نبيل عمر
ترامب وتغيير أمريكا على طريقة قيصر روما!
أتصور أن أكثر الناس إحساسًا بالصدمة بعودة دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض هم الإعلاميون والفنانون والكتاب والمفكرون، لا أقصد خارج الولايات المتحدة وإنما داخل الولايات المتحدة نفسها، خاصة أن الفوز كان كاسحًا فى المجمع الانتخابى، 312 صوتًا له مقابل226 صوتًا لكامالا هاريس، يعنى ( 58 %، مقابل 42 %)، بفارق 16 %، بينما التصويت الشعبى لا يعكس هذا الفارق الهائل، فلم يتجاوز 2.2 %، أى حوالى ثلاثة ملايين و300 ألف صوت زيادة لترامب عن هاريس، من إجمالى 147 مليون ناخب تقريبًا أدلوا بأصواتهم!، والمدهش أن ترامب كسب الانتخابات الأمريكية فى 2016 وكان خاسرًا التصويت الشعبى بثلاثة ملايين ومئة ألف صوت، لكن المجمع الانتخابى صوت له (306 مقابل 232).
ونستطيع أن نصف «التصويت ببساطة بأن الولايات الأكثر تعليمًا وثقافة هى التى صوتت لكامالا هاريس، وهى تسع ولايات فى الساحل الشرقى، وثلاث ولايات فى الساحل الغربى، بينما ولايات الوسط والجنوب هى التى صوتت لدونالد ترامب، مع الأخذ فى الاعتبار أن ثمة ولايات مغلقة على الحزب الجمهورى مثل فلوريدا،تكساس، تينيسى، كناتيكت،الباما، وست فرجينيا، وايومينج، وإيداهو.
ولهذا لم يكن غريبًا أن نقرأ مقالًا مثيرًا فى جريدة نيويورك بوست، يصف هذه الحالة بعنوان عجيب: بفوز ترامب..أعلن الأمريكيون العاديون..استقلالهم عن النخبة.
وقال الكاتب كيفين روبرتس: لم تكن الانتخابات تدور حول ترامب الذى كان كيانًا معروفًا منذ عام 2015، أو كامالا هاريس أو جو بايدن اللذين قبلا تبادل المنصب، ووضح أنهما كانا مجرد ثوب فارغ فى آلة حزب أحادى، لقد انتهت الانتخابات إلى شيء أكثر جوهرية، وهى انتفاضة الأمريكيين وإعلان الاستقلال عن السلطة المركزية فى العاصمة واشنطن، لقد انتهى عصر تلاعب النخبة، لقد أخبرونا أن الجريمة انخفضت وأن التضخم لم يعد ذا أهمية وأن وفيات إدمان المخدرات تراجعت، وأن الهجرة تحت السيطرة، ولم يكن ذلك صادقًا.
فوز ترامب يعنى أن الشعب الأمريكى الذى يشعر كثير منهم بعدم الأمان فى الشارع، ويحزنون على أحبائهم الذين تناولوا جرعة زائدة من المخدرات، أو تعرضوا للأذى من الأجانب غير الشرعيين لا يصدقهم، ويعنى أننا إذا طورنا السياسات المحافظة اليوم، يمكننا أن نجعل أمريكا أكثر أمانًا وأكثر فضيلة وأكثر ازدهارًا لأطفالنا، أن حركتنا شاملة متنوعة، تتشكل من المديرين التنفيذيين، 60 % من أعضاء اتحاد سائقى الشاحنات، يهود نيويورك، مسلمى ديترويت، البروتستانت الإنجليين فى ولاية كارولينا الشمالية، الكاثوليك التقليديين فى ولاية بنسلفانيا، أباطرة النفط فى تكساس، وسود على بيض على لاتينيين، والسؤال: ما الذى يوحد هذه الحركة الشاملة؟، الجواب بسيط جدًا: الأمريكيون يريدون استعادة بلادهم، يريدون العودة إلى العقل والحكم الذاتى والحياة الطيبة، وكما حدث فى الانتخابات الساحقة عام 1984 عندما أعاد الأمريكيون انتخاب الرئيس رونالد ريجان لهزيمة الشيوعية، أعادوا انتخاب ترامب لهزيمة الدولة العميقة.
يجب أن تنتقل هذه المعركة من ساحة الأفكار المجردة إلى خنادق المؤسسات التقليدية، الوكالات الفيدرالية، الجدران الحدودية، قاعات مجالس إدارات الشركات، مقرات الولايات، ومجالس إدارات المدارس المحلية!!
دعوة سافرة إلى قلب الأوضاع فى أمريكا أو تحريض يقترب من الغوغائية، وهذا ليس غريبًا من جريدة محافظة عمرها 223 سنة، تحولت من صحيفة عريضة محترمة إلى صحيفة تابلويد شعبية مثيرة تحت ملكية «روبرت مردوخ نيوز كورب» فى سنة 1975، وتوزع الآن 150 ألف نسخة يوميًا.
والإثارة فى المقال ليست فى الألفاظ العاطفية الهادرة، لكن فى الأحكام المطلقة، ويخيل لى أن الكاتب رسم الرئيس المنتخب دونالد ترامب على هيئة حاكم مطلق جامح فى تصرفاته، كأنه قيصر رومانى فى الإمبراطوية القديمة، يمسك فى يده بكل مقاليدها، من أول إدارة الجيش إلى تشغيل العبيد فى تمهيد الطرق وبناء الجسور، وأن ترامب سيدير الولايات المتحدة كما لو أنه يلعب «ميكانو» يفكها ويعيد تركيبها على مزاجه، وعلى رغبة «الحركة الشاملة» التى انتخبته، وهذه أوهام لا علاقة لها بالواقع، أمريكا ليست روما القديمة، وليست جمهورية موز يحكمها مستبد طاغية فى ثياب أنيقة عصرية، يشير بيمناه فتمضى الدولة إلى اليمين، يشير بيسراه فتمضى الدولة إلى اليسار، أمريكا دولة صعبة جدًا فى إدارتها وتسيير أمورها، بسبب تعدد مراكز القوى فيها، البنتاجون أو الجيش الأمريكى اللاعب الأقوى من خلف الستار، البيت الأبيض، الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، وجماعات الضغط والتكتلات الصناعية الكبرى التى تتحكم ماليًا فى الانتخابات مثل كارتيل السلاح والترفيه والإعلام والمعلومات والدواء..إلخ، ومن يتصور أن ترامب حين يجلس خلف المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض سوف يقلب الدنيا رأسًا على عقب سواء بنعومة وعلى مهل أو بقرارات صادمة وبسرعة، فهو واهم، ويغفل العناصر المتشابكة الداخلة فى صناعة القرارات الاستراتيجية فى الولايات المتحدة.
وواهم أيضًا من يتصور أن الفارق الكبير 16% الذى فاز به ترامب فى المجمع الانتخابى على المرشحة الديمقراطية يعنى انتهاء الاستقطاب الحاد فى المجتمع الأمريكى، بل العكس هو الصحيح، فالهوة تتسع فى التفضيلات السياسية والقيم الاجتماعية وحتى أنماط الحياة الشخصية، فقط يمكن القول أن النتائج ألقت ستارة شفافة مؤقتة على التوترات السياسية المشتعلة، ويشى تحليل نتائج التصويت بأن ولايات الساحل الشرقى من حدود كندا إلى ولاية فيرجينيا، مع ولايات الساحل الغربى تشكل مجتمعًا مختلفًا تمامًا ثقافيًا واجتماعيًا وعلميًا عن بقية الولايات الأمريكية فى الوسط والجنوب، كما هناك تناقضات صارخة بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية بالرغم من سهولة المواصلات والاتصالات التى جعلت من الكون كله قرية صغيرة، وأيضًا بين المجموعات العرقية والإثنية المختلفة، والطبقات الاجتماعية والاقتصادية.
مثلًا على عكس مقال نيويورك بوست عبر مشاهير عن خيبة أملهم لنجاح ترامب، فهو فى تصوراتهم يتكلم قبل أن يفكر، يتصرف قبل أن يحسب، ينطلق قبل أن يحدد وجهته، يشبه رشاشًا آليًا يعمل طول الوقت بلا صمام أمان، وله خزانة ضخمة رصاصها لا ينفد، من هؤلاء بيونسيه، وجينيفر لوبيز وجوليا روبرتس وبروس سبرينجستين، ومغنية الراب «كاردى بي» التى كتبت على إنستجرام وهى تتابع نتيجة الانتخابات «أكرهكم بشدة»!، وكتبت الفائزة بالأوسكار «جيمى لى كيرتس «ابنة النجم الكبير تونى كيرتس»: أنها عودة إلى زمن أكثر تقييدًا، يخشى البعض أن يكون قاسيًا، وأن الأقليات ستصبح أكثر خوفًا»!
أما الممثل جون كوزاك فكتب على صفحاته بشبكات التواصل الاجتماعي: حقيقة البلاد تختار تدمير نفسها، التصويت لمغتصب مجرم مدان ونازى هى علامة على العدمية العميقة!
وكتب المؤلف المرموق ستيفن كينج: هناك لافتة يمكنك رؤيتها فى العديد من المتاجر، التى تبيع عناصر جميلة للمشاهدة والاقتناء، لكنها هشة تنكسر بسهولة، يمكنك قول الشيء نفسه عن الديمقراطية!
ووبخت المغنية إيثل كين كل من صوت لترامب وتمنت له : آمل أن لا تجد السلام أبدًا!
ولا نجد أبلغ من عبارة المؤلف البريطانى فيليب بولمان فى وصف الحالة الأمريكية: وداعًا أمريكا.. كان من الجميل معرفتك!
إذن الاستقطاب الحاد ما زال فاعلاً فى المجتمع الأمريكي، حتى وصل إلى العائلات والأصدقاء والأزواج فى غرف النوم، صداقات تقطعت، علاقات عائلية تجمدت، وقد رصد بحث جرى فى انتخابات 2016 أن السيدة بيرنى ماكورميك هجرت بيتها وطلبت الطلاق من زوجها، بعد زواج دام 22 عامًا، لأن بيل حسب قولها للباحث فى وكالة رويتر: بيل ارتكب جريمة التصويت لترامب، وتصويته خيانة لى، وقد تكون هذه أول خيانة فى التاريخ داخل صندوق الانتخابات، ولا أعرف هل حدث مثلها فى الانتخابات الأخيرة أم لا؟
عمومًا كلمات وأقوال هؤلاء الرافضين لترامب هى رسالة قوية إليه، بأنه ليس لاعبًا وحيدًا، حتى لو كان رئيس الفريق، هو منظم أعمال الفريق، له رأى، له فكر وقرار، لكنه ليس صاحب الفريق ومالكه، وقراره ليس منفردًا، وسيرجع فيها إلى مؤسسات كثيرة وجماعات ضغط كثيرة، قد توافق عليه أو تعدله أو ترفضه.
وهذه آلية العمل فى واشنطن، فلا ترامب قيصر، ولا أمريكا جمهورية موز!>