نبيل عمر
ترامب الجديد.. الإدارة بالعضلات لا بالصفقات!
قبل أن يجلس خلف مكتبه البيضاوى فى البيت الأبيض، وعلى غير الأعراف السياسية لأى رئيس أمريكى منتخب، راح دونالد ترامب على شبكات التواصل الاجتماعى يهدد ويتوعد جيرانه فى القارة الأمريكية، وحلفاءه من العرب فى الشرق الأوسط، و44 % من سكان كوكب الأرض، بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا لم يرضخوا لأفكاره ويتبعوا سياساته وقراراته!
قد لا تعنينا كثيرا تهديداته لكندا والمكسيك، بفرض رسوم جمركية عالية على السلع المستوردة من الدولتين، فهم جيران، سواء يصطفون مع بعضهم أو يغضبون، فهو شأن قارى بحت، خلف المحيط الأطلنطى.
لكن بالقطع تعنينا تهديداته للشرق الأوسط، الذى توعده بالجحيم، إذا لم يتدخل أهل المنطقة، ويعملوا على إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين فى غزة، قبل موعد استلامه السلطة رسميا فى 20 يناير المقبل.
وبالطبع تعنينا تهديداته لدول البريكس، والتى تبدو كإعلان حرب تجارية، بفرض رسوم جمركية على سلعها المصدرة إلى أمريكا بنسبة 100 %، إذا ما فكرت هذه الدول فى إصدار عملة جديدة تتعامل بها بديلا عن الدولار، ومجموعة البريكس فيها ثلاث دول عربية هى السعودية والإمارات ومصر، مع الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا وإثيوبيا والأرجنتين وإيران.
لو ابتعدنا قليلا عن تفاصيل التهديدات، ونظرنا إلى الصورة الكلية، سنجد أنفسنا أمام نظام دولى مأزوم ليس فقط فى أعمدته الأساسية وقواعده المنظمة للعلاقات الدولية، بل فى «الأدوات» الدبلوماسية التى يعمل بها: المفاوضات والمعاهدات والاتفاقات.
بالقطع الاقتصاد هو «لب» الصراع، حتى فى القضية الفلسطينية الملتهبة بالشرق الأوسط، فقد حولها ترامب بخبرة السمسار إلى «عملية ابتزاز» بالتراضى، بأن تمد الدول العربية حبال الود والعلاقات الطبيعية مع إسرائيل، ليمكن الدولة الصهيونية من «صدارة» المنطقة اقتصاديا وسياسيا، مقابل أن تتعهد أو تعد بالموافقة على تأسيس دولة فلسيطنية حين ميسرة!
ولن نفاجأ عند تحليل تهديدات ترامب علميا، بأن الرئيس الأمريكى المنتخب يكتب بوستاته وتعليقاته كما لو أنه من النشطاء العاديين جنرالات المقاهى، الإثارة قبل الدِّقة، الاندفاع قبل الحسابات، الانطباع قبل المعلومات، الشعبية قبل المسئولية!
وقد كشفت رئيسة المكسيك الدكتورة كلوديا شينباوم هذه العورات ببساطة متناهية، إذا ردت قائلة: لو فعلت ذلك سيفقد 400 ألف أمريكى وظائفهم فى اليوم التالى.
أى لم يحسب ترامب عواقب فكرته، وتصور أنه يستطيع أن يعاقب المكسيك اقتصاديا دون أن يصيب الأمريكيين تداعياتها، مثلا نصف الفاكهة التى يستهلكها الأمريكان، و60 % من الطماطم تأتيهم من المكسيك!
وقد حذر البريطانى ريتشارد جى ميرفى أستاذ الاقتصاد السياسى فى جامعة شيفلد من عواقب هذه الرسوم الجمركية، وقال إن الأمريكيين سيتوجعون منها فى معيشتهم اليومية، وشرح الأسباب بالأرقام فى فيديوهين نشرهما على اليوتيوب، الأول بعنوان : ترامب يعلن الحرب التجارية وشعب الولايات المتحدة سيعانى، والثانى بعنوان: ترامب سوف يجعل أمريكا فقيرة مرة أخرى!
وبالمناسبة، الرئيسة المكسيكية كلوديا حاصلة على درجة الدكتوراه فى هندسة الطاقة، وبالرغم من أصولها اليهودية فهى من أنصار الاعتراف بدولة فلسطينية مثل دولة إسرائيل، وأن الحرب فى الشرق الأوسط لن تؤدى أبدا إلى أى وجهة جيدة، على العكس تماما من رؤية ترامب العمياء، والفجوة بينهما سببها العلم والمعرفة.
والسؤال: هل يمكن أن يستمر النظام الدولى الحالى فى ظل هيمنة الولايات المتحدة، التى يديرها رئيس مثل دونالد ترامب؟
تهديداته لـ44 % من سكان العالم هم دول البريكس تصرخ: هذا نظام فقد صلاحيته!
بالطبع هذه التهديدات هى محاولة أمريكية جديدة للحفاظ على النظام الدولى الحالى، وقطع الطريق أمام أى بديل له..
المدهش أن ترامب وهو يهدد دول البريكس، لم يحسب قدراتها بدقة، صحيح أن الولايات المتحدة هى أقوى اقتصاد فى العالم، ويتجاوز الناتج المحلى الإجمالى له 27 تريليون دولار، تعادل 25 % من الناتج العالمى، إلا أن الناتج المحلى الإجمالى لدول البريكس الـ11 يقترب من 33 تريليون دولار، وأسواقه بها ثلاثة مليارات و624 مليون مستهلك!
ربما حسبها بطريقة مختلفة، أن عملة جديدة خاصة بدول البريكس فى المعاملات التجارية الدولية تعنى زحزحة الدولار بدرجة ما عن عرش العملة الأكثر تداولا فى العالم، والعالم يدار بالدولار كما يدار بالسلاح، خلاف الديون الأمريكية وتأثيره عليها، فأمريكا هى أكبر مدين على كوكب الأرض بـ35 تريليون دولار تقريبا، 30 % ديون خارجية، و70 % ديون داخلية، وهى كل فترة تسدد جزءا من ديونها القديمة بديون جديدة، إذ تطرح ويشتريها مستثمرون محليون وأجانب، فإذا تراجع دور الدولار عالميا، سيتراجع تباعا حجم التعاملات عليه.
وفى الواقع لا تفكر دول البريكس فى إصدار عملة خاصة بها، وقد نفت جنوب إفريقيا إحدى الدول المؤسسة للبريكس وجود هذا المخطط أصلا، وأصدرت بيانا قالت فيها إن مجموعة بريكس تقوم على استخدام العملات الوطنية فى التبادل التجارى بين الدول الأعضاء فقط.
وسخرت روسيا من تهديدات ترامب وقال ديمترى بيسكوف المتحدث باسم الكرملين إن أى محاولة أمريكية لإجبار الدول على استخدام الدولار ستؤدى إلى نتائج عكسية، فالدولار يفقد جاذبيته كعملة احتياطية للعديد من البلدان.
ولم ترد الصين كعادتها، أو بمعنى أدق اتبعت نفس السياسة التى ألزمت بها نفسها منذ الطفرة الاقتصادية الحضارية التى صنعتها فى السنوات الثلاثين الأخيرة، وهى اتخاذ قرارات مضادة، وقد سبق للولايات المتحدة أن فرضت تعريفات جمركية على سلع صينية، ففرضت الصين بالتبعية تعريفات على قطاعات الزراعة والسيارات والآلات الأمريكية، وتبنت سياسات لدعم الصناعات المحلية بإعانات وحوافز، ثم دخلت فى مفاوضات مع الولايات المتحدة، وفى الوقت نفسه بحثت عن شركاء تجاريين آخرين، وقللت الاعتماد على السوق الأمريكية، ثم قدمت شكوى إلى منظمة التجارة العالمية تتهم فيها أمريكا بانتهاك قواعد التجارة الدولية، وهى تعلم أن المنظمة لن تحرك ساكنا!
أما الاقتصادى الأمريكى ريتشارد دى وولف الأستاذ الزائر فى برامج جوليان جيه ستودلى للدراسات العليا فى «ذا نيول سكول»، فقد وصف مجموعة بريكس بأنها نظام عالمى جديد، يتشكل على مهل، وبالقطع ثمة اختلافات كبيرة داخل مجموعة البريكس، لكنها لن تطغى عليهم الآن.
وقال، وهو يسارى قديم، إن الاقتصاد الأمريكى فى مأزق، فالحكومة عليها أن تنفق قدرا كبيرا من الأموال على خدمة ديونها، مثلما تنفق على الدفاع، وأهمية الدولار تتراجع الآن، ولم يعد بالقوة التى كان عليها قبل 20 أو 30 سنة، والإمبراطورية تتراجع، إذا خسرت من قبل حروبا عدة حول العالم، فى فيتنام وأفغانستان والعراق، والآن هم يخسرون فى أوكرانيا، تذكروا معى ما قاله زعماء الغرب عن روسيا فى فبراير ومارس 2022، بأن روسيا ستندم، سينهار الروبل، وستتفكك هى إلى قطع صغيرة، وسيخرج بوتين من مكتبه.. قالوا ذلك لأنهم لم يفهموا أن روسيا لديها خيارات كثيرة، كأن تبيع النفط والغاز إلى الهند والصين، وتبرم اتفاقات مع 30 دولة أخرى.
أن النظام الاقتصادى العالمى الجديد الذى يتشكل الآن هو الذى سيحدد مستقبل الاقتصاد للجميع، ولو راجعنا الفصل العاشر من بيان مجموعة البريكس التأسيسى سنجد أسباب نشأتها: نحن نشعر بقلق عميق تجاه التأثيرات المدمرة للإجراءات القسرية غير القانونية، أحادية الجانب، على الاقتصاد العالمى والتجارة الدولية، وأهداف التنمية المستدامة، هذه الإجراءات ما فيها أيضا من عقوبات تقوّض ميثاق الأمم المتحدة ونظام التجارة متعدد الأطراف والاتفاقيات البيئية والتنمية المستدامة، وبالتالى تؤثر سلبا على النمو الاقتصادى والطاقة والصحة والأمن الغذائى، مما يزيد من الفقر وتغيرات البيئة.
نعم هذه هى أسباب حاجة العالم إلى نظام اقتصادى دولى جديد.
وقال فى فيديو مذاع على اليوتيوب: من الواضح أن الهجوم الأمريكى- الناتو على روسيا سيمتد إلى المحيط الهادى (الصين)، وسيؤثر على كل دول البريكس، وجزء من هذا الهجوم تلعبه إسرائيل، والمدهش أن الدول العربية والإسلامية لا تحتج ولا تعمل على إيقاف الإبادة الجماعية الفلسطينية، وهذا يجعلهم عرضة لاستمرار إسرائيل والولايات المتحدة فى تنفيذ خطة المحافظين الجدد للاستيلاء على سوريا والعراق، ولا نستبعد دول النفط أيضا، ألم يُظهر نيتنياهو خريطة إسرائيل الكبرى أمام العالم فى الأمم المتحدة؟!
يبدو أن العالم فعلا مقبل على حرب تجارية، قد تكون أشرس من حرب السلاح، فلا يمكن أن تقف دول البريكس مكتوفة الأيدى أمام أى عقوبات تفرضها الولايات المتحدة.
إنه فعلاً عالم مجنون مجنون مجنون!!