الأربعاء 11 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ترامب الجديد..  الإدارة بالعضلات لا بالصفقات!‏

ترامب الجديد.. الإدارة بالعضلات لا بالصفقات!‏

‏ قبل أن يجلس خلف مكتبه البيضاوى فى البيت الأبيض، وعلى غير الأعراف السياسية لأى ‏رئيس أمريكى منتخب، راح دونالد ترامب على شبكات التواصل الاجتماعى يهدد ويتوعد ‏جيرانه فى القارة الأمريكية، وحلفاءه من العرب فى الشرق الأوسط، و44 % من سكان ‏كوكب الأرض، بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا لم يرضخوا لأفكاره ويتبعوا سياساته ‏وقراراته!‏



قد لا تعنينا كثيرا تهديداته لكندا والمكسيك، بفرض رسوم جمركية عالية على السلع ‏المستوردة من الدولتين، فهم جيران، سواء يصطفون مع بعضهم أو يغضبون، فهو شأن قارى ‏بحت، خلف المحيط الأطلنطى.‏

لكن بالقطع تعنينا تهديداته للشرق الأوسط، الذى توعده بالجحيم، إذا لم يتدخل أهل المنطقة، ‏ويعملوا على إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين فى غزة، قبل موعد استلامه ‏السلطة رسميا فى 20 يناير المقبل.‏

وبالطبع تعنينا تهديداته لدول البريكس، والتى تبدو كإعلان حرب تجارية، بفرض رسوم ‏جمركية على سلعها المصدرة إلى أمريكا بنسبة 100 %، إذا ما فكرت هذه الدول فى إصدار ‏عملة جديدة تتعامل بها بديلا عن الدولار، ومجموعة البريكس فيها ثلاث دول عربية هى ‏السعودية والإمارات ومصر، مع الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا وإثيوبيا ‏والأرجنتين وإيران.‏

لو ابتعدنا قليلا عن تفاصيل التهديدات، ونظرنا إلى الصورة الكلية، سنجد أنفسنا أمام ‏نظام دولى مأزوم ليس فقط فى أعمدته الأساسية وقواعده المنظمة للعلاقات الدولية، بل فى «الأدوات» الدبلوماسية التى يعمل بها: المفاوضات والمعاهدات والاتفاقات.‏

بالقطع الاقتصاد هو «لب» الصراع، حتى فى القضية الفلسطينية الملتهبة بالشرق الأوسط، فقد ‏حولها ترامب بخبرة السمسار إلى «عملية ابتزاز» بالتراضى، بأن تمد الدول العربية حبال ‏الود والعلاقات الطبيعية مع إسرائيل، ليمكن الدولة الصهيونية من «صدارة» المنطقة اقتصاديا ‏وسياسيا، مقابل أن تتعهد أو تعد بالموافقة على تأسيس دولة فلسيطنية حين ميسرة!‏

ولن نفاجأ عند تحليل تهديدات ترامب علميا، بأن الرئيس الأمريكى المنتخب يكتب بوستاته ‏وتعليقاته كما لو أنه من النشطاء العاديين جنرالات المقاهى، الإثارة قبل الدِّقة، الاندفاع قبل ‏الحسابات، الانطباع قبل المعلومات، الشعبية قبل المسئولية!‏

‏ وقد كشفت رئيسة المكسيك الدكتورة كلوديا شينباوم هذه العورات ببساطة متناهية، إذا ردت ‏قائلة: لو فعلت ذلك سيفقد 400 ألف أمريكى وظائفهم فى اليوم التالى.

أى لم يحسب ترامب عواقب فكرته، وتصور أنه يستطيع أن يعاقب المكسيك اقتصاديا دون ‏أن يصيب الأمريكيين تداعياتها، مثلا نصف الفاكهة التى يستهلكها الأمريكان، و60 % من ‏الطماطم تأتيهم من المكسيك!‏

وقد حذر البريطانى ريتشارد جى ميرفى أستاذ الاقتصاد السياسى فى جامعة شيفلد من ‏عواقب هذه الرسوم الجمركية، وقال إن الأمريكيين سيتوجعون منها فى معيشتهم اليومية، ‏وشرح الأسباب بالأرقام فى فيديوهين نشرهما على اليوتيوب، الأول بعنوان : ترامب يعلن ‏الحرب التجارية وشعب الولايات المتحدة سيعانى، والثانى بعنوان: ترامب سوف يجعل ‏أمريكا فقيرة مرة أخرى!‏

وبالمناسبة، الرئيسة المكسيكية كلوديا حاصلة على درجة الدكتوراه فى هندسة الطاقة، وبالرغم ‏من أصولها اليهودية فهى من أنصار الاعتراف بدولة فلسطينية مثل دولة إسرائيل، وأن ‏الحرب فى الشرق الأوسط لن تؤدى أبدا إلى أى وجهة جيدة، على العكس تماما من رؤية ‏ترامب العمياء، والفجوة بينهما سببها العلم والمعرفة.‏

والسؤال: هل يمكن أن يستمر النظام الدولى الحالى فى ظل هيمنة الولايات المتحدة، التى ‏يديرها رئيس مثل دونالد ترامب؟

تهديداته لـ44 % من سكان العالم هم دول البريكس تصرخ: هذا نظام فقد صلاحيته!‏

بالطبع هذه التهديدات هى محاولة أمريكية جديدة للحفاظ على النظام الدولى الحالى، وقطع ‏الطريق أمام أى بديل له..

المدهش أن ترامب وهو يهدد دول البريكس، لم يحسب قدراتها بدقة، صحيح أن الولايات ‏المتحدة هى أقوى اقتصاد فى العالم، ويتجاوز الناتج المحلى الإجمالى له 27 تريليون ‏دولار، تعادل 25 % من الناتج العالمى، إلا أن الناتج المحلى الإجمالى لدول البريكس الـ11 ‏يقترب من 33 تريليون دولار، وأسواقه بها ثلاثة مليارات و624 مليون مستهلك!‏

ربما حسبها بطريقة مختلفة، أن عملة جديدة خاصة بدول البريكس فى المعاملات التجارية ‏الدولية تعنى زحزحة الدولار بدرجة ما عن عرش العملة الأكثر تداولا فى العالم، والعالم ‏يدار بالدولار كما يدار بالسلاح، خلاف الديون الأمريكية وتأثيره عليها، فأمريكا هى أكبر ‏مدين على كوكب الأرض بـ35 تريليون دولار تقريبا، 30 % ديون خارجية، و70 % ديون ‏داخلية، وهى كل فترة تسدد جزءا من ديونها القديمة بديون جديدة، إذ تطرح ويشتريها ‏مستثمرون محليون وأجانب، فإذا تراجع دور الدولار عالميا، سيتراجع تباعا حجم التعاملات ‏عليه.‏

وفى الواقع لا تفكر دول البريكس فى إصدار عملة خاصة بها، وقد نفت جنوب إفريقيا إحدى ‏الدول المؤسسة للبريكس وجود هذا المخطط أصلا، وأصدرت بيانا قالت فيها إن مجموعة ‏بريكس تقوم على استخدام العملات الوطنية فى التبادل التجارى بين الدول الأعضاء فقط.‏

‏ وسخرت روسيا من تهديدات ترامب وقال ديمترى بيسكوف المتحدث باسم الكرملين إن أى ‏محاولة أمريكية لإجبار الدول على استخدام الدولار ستؤدى إلى نتائج عكسية، فالدولار يفقد ‏جاذبيته كعملة احتياطية للعديد من البلدان.‏

ولم ترد الصين كعادتها، أو بمعنى أدق اتبعت نفس السياسة التى ألزمت بها نفسها منذ الطفرة ‏الاقتصادية الحضارية التى صنعتها فى السنوات الثلاثين الأخيرة، وهى اتخاذ قرارات ‏مضادة، وقد سبق للولايات المتحدة أن فرضت تعريفات جمركية على سلع صينية، ففرضت ‏الصين بالتبعية تعريفات على قطاعات الزراعة والسيارات والآلات الأمريكية، وتبنت ‏سياسات لدعم الصناعات المحلية بإعانات وحوافز، ثم دخلت فى مفاوضات مع الولايات ‏المتحدة، وفى الوقت نفسه بحثت عن شركاء تجاريين آخرين، وقللت الاعتماد على السوق ‏الأمريكية، ثم قدمت شكوى إلى منظمة التجارة العالمية تتهم فيها أمريكا بانتهاك قواعد ‏التجارة الدولية، وهى تعلم أن المنظمة لن تحرك ساكنا! ‏

أما الاقتصادى الأمريكى ريتشارد دى وولف الأستاذ الزائر فى برامج جوليان جيه ستودلى ‏للدراسات العليا فى «ذا نيول سكول»، فقد وصف مجموعة بريكس بأنها نظام عالمى جديد، ‏يتشكل على مهل، وبالقطع ثمة اختلافات كبيرة داخل مجموعة البريكس، لكنها لن تطغى ‏عليهم الآن.‏

‏ وقال، وهو يسارى قديم، إن الاقتصاد الأمريكى فى مأزق، فالحكومة عليها أن تنفق قدرا كبيرا ‏من الأموال على خدمة ديونها، مثلما تنفق على الدفاع، وأهمية الدولار تتراجع الآن، ولم يعد ‏بالقوة التى كان عليها قبل 20 أو 30 سنة، والإمبراطورية تتراجع، إذا خسرت من قبل ‏حروبا عدة حول العالم، فى فيتنام وأفغانستان والعراق، والآن هم يخسرون فى أوكرانيا، ‏تذكروا معى ما قاله زعماء الغرب عن روسيا فى فبراير ومارس 2022، بأن روسيا ستندم، ‏سينهار الروبل، وستتفكك هى إلى قطع صغيرة، وسيخرج بوتين من مكتبه.. قالوا ذلك لأنهم ‏لم يفهموا أن روسيا لديها خيارات كثيرة، كأن تبيع النفط والغاز إلى الهند والصين، وتبرم ‏اتفاقات مع 30 دولة أخرى.‏

أن النظام الاقتصادى العالمى الجديد الذى يتشكل الآن هو الذى سيحدد مستقبل الاقتصاد ‏للجميع، ولو راجعنا الفصل العاشر من بيان مجموعة البريكس التأسيسى سنجد أسباب نشأتها: ‏نحن نشعر بقلق عميق تجاه التأثيرات المدمرة للإجراءات القسرية غير القانونية، أحادية ‏الجانب، على الاقتصاد العالمى والتجارة الدولية، وأهداف التنمية المستدامة، هذه الإجراءات ‏ما فيها أيضا من عقوبات تقوّض ميثاق الأمم المتحدة ونظام التجارة متعدد الأطراف ‏والاتفاقيات البيئية والتنمية المستدامة، وبالتالى تؤثر سلبا على النمو الاقتصادى والطاقة ‏والصحة والأمن الغذائى، مما يزيد من الفقر وتغيرات البيئة.‏

نعم هذه هى أسباب حاجة العالم إلى نظام اقتصادى دولى جديد.‏

‏ وقال فى فيديو مذاع على اليوتيوب: من الواضح أن الهجوم الأمريكى- الناتو على روسيا ‏سيمتد إلى المحيط الهادى (الصين)، وسيؤثر على كل دول البريكس، وجزء من هذا الهجوم ‏تلعبه إسرائيل، والمدهش أن الدول العربية والإسلامية لا تحتج ولا تعمل على إيقاف الإبادة ‏الجماعية الفلسطينية، وهذا يجعلهم عرضة لاستمرار إسرائيل والولايات المتحدة فى تنفيذ ‏خطة المحافظين الجدد للاستيلاء على سوريا والعراق، ولا نستبعد دول النفط أيضا، ألم ‏يُظهر نيتنياهو خريطة إسرائيل الكبرى أمام العالم فى الأمم المتحدة؟!‏

‏ يبدو أن العالم فعلا مقبل على حرب تجارية، قد تكون أشرس من حرب السلاح، فلا يمكن ‏أن تقف دول البريكس مكتوفة الأيدى أمام أى عقوبات تفرضها الولايات المتحدة.‏

إنه فعلاً عالم مجنون مجنون مجنون!!‏