أتحبون برامز ؟

وأنا صغير بينما كان أبى يجلس فى غرفة مكتبه مستغرقًا فى القراءة كنت غالبًا أتسلى بألعاب عفوية مثل ملاحظة صوت مرور أصابعى على حواف الكتب الواقفة رأسيًا فى رفوف المكتبة التى يطالها قوامى القصير .

كانت المتعة الإيقاعية تنبعث من الصوت الواهن الذى تحدثه أصابعى الصغيرة ويقين ساذج أن هذه اللمسات السحرية السريعة سوف تنقل محتوى كل هذه الكتب إلى خلايا مخى.

وكانت هذه الخلايا مشغولة دائمًا باختراع ألعاب عظيمة كل ساعة لا تقل سخافة عن لعبة ملامسة حواف الكتب مثل تحاشى بلاطة ووطء بلاطة أثناء تجوالى فى الشقة كنوع من التمرين على المشى فوق القمر أو عد عواميد النور والشجر أثناء السفر إلى رأس البر وقت المصيف للتأكد أن هناك أرقامًا أكبر من رقم مائة ! نعود إلى غرفة المكتب …

وقد بدأت أستطيع القراءة مبكرًا بالعربية والإنجليزية والفرنسية لكن بعد محاولات مضنية فى التهجى. كان هناك دائمًا كتاب بارز ذو غلاف حاد يؤلم أصابعى أثناء لعبتى السخيفة ويومًا ما توقفت محاولاً قراءة ما كتب على حافته مائلاً برأسى زاوية قائمة لأتجه أم ..... أمى 

فاجأنى صوت أبى من خلفى:

Aimez-vous Brahms? 

فعدلت رأسى مستفهمًا فعقب بالعربية: 

أتحبين برامز... ثم قال: إنها فرانسواز ساجان.

حين تكبر وتجيد الفرنسية قد يعجبك أسلوبها.

فى الحقيقة لم أستوعب من كلماته شيئًا واضحًا محددًا.

ولكن استقر فى مخيلتى لسنوات بعد ذلك أن هذه المرأة الفرنسية ذات الشعر القصير جدًا كالأولاد والتى تدخن أيضًا كالأولاد قد وقعت فى غرام شخص يدعى برامز.

مرت السنون. 

حملتنا الشواديف من هدأة النهر كما يقول عمنا أمل دنقل وألقت بنا بأرض الغرابة نتفرق بين حياض الأسى وحياض الصبابة.

وقرأت كل إنتاج ساجان واكتشفت بالطبع أن الكتاب رواية فرنسية شهيرة وأن برامز هو مؤلف موسيقى أشهر .

وفى الأمسيات الشتوية وأنا مستلق أقرأ على الآيباد فى سريرى حينما يمل ولدى (طالب كلية طب الأسنان) من معاركه مع كتبه وأدواته بغرفته ويقوم إلى البيانو فى الصالة ليغسل روحه المتعبة.. تنساب إلى سريرى نغمات برامز عبر الجدران لأتذكر أبى ولعبة لمس حواف الكتب بالأصابع وهذه المرأة الفرنسية ذات الشعر القصير كالأولاد والتى تدخن السجائر كالأولاد.