د. سامح حسان
بوستر يوسف شاهين فتح أمامى أبواب المجلة «تمساح هيكل».. كواليس لحظات مرعبة فى مكتب الأستاذ بسبب غلاف!
كان يوسف شاهين تحت بؤرة الضوء فى تلك الفترة المبكرة من التسعينيات، وبدأت أفلامه تميل إلى التمحور حول الذات فى إسكندرية ليه وحدوتة مصرية ثم إسكندرية كمان وكمان، وهو أمر نادر الحدوث فى السينما المصرية..
وبالإضافة إلى كونه شخصية مثيرة للجدل فقد كان من الطبيعى بالنسبة لى أن يكون هو بطل الأفيش الذى قمت برسمه وتصميمه للاشتراك فى معرض كبير للكاريكاتير الذى أقيم فى مؤسسة الأهرام.
كان البوستر يصور شاهين بأنف ضخم مرتديا معطفا ثقيلا وهو يسير على شاطئ البحر والكاميرا متدلية على صدره مع حروف ضخمة تحمل عنوان الفيلم: إسكندرية كمان وكمان وكمان.. إلخ.
بعد افتتاح المعرض بيومين كنت أجلس أمام الصحفى الكبير الأستاذ عادل حمودة فى مقر مجلة روزاليوسف فى قصر العينى بعد أن أبلغنى أحد الأصدقاء أنه يريد أن يرانى بعد أن زار المعرض.
شاهد الرسوم التى أحضرتها معى وقال لى ببساطة آسرة: أنت معنا، وبالفعل كانت رسومى فى العدد الذى صدر بعدها بأيام قليلة..وكانت غالبها عبارة عن رسوم لشخصيات تم ذكرها فى الموضوعات.
ولكن بعد مرور فترة قصيرة انتقلت الرسوم من الصفحات الداخلية إلى الغلاف،لا أذكر الآن الغلاف الأول، ولكنى أذكر غلافه بعينه فى تلك الفترة وهو غلاف رسمت فيه شخصية الصحفى القدير محمد حسنين هيكل.
كان الأستاذ عادل حمودة يجرى مجموعة من الحوارات مع الأستاذ هيكل وهو اختيار موفق لما كان للأستاذ من جماهيرية إلا أنه كان بعيدا عن الأضواء.
ونزل العدد واشتريته مساء الجمعة كالمعتاد، والحقيقة أننى لم أكن راضيا عن البورتريه من حيث الناحية الفنية، لكن كانت هذه مشكلة من مشاكل الصحافة الضاغطة فى موضوع الوقت، خصوصا مع شخص كان لا يزال فى سنة أولى صحافة.
بعدها بيومين كان هناك من يتصل على التليفون الأرضى فى المنزل وكان المتصل من روزاليوسف وكنت معتادا على هذا لكى أعرف طبيعة العمل الذى سأقوم به ولكن المفاجأة أن المتصل لم يكن أحد أعضاء القسم الفنى بالمجلة بل كان الأستاذ عادل حمودة شخصيا!
سألنى إن كان لدى وقت لكى أحضر إلى المجلة الآن، وبالطبع كان لدى الوقت، ولكنى سألت عن السبب، فأجاب بأننا سنذهب إلى مكتب الأستاذ هيكل.. ماذا؟!
كان الأستاذ هيكل مستاء من البورتريه الذى قمت أنا برسمه، بالطبع أصبت بالتوتر، فأنا أتحدث عن شخصية تعتبر أسطورية، أشاهد صورها فقط على الصحف المطبوعة، حيث لم تكن تتوافر فى تلك الحقبة كل تلك الوسائط التى تضع كل المشاهير تحت الميكروسكوب وتقلبه يمينا ويسارا وتشاهد عيوبه وزلاته مما يفقده الهيبة، كان هيكل أسطوريا وبعيدا فى تلك الفترة، مما زاد من مخاوفى.
وصلت إلى مقر المجلة فى شارع قصر العينى وركبت مع الأستاذ عادل فى سيارته وانطلقنا إلى مكتب الأستاذ هيكل المطل على النيل بجوار الشيراتون.
عندما توقف بنا المصعد فتح الباب ووجدت أمامى رجلا نوبيا يرتدى عمامة كبيرة بيضاء وجلبابا أزرق محلى بالنقوش، كان الرجل كأنه خارج من أحد الأفلام القديمة الفخمة، وعندما خرجنا من المصعد كان الأستاذ هيكل منتظرنا عند مدخل المكتب وينظر إلىّ بشكل متفحص.
تقدم الأستاذ عادل وأنا مختبئ خلفه لكى نسلم على الأستاذ، إلا أنه لم يكن قاسيا أو عنيفا كما تصورت، ولكنه أراد الرد على البورتريه المرسوم على طريقته، فبدأ يصحبنا معه فى جولة داخل المكتب ويستعرض مجموعة من الصور الفوتوغرافية المعلقة على الحائط والتى كان الأستاذ هيكل عنصرا مشتركا فيها، حيث كانت جميعها صورا تجمعه مع زعماء وقادة من دول العالم المختلفة، وعلى ما أتذكر كانت معظم الصور كبيرة وغير ملونة، وفى إطار أنيق، وأثناء جولتنا الصغيرة هذه التفت إلىّ وسألنى بلهجة استنكار: ينفع يكون ده تمساح؟!
لم أفهم المعنى فى بادئ الأمر، ولكن عندما استرجعت شكل البورتريه و(صف) الأسنان العريض فهمت المعنى، تلعثمت فى البداية ولكنى تحدثت عن أن الفنان أحيانا ما يبالغ فى الملامح دون قصد أى إساءة ولكنها المبالغة الفنية.
جلسنا مع الأستاذ بعد ذلك فى مكتبه لمدة ما يقرب من ساعتين تحدث فيها عن فترة شبابه واتصاله برجال الثورة وعبدالناصر شخصيا، وهو ما بدا مبهرا بالنسبة لى أن أسمع من شخص مثله مباشرة عن أشخاص وأحداث كنت فقط أقرأ عنها.
عندما عدنا إلى المجلة أتذكر تعليقا من أحد الصحفيين الموهوبين أن من طبع هيكل وهو الذى تعرض إلى العديد من الانتقادات العنيفة ألا يرد أبدا على من يهاجمه، وعدم الرد هذا يحمل فى طياته نوعا من التعالى، إلا أن من الغريب أن يتكلم عن هذا الرسم وأن يستاء منه،وهو أمر جيد بالنسبة لأى صحفى، وهو الأمر الذى ظللت لسنوات بعدها أفتعل أى حوار يتم ذكر هيكل فيه لكى أتحدث عن لقائى به.
وفى محاولة للتعبير عن النوايا الحسنة قمت برسم الأستاذ مرة أخرى فى العدد التالى ولكن بشكل أنيق وكلاسيكى تماما.
ومن الطريف أن بعد تلك الواقعة بوقت قصير كان هناك حوار أجراه الأستاذ عادل حمودة مع السيد عمرو موسى وزير الخارجية فى تلك الفترة، ويبدو أننى لم أكن تعلمت من الدرس السابق فرسمت بورتريه بالغت فيه كثيرا فى التفاصيل، ولكنى أحببته فعلا وكنت أراه جيدا من الناحية الفنية، ولكن لأن القائمين على المجلة كانت لديهم الخبرة الكافية ، فكان القرار أن يكون هذا البورتريه داخل صفحات المجلة مع بورتريه خارجى آخر للسيد عمرو موسى يكون معتدلا فى خطوطه وبعيدا عن أى ملامح تمت للتمساح بأى صلة.