العقوبات الغربية تحول التعاون التكتيكى إلى «تحالف» إيران وروسيا ماذا تعنى معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة؟!

الحسين عبدالفتاح
فى 17 يناير الجارى، توجت إيران وروسيا علاقتهما بتوقيع معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة، كخطوة مهمة فى تعميق التحالف بين البلدين، وسط ضغوط جيوسياسية، إقليمية ودولية. ومن ثم، فالمعاهدة التى يوقعها الرئيس الإيرانى، مسعود بزشكيان، خلال زيارته لموسكو، تأتى فى سياق تحولات واسعة فى الشرق الأوسط والعلاقات الدولية. لكن السؤال: ماذا عن تعزيز التعاون فى مجالات: الدفاع، الأمن، التجارة، والطاقة، التى تستهدفها عملية التحالف؟
منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، اتخذت موسكو وطهران خطوة استراتيجية تكتسب أهمية متزايدة فى ظل الضغوط التى تفرضها العقوبات الغربية على كلا البلدين، مما دفعهما إلى تحويل التعاون التكتيكى إلى تحالف استراتيجى، لتعزيز الموقف الدولى المشترك، فى مواجهة تحولات النظام العالمى، وتزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية.
التطور فى العلاقات الروسية-الإيرانية لم يولد من فراغ، بل نتاج مسار طويل بدأ منذ العقد الأول من الألفية الثالثة، بعدما تم توقيع اتفاقية شراكة شاملة عام 2001 بين البلدين، لكنها انتهت فى 2021، وإن كان تجديدها تطلب مواكبة التحولات التى فرضتها الحرب الأوكرانية، والتطورات الدرامية فى الشرق الأوسط، خاصة على الجبهة السورية.
الواقع الجيوسياسى حاليًا يعكس تحولًا عميقًا فى العلاقة بين البلدين، حيث بات التعاون بينهما ضرورة، ليس فقط ردًا على تحديات العقوبات الغربية، بل ومحاولة لخلق توازن إقليمى ودولى بعيد عن الهيمنة الأمريكية-الأوروبية، وفق الخطاب غير المعلن الصادر عن روسيا وطهران. وفى قلب هذه الشراكة تكمن العديد من المجالات الاستراتيجية التى تحمل فى طياتها أبعادًا جيوسياسية واقتصادية بالغة الأهمية.
العسكرى والأمنى
عسكريًا، تتسم العلاقات الدفاعية بين البلدين بالقوة والعمق، وتتراوح بين التنسيق العسكرى فى مناطق النزاع الساخنة، إلى تبادل الخبرات فى مجال الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية.
وليس سرًا أن إيران، التى تعتبر قوة إقليمية عسكرية مهمة، تطمح لتوسيع قدراتها الدفاعية من خلال هذه الشراكة، بينما ترى روسيا فى إيران شريكًا حيويًا فى تعزيز نفوذها فى الشرق الأوسط، وإن كان هذا التعاون سيثير قلق القوى الغربية التى ترى فى تقنيات الأسلحة المشتركة بين البلدين تهديدًا متزايدًا فى المنطقة.
تعزيز التعاون الدفاعى بين البلدين يتمثل فى تطوير وتبادل التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وهو ما يعكس خطوة استراتيجية للتصدى للتحديات الأمنية المتزايدة. من أبرز مجالات التعاون بين روسيا وإيران تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة، التى تعد من أبرز النقاط البارزة فى هذه الشراكة، فإيران، التى تعتبر من الدول الرائدة فى مجال تطوير الطائرات بدون طيار لأغراض عسكرية، تتعاون مع روسيا، التى تمتلك أيضًا تكنولوجيا متطورة فى هذا المجال، لتعزيز قدراتهما الدفاعية والهجومية.
لا يقتصر التعاون بين البلدين على استخدام الطائرات بدون طيار، بل يمتد أيضًا إلى تدريب القوات العسكرية وتبادل الخبرات. يشمل هذا التعاون تطوير المهارات فى القتال الحديث، وكذلك فى استخدام الأسلحة المتطورة مثل الصواريخ، فضلًا عن تعزيز التعاون فى مجالات الأمن السيبرانى والتكنولوجيا الدفاعية، ويُعتبر التدريب المشترك ساحة مهمة لتعزيز التنسيق بين الجيوش الإيرانية والروسية، مما يُسهم فى بناء القدرة العسكرية على مواجهة التحديات المختلفة فى المنطقة والعالم.
إلى جانب التعاون العسكرى، يظهر التعاون الأمنى بين إيران وروسيا الذى يُعد من أهم جوانب الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، ومن هنا يأتى التنسيق الوثيق بينهما فى محاربة الجماعات المتطرفة كأحد أوجه التنسيق الأمنى الذى يعزز استقرار النظامين ويضمن لهما تحصينًا ضد التهديدات الأمنية. فى المقابل، يتزايد القلق الغربى بشأن تطور هذه الشراكة.
مع تعزيز هذا التعاون، تزداد المخاوف الغربية من تأثيراته على الأمن الإقليمى والدولى.
يُحتمل أن يؤدى هذا التعاون إلى تصعيد التوترات فى منطقة الشرق الأوسط، خاصة فى ظل الدعم العسكرى الذى تقدمه روسيا لإيران فى النزاعات مثل الحرب السورية، لكن زيادة القوة العسكرية الإيرانية بفضل هذا التعاون قد يؤدى إلى تدخلات أكبر فى الصراعات الإقليمية، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمنى فى المنطقة.
يُعد هذا التعاون تهديدًا للنفوذ الغربى فى المنطقة. فمن خلال تعزيز تقنيات مثل الطائرات بدون طيار، قد تصبح إيران وروسيا أكثر قدرة على تهديد مصالح الدول الغربية، خاصة فيما يتعلق بالأمن السيبرانى وحماية البنى التحتية الحيوية، كما أن تعميق التعاون العسكرى بين البلدين قد يُسهم فى تغيير موازين القوى فى مناطق النزاع، مثل الشرق الأوسط وأوكرانيا، ويُسهم فى تحول مجريات هذه الصراعات لصالح قوى غير غربية.
تحول اقتصادى
تتعدد ملفات التعاون المشترك بين روسيا وإيران، ومن أهم المجالات التعاون فى الطاقة النووية. منذ البداية، كانت روسيا المورد الأساسى للتكنولوجيا النووية الإيرانية، وهو ما عزز مكانتها كشريك حيوى فى تحقيق إيران لطموحاتها النووية. هذه العلاقة تتجاوز مجرد توريد المعدات إلى شراكة استراتيجية طويلة الأمد تضمن للطرفين تأمين عقود ضخمة فى قطاع الطاقة. وبالنسبة لإيران، يعكس هذا التعاون رغبة قوية فى تحقيق استقلالية طاقوية بعيدًا عن الغرب، بينما بالنسبة لروسيا، تفتح هذه الشراكة أبوابًا جديدة فى سوق الطاقة النووية.
من بين التحولات الاقتصادية التى شهدتها العلاقة التقارب فى تعاملات البلدين التجارية.
ورغم أن التجارة بين البلدين شهدت انخفاضًا طفيفًا فى عام 2023 مقارنة بالعام الذى قبله، فإن المعاهدة الجديدة تؤكد رغبة روسيا وإيران فى تجاوز هذا التراجع وتعزيز تعاونهما الاقتصادى والتجارى خلال السنوات المقبلة، عبر تحسين شبكة النقل، سواء عبر الطرق البرية أو السكك الحديدية، بهدف تسهيل التبادل التجارى وزيادة حركة البضائع بين آسيا وأوروبا.
هذا التحسن فى البنية التحتية سيكون له تأثير كبير على تعزيز الترابط الاقتصادى بين البلدين، بالإضافة إلى تسهيل حركة الموارد بين إيران وروسيا، وكذلك بين منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وبالنسبة للطاقة، فإن إيران، الغنية بالموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، ستستفيد من التكنولوجيا الروسية المتقدمة فى مجال استخراج وتكرير الطاقة، مما يعزز القدرة الإنتاجية فى البلدين. بالإضافة إلى ذلك، سيتعاون البلدان فى مجال الطاقة المتجددة، مما يفتح آفاقًا جديدة للابتكار فى هذا القطاع.
وقت حاسم
أما فيما يتعلق بالاستثمارات الروسية فى إيران، فإن هذه الشراكة تأتى فى وقت حاسم بالنسبة للاقتصاد الإيرانى، الذى يعانى من العقوبات والضغوط الاقتصادية. يستهدف البلدان تعزيز الاستثمارات الروسية فى المشاريع الكبرى فى إيران، مثل تطوير الحقول النفطية والغازية، بالإضافة إلى الاستثمارات فى الصناعات الثقيلة مثل صناعة السيارات والطاقة النووية، ومن خلال هذه الاستثمارات، يمكن لإيران الاستفادة من التكنولوجيا الروسية المتقدمة لتحسين الإنتاجية وتعزيز نموها الاقتصادى، بينما تجد روسيا فرصة لتعزيز وجودها الاقتصادى فى منطقة الشرق الأوسط.
المعاهدة الجديدة بين البلدين ستتضمن خططًا لتوسيع التعاون فى قطاعات النفط والغاز، بالإضافة إلى مشاريع ضخمة فى مجال النقل والبنية التحتية. وبالنظر إلى العقوبات الغربية المفروضة على البلدين، أصبح من الضرورى البحث عن بدائل للتعاملات المالية، وهو ما دفع البلدين إلى تبنى استخدام العملتين المحليتين فى التبادل التجارى بدلًا من الدولار الأمريكى. هذا التوجه يهدف إلى تقليل تأثير العقوبات الغربية ويعزز الاستقلالية الاقتصادية للبلدين.
عواقب جيوسياسية
لا يمكن استبعاد العواقب الجيوسياسية المترتبة على تعزيز الشراكة بين روسيا وإيران، كون هذا التعاون يسهم فى إعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية إقليميًا ودوليًا. فالاتفاقية بين البلدين لم تعد مجرد رد فعل على النفوذ الغربى، بل أصبحت جزءًا من حراك أوسع يشمل قوى عالمية كالصين وكوريا الشمالية، ما يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى التفاعلات السياسية. هذا التحول يشير إلى تزايد قوة النظام الدولى متعدد الأقطاب، فى مواجهة الهيمنة الغربية التى سيطرت على العالم لعقود طويلة.
العلاقة بين روسيا وإيران، خاصة فى ظل التطورات الأخيرة فى أوكرانيا، تُعد مؤشرًا على صعود قوى جديدة تسعى لتحدى النظام القائم الذى تقوده القوى الغربية. من خلال تعزيز تعاونها مع إيران، التى تتزايد توتراتها مع الغرب، تتمكن موسكو من تقوية دورها كقوة جيوسياسية منافسة. هذا التعاون يعزز، فى الوقت نفسه، من مكانة روسيا فى إعادة تشكيل ملامح النظام الدولى الذى يتحول تدريجيًا نحو تعددية الأقطاب.
الشراكة بين روسيا وإيران لا تحدث فى فراغ، بل تتزامن مع تقارب مماثل مع قوى أخرى مثل الصين وكوريا الشمالية، ما يعكس تحركًا نحو بناء محور جديد يهدف إلى تقليص نفوذ القوى الغربية فى مناطق حساسة مثل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
تعاون.. ولكن
من المتوقع أن يؤدى هذا التعاون إلى تحول فى السياسة الإقليمية، خصوصًا فى مجالات الطاقة والأمن، فإيران، التى تُعد لاعبًا رئيسيًا فى سوق الطاقة العالمى، ستتمكن من تعزيز مكانتها الاقتصادية من خلال الدعم الروسى فى مشاريعها النووية والطاقة، بينما ستتمكن روسيا من ترسيخ نفوذها فى أسواق الطاقة، لا سيما فى منطقة الشرق الأوسط التى تُعد أحد المصادر الأساسية للطاقة العالمية. هذا التعاون سيعزز أيضًا نفوذ إيران الإقليمى، مما يساهم فى زيادة التوترات مع القوى الغربية التى تسعى لتقليص هذا التأثير الإيرانى عبر العقوبات والضغوط الدبلوماسية.
زيادة التعاون بين روسيا وإيران قد يؤدى إلى تصعيد التوترات بين هذه القوى والدول الغربية، خاصة أن هذا التعاون سيمنح إيران قدرة أكبر على مواجهة العقوبات الاقتصادية التى تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، حيث ستصبح شراكتها مع روسيا بمثابة شبكة أمان استراتيجية. فى المقابل، قد يدفع هذا القوى الغربية إلى اتخاذ تدابير أكثر صرامة، سواء عبر فرض عقوبات إضافية أو من خلال تعزيز تحالفاتها الإقليمية لمحاولة مواجهة هذا التنسيق الاستراتيجى.
استراتيجيًا، سيكون لهذا التعاون تأثيرات هامة فى السياسة الإقليمية والدولية. ومرحليًا، يمكن أن يؤدى هذا التحالف إلى زيادة التوترات والنزاعات العسكرية فى مناطق كسوريا والعراق واليمن، حيث تتشابك مصالح الأطراف المتنافسة. ما يعنى أنه قد يسهم فى إعادة تشكيل النظام الأمنى الإقليمى والعالمى، مما يفتح المجال لمزيد من التنافس بين القوى الكبرى ويزيد من تعقيد المعادلات السياسية والاقتصادية فى العالم.