طارق الشناوي
إبداع من (عنبر العقلاء) فى العباسية!
انضباط نجيب محفوظ كان محور سؤال مهم تردد فى حياته، ما يتبقى عادة فى الذاكرة هو المقولة الشهيرة (الفنون جنون)، بمقدار نصيب المبدع من الجنون يقدم فنًا متميزًا، ولو كان عاقلاً مثل سائر البشر، فلا يمكن أن يسفر الأمر عن شىء مغاير للسائد.
أطلق الكاتب الساخر الكبير محمد عفيفى على نجيب محفوظ لقب (رجل الساعة)، كل شىء لديه منضبط بدقة، مثل عقارب الساعة، متى يقابل أصدقاءه ومتى يتناول العشاء، ومتى يدخن، وكم سيجارة فى اليوم؟
أجاب نجيب محفوظ عن تلك الحكاية قائلا: إنه يحب أن ينجح فى الدراسة ويحب لعب كرة القدم والاستماع إلى أم كلثوم ومشاهدة الأفلام، وبعد التخرج ارتبط بوظيفة حكومية، لها مواعيد صارمة فكان مجبرًا على الانضباط، ووجد أن الفترة الزمنية التى يستطيع فيها الإمساك بالقلم والكتابة من الرابعة فجرًا حتى السابعة صباحًا وبعدها يتهيأ للذهاب إلى المكتب، وعندما تأتيه فكرة قبل أو بعد هذا التوقيت، لا يدونها، حتى لا تؤثر سلبًا على انضباط جدول أعماله.
ومع الزمن حدث توافق بين ساعته (البيولوجية) فى الاستيقاظ والنوم وبين ساعته الإبداعية، فكان الإلهام يأتيه من الرابعة حتى السابعة.
كُثر من المبدعين لهم طقوسهم، كان الشاعر الكبير أحمد رامى لا يستطيع أن يكتب إلا وهو قابع تحت السرير يستلهم ومضات الإحساس الشاعرى، وكأنه كما وصفه الشاعر والرسام الكبير صلاح جاهين يعود إلى رحم أمه، بينما الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب لا يأتيه الإلهام إلا وهو مستلقٍ فوق السرير، وهكذا قدم الاثنان معًا عشرات الأغانى الناجحة، وآخرها «إنت الحب» لأم كلثوم، من فوق وتحت السرير!
كان الموسيقار بليغ حمدى هو عنوان (البوهيمية) لا يلتزم بحب امرأة واحدة ولا بموعد واحد، حتى إنه نسى ليلة زفافه على وردة وسافر فى نفس التوقيت إلى بيروت، لوداع امرأة أخرى أحبها يومًا ما، شعر قبل أن يفتح صفحة جديدة مع وردة، أن عليه كتابة صفحة النهاية مع حبيبته السابقة.
سوف تلاحظ حتى المنضبطين ظاهريًا لديهم تلك اللمحات، مثلاً عملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد، عندما أراد أن ينسى حبه للفنانة الكبيرة مديحة يسرى طلب من صديقه الفنان التشكيلى الكبير صلاح طاهر، أن يرسم لوحة لتورتة تحوم حولها الحشرات ووضع اللوحة فوق السرير، لأنه كان يعارض اشتغال مديحة بالتمثيل، وقبل أن يذهب لسريره ينظر للوحة بضع دقائق ثم ينام قرير العين، ورغم ذلك فلقد كتب عنها بعدها أكثر من قصيدة حب!
الفنون ليس كله جنونًا، لا بأس من جرعة مقننة بين الحين والآخر من الجنون، ولو كان جنونًا فقط لتحولت مستشفى (العباسية) إلى أكبر تجمع بشرى لتقديم مختلف الإبداعات من (عنبر العقلاء)!>