل النهائى للحفاظ على الدولة اليهودية، يحرض فيها على انتهاز الفرصة الفريدة والنادرة التى صنعها الهجوم الإسرائيلى على غزة لإعادة توطين وتسكين كل أهلها. وقال: إن الجارة مصر بها 10 ملايين وحدة سكنية شاغرة، يمكن أن يشغلها الفلسطينيون فورا، بتكلفة تتراوح ما بين 5 و8 مليارات دولار، تعادل من 1 إلى 1.5 % من الناتج المحلى الإجمالى لإسرائيل، قد يكون سعرا ضخما، لكن حل هذه المشكلة الكبيرة نهائيا يستحق، ويُعد استثمارا مبتكرا ورخيصا، كأننا نشترى قطاع غزة، وإذا لم تفلح هذه الخطة حاليا فعلينا إذا أردنا أن نحيا، أن نقتل ونقتل ونقتل!
وهو نفس ما ردده «دانى أيلون» نائب وزير الخارجية السابق فى مقابلة مع «مارك لا مونت هيل» فى قناة الجزيرة الإنجليزية: هناك مساحة شاسعة فى صحراء سيناء، يمكن أن يغادروا إليها، ونقوم نحن والمجتمع الدولى بإعداد البنية التحتية لـ10 مدن جديدة.
كل هذه أضغاث أحلام إسرائيلية فى ظهيرة يوم صيفى حارق، أو أوهام غبية، أو يبدو أن الصنف الذى يتعاطاه اليمين الإسرائيلى مغشوشا للغاية، فصور لهم أن المصريين فى أزمتهم الاقتصادية يمكن أن يفرطوا فى حبة رمل واحدة، ويبدو هو نفس الصنف الذى تسرب إلى الغرب، فيعيدون الطرح المستحيل متصورين أن الرفض القاطع رسميا وشعبيا ونفسيا وإنسانيا يمكن أن يتزحزح.
وإذا كان الرئيس الأمريكى يرى أى وجاهة فى فكرته المستحيلة، على أساس أن قلبه الضعيف الرهيف لا يتحمل أن يعيش الفلسطينيون فى «الأرض الخراب» التى جعلها الإسرائيليون غير صالحة للاستخدام الآدمى، ومن الأفضل لهم أن يهاجروا لو مؤقتا حتى إعادة البناء أو دائما إذا أحبوا ذلك، فيمكن أن نعيد عليه الحل السحرى الذى وجده الرئيس عبدالفتاح السيسى بأن يكون النزوح إلى صحراء النقب لحين الانتهاء من إعادة الإعمار، والنقب فى الأصل أرض فلسطينية، تسكنها قبائل بدوية لا يزيدون على 350 ألف نسمة، لكن سيناء فهى بعض من جينات المصريين الذين أسالوا دماءهم مئات المرات لحمايتها، والذين لن يسمحوا بتصفية القضية الفلسطينية، وعموما مصر حكومة وشعبا فى منتهى الوعى لما يدور حولها، وتدرك تفاصيل كل شىء، وهى دولة سلام قادرة على الدفاع عن أمنها ولن تقبل اللعب فى مناطق خطرة.