الأحد 20 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
عكس الاتجاه.. ألو  يا دقن

عكس الاتجاه.. ألو يا دقن

يقينًا لم يكن الوجه الكوميدى الساخر والأشهر صاحب الإفيهات النادرة والخالدة هو الوجه الوحيد والأوحد للعبقرى توفيق الدقن، ولم يكن هو الوجه الفنى الأهم فى مسيرة الدقن العريضة والمتنوعة مسرحيا وسينمائيًا وتليفزيونيًا وإذاعيًا، ولا لأن هذا الوجه الساخر قد ارتبطت به وأحبته الجماهير العربية الغفيرة قديمها وحديثها، ولا لأن مسرح الستينيات قد فُقِدَ وطُمِرَ فى المجهول، المسرح الذى يحوى أهم وأعظم (شُغل) الدقن.



ثمة وجه إنسانى يخفى تحته الكائن المثقف الواعى الهادئ قليل الكلام خفيض الصوت، والمنخرط والملتحم بالقضايا السياسية والاجتماعية والإنسانية الكبرى، اختار الدقن الناس ولم يختر القرب من السلطة، اختار مجالسة ومراقبة البسطاء المهمشين الذين صاروا هم وقود شخوصه الغرائبية الخالدة فنيا، اختار أن يقترب من البسطاء الواعين ذوى الثقافة والمعرفة والفطنة المُكتسبة بالخبرة وبالمعايشة وبقسوة العيشة.

آثر الدقن أن يخفى وجهه هذا عن الكثيرين، عن الصحافة مثلاً عن المعجبين أيضا، ليس خوفًا من بطش سلطة ولا رعبًا من نقد حواريى الأنظمة، ولكن ليؤكد ويُصقِل ويرسم بدقة ويصون ملامح وجهه الأصدق.

(وهذا ما سوف تطالع بعض ملامحه فى هذا الكتاب).

هنا تستطيع أن تقول بالفم الملآن ثقةً وبالقلب العامر إيمانًا أن الدقن كان كائنًا ثوريا له ملامح وسمت المناضلين، وقاد كثيرا من المواقف المشرفة مع زملائه ضد بطش وسطوة المسؤولين الكبار المهيمنين والمتنفذين- فى هذا الكتاب أكثر من مثل لهذه المواقف المشرفة- وكان لا يخاف أبدا من الغولة أم عيون حمرا ويعيّرها بالدم القانى فى المقلتين.

بل تستطيع أن تجده وسط أوائل الحاضرين فى الاعتصامات والغضْبات والمواقف الجدعة الحاشدة ضد ظلم أو قرارات مسؤول- غير مسؤول- حتى ولو مسّ ذلك لقمة عيشه وعيش عياله وزوجته وإخوته وأمه المسؤولين منه، حتى ولو تم سحب أدوار مسرحية وسينمائية منه عقابًا لهذه الجدعنة.

تستطيع أن تتفقد أرشيفه الفنى لتدرك أنه كان دائما ثانيَ اثنينِ من عتاولة الفن وعظمائه الخالدين: سعد وهبة وتوفيق صالح مثلا، لقد شكل الدقن ثنائيًا مسرحيا وسينمائيًا عظيم الشأن معهما.

هذا اليسارى الثائر الحالم لم يكن سلوكه منفصلًا عن بعضه ولا متفككا، بل كان فى السياق، فهو فى الفن والثقافة والفكر هو ذاته العاشق المُدَلّه بالقطط والكلاب، كانت أصحابه، يمنحها أسماءً ويجلس على رأس الكلبة والقطة الحامل أثناء الوضع ليعلم كم عدد الصغار، ويتمم على الأعداد كل يوم حتى لا تُسرّب الأسرة منها واحدا، ويأتيهم بالطعام مساء كل ليلة فى عودته من المسرح، وكان يطعم كلاب وقطط الشارع، تعرف مواعيد عودته وتنتظر الوجبة المسائية، لكن «جيمى» الكلب البلدى هو من فاز بالانضمام لأسرة توفيق الدقن وكانت والدته السيدة زكية الدقن هى من تعتنى به وترعاه كأحد أبنائها لا يفارقها، حظىَ القط «هشام» بذلك النصيب من الحب، وقد أسمته والدة الفنان بهذا الاسم تيمنًا باسم أحد أحفادها من ابنتها «سعاد»، و«سعاد» كانت هى الأحب والأقرب لأخيها الدقن، كانت سِرّه وستره وغطاه.

هذا الكتاب يُعنى بمسيرة الفنان الكبير والعملاق المتفرد، مسيرته الفنية والإنسانية، ستكون هى المرة الأولى التى تخرج فيها مذكرات الفنان القدير للضوء وقد قبعت فى أدراج مكتبه ببيته فى حى العباسية سنواتٍ طوالًا، ربما كانت مخطوطة منذ خمسين عامًا.

ستكون هى المرة الأولى التى يتعرف فيها الناس على جوانب كانت مُبهَمة فى حياة الفنان توفيق الدقن، وأهمها معتقده الفكرى ومواقفه كمناضل وكثائر يشهد عليها زملاؤه.

كانت له صولات وجولات وحكايات معظمها معروف عن علاقاته الطيبة بقطط وكلاب الشوارع وبقطط وكلب البيت الأوحد «جيمى» فقد نشأ فى عائلة بمجملها عاشقة لتربية القطط.. وحينما تزوج لم تكن زوجته من عاشقات القطط، لكنها صارت فيما بعد حينما وجدت غرام أولادها بها وشغفهم بإطعامها وبعلاجها.

كانت القطط تصعد إلى ترابيزة الطعام وتمد فمها فى طبق الدقن وتشاركه الأكل بسم الله وكان يستمر فى الأكل من الطبق ذاته، كانت قطط وكلاب حى العباسية تعرف موعد عودته لبيته متأخرًا كل ليلة بعد المسرح، كانت تنتظر وجبة عشاء متأخرة، وكان يحملها معه ويضعها لها على مدخل وسلالم العمارة حتى باب شقته بالدور الرابع.

هالة ابنته الكبرى الراحلة ورثت هذا الحب وهذا الإخلاص والتفانى فى تربية القطط، والدته هى من أورثت ذريتها عشق القطط المبالغ فيه جدا، وكانت تحب كلبها «جيمى» حبا جما لكنها كانت ترفض أن تسير له فى الشوارع أو أن يلاحقها رغما عنها، كانت تلتقط الطوب والحصى فى الطرقات وتهدده به إن تبعها وكانت تزجره بصوت عال يتبينه الجيران والمارة وهى تقول له: إنت فاكرنى بنت ذوات؟ عيب يا جيمى.

(ما سبق جزء من مقدمتى التى تضمنها كتاب شديد الأهمية عن عبقرى كل العصور توفيق الدقن لابن الخال والزميل «رشدى الدقن»).