حين يتحول الحلم إلى واقع يعيد رسم حياة ذوى الإعاقة د.ندى ثابت: رحلة الأمل والإصرار لتمكين ذوى الإعاقة فى قرية تنبض بالإنسانية
فاطمة الزهراء بدوى
وسط عالم يموج بالتحديات والصعاب، برزت د.ندى ثابت كامرأة تحمل حلمًا أكبر من الواقع، ورؤية لم يتوقف طموحها عند حدود المستحيل.
فى قلبها، هناك إيمان عميق بأهمية منح الأمل لمن حرموا منه فى زحام الحياة. انطلقت رحلتها لتأسيس «قرية الأمل» ليس فقط كمكان يُقدم خدمات للأشخاص ذوى الإعاقة، بل كحلم يتنفس الصمود، ومجتمع مصغّر يجسد الإنسانية بأبهى صورها.
عندما تدخل «قرية الأمل»، تجد نفسك فى عالم مختلف، حيث يندمج العلم بالحب، وتلتقى الرعاية بالتطوير، ليشكلا معًا بيئة تساعد على النمو وتمكين الأفراد ليصبحوا أكثر ثقة واستقلالية. فى كل زاوية من زوايا القرية، تنعكس لمسات د.ندى، التى جعلت من المكان مساحة تنبض بالحياة والاحترام، وشهادة حية على أن الحلم، حين يتسع ليشمل الجميع، يصبح حقيقة لا تهزها الصعاب.
فى هذا الحوار، نتعمق أكثر مع د.ندى ثابت عضو مجلس النواب ومؤسسة قرية الأمل للاشخاص ذوى الإعاقة وتفاصيل رحلتها، نتعرف على جذور هذا الحلم، ونستكشف التحديات والطموحات التى لا تزال تحفّزها لمواصلة مسيرتها.. إليكم التفاصيل:-
فى البداية حدثينا عن أبرز التحديات والصعوبات التى واجهتك لتأسيس قرية الأمل للتنمية والتأهيل الاجتماعى لذوى الاحتياجات الخاصة؟
- طبعًا كانت هناك مسيرة طويلة من التحديات، ووقفتُ أمام صعوبات لم تكن قليلة، خاصةً مع وجود ابنى الذى يبلغ من العمر الآن 44 سنة، ويعانى من إعاقة فى مجتمع لم تتوفر فيه خدمات كافية لدعمه وقتها. ومن هنا بدأت رحلتنا، حيث سعينا نحو خلق مساحات تعليمية ملائمة له ولأمثاله، بدءًا من الدمج الجزئى وصولًا إلى الدمج الكامل فى التعليم. وبعدها، انتقلنا للعمل فى مجال الرياضة فى الأندية، حيث تبلورت لدى فكرة أكبر؛ فكرة إنشاء مجلس قومى لشئون ذوى الإعاقة. وكانت لحظة فارقة عندما حظيت بتعيينى فى المجلس بقرار من الدكتور كمال الجنزورى.
وتتابع: ومع مضى الوقت، أسهمتُ فى صياغة قانون خاص بالأشخاص ذوى الإعاقة، لكن التحول الحقيقى جاء حين تبنى سيادة الرئيس السيسى هذه القضية بكل ما تستحقه من اهتمام. منذ تلك اللحظة، تحول مسار القضية، وتضافرت جهود الدولة ووزاراتها كلها لتقديم الدعم اللازم. واليوم، نشهد إنجازات مهمة فى هذا المجال؛ قانون ذوى الإعاقة ولوائحه التنفيذية، وصندوق «قادرون» لدعمهم، وكارت الخدمات المتكاملة الذى يُمكّن الأشخاص ذوى الإعاقة من الحصول على حقوقهم الأساسية بسهولة.
«قرية الأمل»
وتستطرد أنها أسست جمعية «قرية الأمل» عام 2000، وكان الهدف منها تأهيل ذوى الإعاقة للعمل وتدريبهم ليكون لهم دور فى المجتمع. لم تكن الرحلة سهلة؛ تحديات كثيرة وقفت فى طريقها، لكنها تمكنت من توفير ورش عمل وصوب زراعية وأفران لتدريبهم على العمل، وتهيئة بيئة تمكنهم من الحياة بشكل طبيعى دون شعور دائم بالإعاقة. لقد أصبحوا جزءًا فعّالًا من المجتمع، والأسر متعاونة، تدعم أبناءها وتستبشر بمستقبلهم.
التطور الكبير فى قضية الإعاقة
ثم تستكمل حديثها: هذا التطور الكبير فى قضية الإعاقة لم يأتِ من فراغ؛ بل هو نتيجة لجهود حثيثة ورؤية واعية من القيادة التى تعاملت مع هذه الفئة من منطلق إنسانى أبوى. وهذا ما يجعلنى أتوجه بالشكر لسيادة الرئيس، الذى آمن بأهمية هذه القضية وتبنّاها بكل حنان وحب.
وما الأسباب الرئيسية وراء إنشاء قرية الأمل ووهب حياتك لرعاية الأطفال من ذوى الهمم؟
- لأن ابنى هو أحد أفراد هذه الفئة، ووجوده فى حياتى جعلنى أواجه صعوبات لم أكن أتخيلها. تخيلوا أننى، كأم متعلمة، لم أكن أجد مدرسة تستقبله، حتى أتمكن من منحه فرصة التعليم كباقى الأطفال. كنت أعمل، ولم أجد حضانة تحتضنه حتى أستطيع ممارسة عملى. دفعتنى هذه الصعوبات لأن أطرق باب المدرسة بنفسى، أطلب منهم توفير فصل للدمج الجزئى على الأقل. لحسن حظى، وجدت إدارة المدرسة متفهمة، وبدأت الخطوات الأولى لدمج الأطفال ذوى الإعاقة، حتى أصبح قرار دمج جميع المدارس بالإسكندرية حقيقة.
فى ظل هذه الظروف، تقول: «وهبت حياتى لهذه القضية. أنشأت جمعية «قرية الأمل» كنموذج للتأهيل المهنى، ليس فقط لدعم ابنى ماجد، ولكن ليكون نافذة لكل طفل يشبهه. وقد وجدت سعادتى فى الخدمة التى أقدمها؛ خدمة إنسانية عميقة، تتجاوز الشفقة أو العطف، لترتقى إلى تحقيق حياة كريمة لهؤلاء الأطفال، وليشعروا بأن المجتمع جزء منهم».
ومع التقدم التكنولوجى، أصبحت الحياة اليومية لذوى الإعاقة أسهل. اليوم، نجد أن الهواتف ذات الكاميرات الثنائية تساعد الصم والبكم على التواصل بلغة الإشارة، ونرى مترجمين للغة الإشارة فى المحاكم، البنوك، والمراكز الحيوية، مما يعزز دمجهم المجتمعى. كذلك، الجامعات اليوم مجهزة بالكامل، وبها أدوات سمعية وخدمات للكفيف، الذى يمكنه متابعة دراسته عبر طابعات برايل وأجهزة كمبيوتر ناطقة، ليتمكن من الاستماع للكتب والمحتوى التعليمى، وها نحن نرى معيدين وأساتذة جامعيين من ذوى الإعاقة البصرية.
مستكملة: كل ذلك من أجل أن يعيش هؤلاء الأفراد دون شعور بالإعاقة، بل بقدرة على الاستفادة الكاملة من الإمكانات المتاحة لهم. قطعنا شوطًا كبيرًا، وتجاوزنا عقبات ضخمة، وبتضافر الجهود والتكنولوجيا باتت قضيتنا أملًا مشتركًا، ورسالة مجتمع كامل.
ومن وجهة نظرك هل حققت القرية أهدافها؟ وكم وصل عدد الأطفال بها؟
- ليس الأمر متعلقًا فقط بالكم فهى قرية نموذجية، أسستها بفكر عميق لتكون أكثر من مجرد ملجأ للأشخاص من ذوى الإعاقة. إنها مكان يعزز فرص الحياة الكريمة، والتدريب، والعمل للجميع. فى هذه القرية، لا تُقاس الإنجازات بعدد الأطفال الذين تحتضنهم، بل بنوعية الحياة التى تمنحها لهم. حيث يُهيأ لهم المستقبل عبر التدريب العملى فى مزارع ومخابز وورش عمل، وتتاح لهم الفرص ليصبحوا جزءًا من المجتمع العامل، يكتسبون مهارات حقيقية ويكتسبون ثقة فى أنفسهم. وضمن هذه المنظومة المتكاملة، يجد الأشخاص من ذوى الإعاقة الدعم والمساندة من مدربين آخرين، أحيانًا ممن يحملون قصصًا مشابهة، فيتضاعف الأثر.
ورغم النجاحات، لا تتوقف طموحاتها عند هذا الحد. تسعى الآن إلى مشروع دمج كبار السن مع أبناء القرية، حيث يجلب كل من المسنين وأبناء القرية شيئًا فريدًا إلى هذا التفاعل؛ فالحكمة والخبرة والعطف تأتى من كبار السن، بينما يأتى النشاط والطاقة من الشباب. مع هذا الدمج، يصبح المجتمع داخل القرية متكاملًا، يزخر بالعلاقات الإنسانية الحقيقية، حيث لا تُقسم الحياة إلى أدوار مستقلة بل تُنسج شبكة من العلاقات المتبادلة بين الجميع.
وهل هناك قصص نجاح من خلال القرية تودين مشاركتها؟
- بالتأكيد، نجحنا فى تغيير مصائر الناس وتوظيفهم وتوجيههم لتحقيق ما لم يكن متوقعًا. لم يكن الأمر مجرد تدريبٍ أو تعليم، بل رحلة لخلق قصص نجاح تُروى فيما بعد. دربناهم، وجعلناهم يستحقون مراكزهم بكل جدارة. ففى الرياضة على سبيل المثال، لم يقفوا عند حدود المنافسات المحلية؛ بل انطلقوا إلى البطولات الدولية وحصدوا ميداليات تروى حكايات صمود وإصرار، تبرهن على أن النجاح ليس حكرًا على أحد بل حظ لمن يسعى ويؤمن بقدراته.
وترى أن النجاح الحقيقى يكمن فى الأمهات؛ هنّ الأبطال التى تصنع المعجزات بصبرهنّ وقوتهنّ. «عندما أعمل مع أمّ، أُعلّمها كيف تتفهم ابنها وتؤمن به، كيف تصنع له بيئة دعمٍ وتعلمه الثقة والإصرار.. كلّ مرة تنجح أمّ فى تربية ابنٍ كان يُظنّ أنه غير مجتهد أو ضائع، وتحوله إلى شخص ناجح ومثمر، تكون تلك أعظم قصص النجاح».
وكيف ترين مستقبل قرية الأمل؟ هل هناك خطط لتوسيع خدماتها إلى مناطق أخرى أو إضافة برامج جديدة؟
- أرى أن دورنا ونجاحنا فى «قرية الأمل» ليس مجرد توسع فى الفروع، بل هو توسع فى الأثر والرسالة التى نحملها نحو ذوى الإعاقة وأسرهم. فتحنا الأبواب لأبنائنا من ذوى الإعاقة فوق سن الثامنة عشرة، لتمكينهم من الانخراط فى الحياة العسكرية، إذ تأتى لجان طبية خصيصًا لإتمام إجراءات التجنيد. نحن نقف كحليف قوى مع وزارة التضامن الاجتماعى، نؤمن بضرورة التأهيل ونكرس جهدنا ليكونوا داعمين لأبنائنا على أفضل نحو. هذا النجاح يتجلى فى تعاون وشراكة تعزز الروابط بيننا وبين مؤسسات الدولة، لنؤكد أن الشراكة المثمرة هى مفتاح الارتقاء بمجتمعنا.
وتستكمل: على أرض الواقع، لم يتوقف دورنا عند التأهيل والتدريب؛ بل امتد لإنشاء أكاديمية الفنون والرياضة، حيث نمنح الفرصة لكل موهبة أن تزدهر. أقمنا برنامجًا نوعيًا للتغذية السليمة، يخدم نحو 200 أسرة فى الإسكندرية وحدها، لنوفر لأبنائهم غذاءً يساعدهم على النمو والتطور الأمثل. فنحن نقدم خدماتنا لفئات مختلفة من المجتمع، حاملين رسالة التمكين والدعم بكل ما نملك من شغف فى الحقيقة.
ترشحتِ للحصول على جائزة نوبل للسلام كأول سيدة مصرية كما حصلتِ على العديد من الجوائز والتكريمات، فما أحبها إلى قلبك؟
- هو فى الحقيقة كانت كل لحظة تكريم تأتى فى وقتها، تحمل معها فرحة وسعادة جديدة تشعرنى بثمار الجهد والعطاء. عندما تم ترشيحى لجائزة نوبل للسلام، شعرت بالسعادة، وعندما شاركت فى مبادرة «صناع الأمل» مع سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، كانت سعادتى كبيرة؛ فقد كان تكريمًا من مستوى الوطن العربى بأسره. وفى الكويت، عندما كرمت كأم مثالية، امتلأ قلبى بامتنان عميق، أما فى مصر، فقد كانت مقابلة السيدة انتصار السيسى وتكريمى كرمز للمرأة المصرية لحظة لا تُنسى. وفى يوم تعيينى بمجلس النواب بقرار من فخامة الرئيس، كان ذلك شرفًا عظيمًا شعرت فيه برهبة المسئولية وعظمة التكليف.
وتذكر أن كل تلك الأوسمة والتكريمات كان لها وقعها العميق، لكن الفضل الأول يعود إلى ابنها ماجد؛ هو من جعل هذا الطريق ممتلئًا بالبركات والنعم.. «كما وقفت بجانبه فى مسيرته، عوّضنى هو عن كل تعب بذلته، وأصبح رمزًا للهدايا التى منحنى إياها الله.
وأخيرًا.. ما الرسالة التى تودين توجيهها للمجتمع لدعم ذوى الإعاقة والمساهمة فى تحسين حياتهم؟
- فى رأيى أن الصبر هو المفتاح الوحيد الذى سيقودهم لفهم ذوى الإعاقة، وكم أؤكد عليه للأمهات والأسر والمعلمين. أقول لهم: تحلّوا بالصبر، اجعلوه لغة تعاملاتكم، لا تستعجلوا، فذوى الإعاقة، وخاصة ذوى الإعاقات الذهنية، يحتاجون إلى الوقت، يحتاجون لمن يقول لهم الكلمة مرةً ومرتين وثلاثًا، بمزيج من الصبر والحب.. نحن نعيش فى زمن السرعة، نتوقع أن يُنفّذ ما نقوله من المرة الأولى، ولكن مع ذوى الإعاقة، الوضع مختلف؛ هم بحاجة لرفقٍ وحنانٍ لا يخبو مع التكرار.
وتستطرد: أريد أن أقول للأسر، خاصةً الإخوة، أن الحب وحده يصنع الفارق، وهذا هو ما رأيته فعلًا فى تجربتى.. لقد سافرت بابنى يومًا إلى الخارج بحثًا عن خدمات لم تكن متوفرة فى مصر حينها، لكننى لم أجد هناك الدفء الذى يحتاجه، لم أجد القرب والحب الصادق كما هو هنا فى بلده. هنا، حيث تشعر قلوبهم بحب من حولهم بعمق، فتراهم يصغون ويتعلمون ويتحسنون. وأخص الإخوة هنا، لأنهم الملاذ الأول بعد الأسرة؛ عليهم أن يتحملوا أخاهم من ذوى الإعاقة، أن يكونوا له الأمان والدعم، لأن هذا السبيل الوحيد لبناء علاقة تدعم نموه وتحسنه.. الصبر ليس شيئًا يؤخذ بجرعات، بل هو ممارسة وتدريب، وهو الأساس لفهم الفروق بيننا.