اليوم التالى لوقف إطلاق النار 3 سيناريوهات إسرائيلية لفرض «اليأس» على أهالى غزة

آلاء البدرى
أصبح الحل السياسى للعدوان على قطاع غزة ضرورة دولية ملحة، على الرغم من المصالح المتباينة والمتضاربة، وبعد أن وصلت المآسى الإنسانية غير المبررة إلى مستويات غير مسبوقة.
ويتعامل العالم بحذر شديد مع اللحظات الجارية من أجل إنهاء أكبر الأزمات الإنسانية التى عرفتها البشرية على الإطلاق، ومحاولة إصلاح ما دمرته الحرب الواسعة على قطاع غزة.
سيناريوهات ما بعد الحرب
السيناريو الأكثر ترجيحًا هو العودة ببطء إلى وضع ما قبل الحرب، ولكن مع تشديد تأمين الحدود بشكل أكبر بين قطاع غزة وإسرائيل، وتوسيع المناطق المحظورة داخل غزة، واستمرار الحصار شبه الكامل الذى فرضته إسرائيل على القطاع، مع تعيين حاكم عسكرى إسرائيلى للقطاع، وهو ما يجرى على أرض الواقع بالفعل، حيث تشير عمليات القصف المكثفة فى شمال وشرق قطاع غزة إلى أن الأمر يتعلق فى المقام الأول بتوسيع كبير للمناطق المحظورة، على طول السياج الحدودى مع إسرائيل.
وقد يظل جزء أكبر من شمال قطاع غزة مدمرًا وغير صالح للسكن، وستسعى إسرائيل لتعزيز سيطرتها العسكرية والاستخباراتية على البر والبحر والجو، وإغلاق جميع المعابر الحدودية المؤدية إلى غزة بشكل كبير، مما يشكل تهديدًا دائمًا على الاقتصاد والأمن الغذائى والطبى للقطاع، وأيضا المرافق الرئيسية مما سيلقى بعبء اقتصادى وإنسانى كبير، وضغط هائل على الجارة الأقرب للقطاع مصر.
وتؤدى تلك التدابير ليس إلى استمرار احتلال قطاع غزة فحسب، بل أيضًا إلى تعميقه، حيث سيكون هناك تهجير دائم لأولئك الذين اعتادوا العيش فيما سيصبح المنطقة العازلة الموسعة، الأمر الذى من شأنه أن يزيد من الضغوط الديموغرافية فى القطاع المكتظ بالسكان بالفعل، فضلًا عن التسبب فى المزيد من تقليص المساحات الزراعية المتاحة، كما قد يتعرض صيد الأسماك، وهو قطاع مهم من اقتصاد غزة لمزيد من التقليص، من خلال فرض حصار بحرى أكثر صرامة، وفى المجمل فإن الإغلاق المشدد من شأنه أن يعوق إعادة الإعمار ويخنق أى تنمية، ويبقى السكان معتمدين على المساعدات الدولية.
ويؤكد هذا السيناريو أنه رغم فرض السيطرة الإسرائيلية، إلا أنها ستضطر إلى قبول استمرار حماس فى غزة بشكل فعلى، وهو ما سيجعل حماس قادرة على إعادة ترتيب صفوفها مرة أخرى، ولا توفر الترتيبات الإسرائيلية الأمن للمواطنين الإسرائيليين، خاصة إذا كان ينظر إليها باعتبارها دائمة وليست مؤقتة، كونها ستغذى اليأس بين سكان غزة، وبالتالى توفر أرضًا خصبة للتجنيد من قبل جماعات المقاومة المسلحة.
وفى نهاية المطاف ستتقبل إسرائيل فكرة أن حماس ومجموعات المقاومة الفلسطينية رغم انتكاستها الأخيرة قوة لا يمكن هزيمتها عسكريًا فى صراع غير متكافئ، على الرغم من القوة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة كثيرًا والمتنوعة من حيث التسليح والدفاع.
وسيبقى هذا السيناريو «مؤقتًا» مهما حاولت إسرائيل ترسيخه، منتظرًا الشرارة لتشتعل الحرب من جديد، والتى ستكون أعنف وأكثر شراسة من الحرب القائمة على الشرق الأوسط كله.
أما السيناريو الثانى، فى حال فشل المفاوضات واستمرار العدوان الإسرائيلى على سكان القطاع فسينطوى على نكبة حقيقية أكبر، سينتج عنها تشرد دائم لملايين الأسر والأطفال فى قطاع غزة، بسبب عدم وضع حد زمنى لإنهاء العمليات العسكرية، أو وضع خارطة طريق لإعادة إعمار المناطق المتضررة فى القطاع، والمزيد من مخيمات اللاجئين والكوارث الإنسانية.
وهذا السيناريو أيضا يشكل عبئًا كبيرًا على الدول العربية ومصر بشكل خاص، التى ترفض بكل الطرق تصفية القضية الفلسطينية، أو أى حلول دائمة أو مؤقتة تحت أى وضع أو مسمى على حساب شعب مصر وأرضها.
والسيناريو الثالث الذى يتم تداوله بشكل كبير فى الصحف العالمية، رغم أنه الأبعد عن التطبيق فى الواقع، فإنه يتضمن وجود قوة دولية فى القطاع لضمان نزع السلاح الشامل والأمن، مع وضع قطاع غزة تحت إدارة دولية متعددة الجنسيات، وهذا يتطلب صدور قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموجب الفصل السابع، لكن هذا الحل يبدو بعيدا جدا عن التطبيق لعدة أسباب، أولا بسبب تضارب المصالح بين القوى التى لديها حق النقض فى مجلس الأمن (الولايات المتحدة من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى) بالإضافة إلى أن الحماس الدولى لبعثات حفظ السلام القوية تراجع بشكل كبير فى السنوات الأخيرة.
وثانيًا، رفض الفلسطينيين أنفسهم لهذا الحل ونزع السلاح عن المقاومة والعودة إلى نقطة الصفر، بعد أن أصبحت فصائل المقاومة الفلسطينية قادرة بشكل كبير على التصدى لجيش الاحتلال الإسرائيلى وردعه، والوقوف أمام عمليات الاستيطان غير الشرعية، ونهب الأراضى الفلسطينية من أصحابها، ورغم خسائرها البشرية إلا أنها لم تخسر الحرب.
ثالثًا، رفض إسرائيل أى اتفاق دولى بسبب أطماعها فى القطاع، وإصرارها على فرض تدابيرها الأمنية الخاصة ورغبتها فى إدارته واستغلال موارده، فضلًا عن ذلك فإن الأمم المتحدة تطالب بأن يكون نشر القوات جزءًا من عملية حل الصراع السياسى بشكل نهائى، ويتبع ذلك نقل السيطرة على غزة إلى السلطة الفلسطينية، وهو ما سترفضه إسرائيل شكلا وموضوعًا، لأنها ببساطة تريد فرض استراتيجيتها الخاصة الواضحة من البداية، وهى احتلال دون مسئولية، بمعنى فرض نظام أمنى جديد من شأنه أن يحافظ على سيطرة إسرائيل الشاملة على الأمن، ولكن فى الوقت نفسه ينهى مسؤولية إسرائيل عن المواطنين الفلسطينيين، وعن الحياة اليومية فى قطاع غزة.
غزة على أرض الواقع
على أرض الواقع خلقت أحداث السابع من أكتوبر وعدوان جيش الاحتلال الإسرائيلى حقائق جديدة، من خلال تطهير مناطق واسعة على طول السياج الحدودى لإنشاء منطقة عازلة داخل غزة، وهو ما ينظر إليه باعتباره شرطًا مسبقًا لعودة النازحين الإسرائيليين إلى المجتمعات المحيطة بغزة.
كما تعرضت غزة للدمار الكامل، فقد تضررت حوالى %70 من البنية التحتية المدنية، ويعتقد أن ما يقرب من نصف جميع المبانى السكنية لا يمكن إصلاحها، ما يترك الكثير من سكان غزة بلا مأوى.
ووفقًا للأمم المتحدة فإن حوالى 75 % من سكان غزة نزحوا داخليًا، وكثير منهم بشكل متكرر، وهم الآن محشورون فى مخيمات اللاجئين يفتقرون إلى المأوى والضروريات الأساسية، بما فى ذلك مياه الشرب الآمنة، وهم عرضة للأمراض والأوبئة، بالإضافة إلى المستشفيات والمدارس ودور العبادة ومنشآت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فى الشرق الأدنى «الأونروا» التى تؤوى النازحين داخليًا، والتى تعرضت للهجوم وقتل الكثير من أعضائها، مما يعنى انهيار أنظمة الصحة والتعليم فى غزة بشكل شبه كامل.
وعلى الرغم من أن إسرائيل سمحت لبعض المساعدات الإنسانية البسيطة بالدخول إلى غزة عبر رفح، بفضل الضغوط الدولية، إلا أنها كانت أقل بكثير مما هو مطلوب لتلبية الاحتياجات الهائلة، ولم يصل سوى القليل إلى شمال غزة.
وحذرت الأمم المتحدة من خطر المجاعة الوشيكة التى ستنتهى بكارثة إنسانية غير مسبوقة. ومن الناحية السياسية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية أبدًا تحت إشرافه، وأن إسرائيل سوف تحتفظ بالسيطرة الكاملة بين النهر والبحر، وأنه غير مستعد لوقف مشروع الاستيطان فى الضفة الغربية ولا أى توسع استيطانى فى أى منطقة من الأراضى الفلسطينية.
والأسوأ من ذلك أنه على الرغم من أن التغيير فى الحكومة فى إسرائيل من شأنه أن يحدث فارقًا كبيرًا استنادًا إلى استطلاعات الرأى الحالية والاتجاهات الطويلة الأجل، فإنه لن يغير الكثير فيما يتصل برفض قيام دولة الفلسطينية مستقلة ذات سيادة.
إعادة إعمار غزة
ذكرت وثيقة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أن تعافى اقتصاد غزة من العمليات العسكرية الإسرائيلية سوف يتطلب التزامًا ماليًا أعلى كثيرًا من الالتزامات التى قطعت بعد أى حرب حدثت فى الماضى، وسوف تكون التحديات هائلة، وسوف تشكل إزالة الأنقاض وإزالة الذخائر غير المنفجرة صعوبة بالغة، ورغم صعوبة تقدير حجم المساعدات المطلوبة فى خضم الدمار المستمر لا بد من اتخاذ جميع التدابير الممكنة، بما فى ذلك توفير المساكن المؤقتة التى هى مفتاح تحسين الوضع الإنسانى ومنع انتشار الأمراض، وسيكون إعادة بناء البنية الأساسية المدنية والإسكان أمرًا مهم للغاية، لتجنب النزوح الدائم والسماح بالتنمية الاقتصادية، وأيضا سيكون دعم الصحة العقلية ضروريًا للتعامل مع صدمات ما بعد الحرب والنزوح والمجاعة.
ولكن رغم طموحات إعادة الإعمار، إلا أن تحذيرات الأمم المتحدة التى أعلنتها قبل وقت طويل من أحداث السابع من أكتوبر لا تنذر بالخير، حيث حذرت مرارا وتكرارا من أن قطاع غزة أصبح غير صالح للسكن بسبب استنزاف مياه الشرب والتلوث البيئى، نتيجة لإغلاق القطاع، والحروب المتكررة والدمار، وانخفاض المساعدات الدولية، إلى جانب ارتفاع مستويات الفقر والبطالة بشكل كبير قبل الحرب، حيث كان %80 من سكان غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية مما سيجعل مهمة إعادة الإعمار مهمة صعبة وخطيرة وحقيقية تقع على عاتق المجتمع الدولى، وليس دولًا بعينها.
ولا بد أن تعالج المشاكل والتحديات الرئيسية بشكل منهجى ومدروس، ليس فقط استهداف العودة إلى الوضع الذى كان سائدًا قبل أحداث 7 أكتوبر 2023، بل ينبغى كسر الدائرة المفرغة من الدمار، وطى صفحة إعادة الإعمار الجزئى والحصار، واتخاذ تدابير أشمل، مثل ترميم مطار غزة الدولى، وبناء ميناء بحرى، وتمكين الحكومة الفلسطينية من تطوير حقول الغاز الطبيعى قبالة سواحل غزة، من أجل النهضة الاقتصادية، وتعزيز مسار سياسى يسعى نحو الاستقرار المستدام شكل ملموس.
ويرى المحللون الدوليون أن عملية إعمار غزة ستكون مستحيلة، ولن تتم فى الإطار الصحيح إذا لم تحقق ثلاثة متطلبات رئيسية، أولًا من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة فلا بد من رفع الحظر عن حرية تنقل الأشخاص والبضائع، وذلك من خلال إعادة النظر فى اتفاقية عام 2005 بشأن التنقل والوصول، وتكييفها مع الوضع الحالى بدلًا من ترديد الأوهام حول الجزر الاصطناعية، أو غيرها من المشاريع الضخمة المليارية.
وثانيًا من الضرورى استحداث آلية لضمان عدم تحويل مواد البناء لأغراض عسكرية، فى حين لم تعد إسرائيل تحدد الواردات والصادرات المسموح بها، كما كان الحال فى إطار آلية إعادة إعمار غزة السابقة.
وثالثًا يجب أن يكون هناك إشراف مناسب وشريف لضمان إنفاق الأموال وفقًا لأولويات غزة التى تحددها الهيئات الفلسطينية التمثيلية، وليس الوسطاء الأفراد الذين يهدرون المليارات فى بنود غامضة غير مفيدة لأبناء القطاع.
والواقع أن أى تقدم نحو السلام وإعادة الإعمار يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتوصل إلى اتفاق سياسى بشأن غزة، فضلًا عن عملية توفر احتمالات تقرير المصير الفلسطينى والأمن للإسرائيليين والفلسطينيين معا.