الثلاثاء 11 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الصحـافة والثـورة ذكريات ومذكرات - 4

أحمد حمروش «بداية المشوار الصحفى بعد ثورة يوليو»

كانت العلاقة بين ثورة 23 يوليو 1952 وبين نجوم الكتابة الصحفية والأدبية، علاقة وثيقة منذ اللحظات الأولى للثورة. اندفع أصحاب القلم لدعم الثورة التى نادوا بها وبشروا بها لإنقاذ البلاد، وتمازج قادة الثورة معهم وأمدوهم بالأخبار والرؤى والانفرادات التى سعوا أن تصل للجماهير، ولكن سرعان ما اختلفت المسارات بين فكر الثورة وأقلام صحافتها.. ولكل منهم وجهة نظره. من هنا تأتى أهمية هذه الشهادات التى دونها الأستاذ «رشاد كامل» مع رموز القلم الصحفى فى حقبتى الخمسينيات والستينيات، فى محاولة لفهم العلاقة بين السياسة والصحافة.



هذه الحوارات هى حصيلة هذا الكتاب الذى يشرح سر العلاقة الغاضبة بين الصحافة والثورة.

 

«أحمد حمروش» واحد من ثوار يوليو 1952.. حيث كان مسئولاً عن الحركة فى مدينة الإسكندرية. عقب نجاح الثورة عرض على جمال عبدالناصر إصدار مجلة أو صحيفة تعبر عن الجيش، ووافق عبدالناصر، وهكذا صدرت مجلة التحرير التى رأس تحريرها.

أحمد حمروش أحد الوجوه العسكرية التى أثبتت نجاحها فى بلاط صاحبة الجلالة صحفيًا وكاتبًا ورئيسا للتحرير فى جميع المجلات والصحف التى تولى مسئوليتها منذ مجلة «التحرير» حتى « روزاليوسف».

أحمد حمروش تصدى لمهمة جديرة بالتسجيل والإعجاب، ألا وهى كتابة «ملحمة ثورة يوليو»، وقد صدر منها ثمانية أجزاء كان آخرها «غروب يوليو».

قلت: كيف تفسر انفراد الأستاذ محمد حسنين هيكل بالصحافة، حتى صار أبرز ظاهرة صحفية طوال عصر جمال عبدالناصر؟

أجاب الأستاذ أحمد حمروش: فى بداية ثورة يوليو 1952 لم يكن محمد حسنين هيكل هو أقرب الصحفيين إلى جمال عبدالناصر، فقد كان هناك صحفيون آخرون مثل إحسان عبدالقدوس، مصطفى أمين، حسين فهمى، وأحمد أبو الفتح، وكل هؤلاء كانوا أصدقاء لجمال عبدالناصر.

وهناك نقطة مهمة وهى أن هيكل حينما تعرف على عبدالناصر لم يكن صحفيًا مبتدئًا، فقد كان وقتها يشغل منصب رئيس تحرير مجلة «آخر ساعة»، بل إنه تولى هذا المنصب فعلاً قبل قيام ثورة يوليو 1952.

النقطة الثالثة: أن هيكل كان أكثر الصحفيين حرصًا وفهمًا لطبيعة المرحلة، فى ذات الوقت كانت هناك رغبة فى الاستفادة من وجود هيكل قريبًا إلى زعيم هذه الثورة، فإذا كان هيكل قد أثر على عبدالناصر كى يجعل منه الصحفى الوحيد، فأنا أقول إن هذا غير ممكن ومستحيل! فهذا ضد طبيعة جمال عبدالناصر شخصيًا. فأنت - على سبيل المثال - إذا حاولت عند عبدالناصر أنك تصبح الصحفى الوحيد لديه لن تنجح، ولكن إذا وجد عبدالناصر أن رغباته وأفكاره وأحلامه تُترجم جيدًا من خلالك؛ فهو الذى سيقربك إليه، لأنه هو الذى سيكون محتاجا لك.

لذلك أقول إن عبدالناصر كان محتاجًا لهيكل وكان يتبادل معه الأفكار والحوار مثل مباراة فى الشطرنج، ولكن فى النهاية كان هناك رأى لعبدالناصر ورأى لهيكل، وكثيرا ما اختلفا، بل كثيرًا ما أدى خلافهما فى الرأى إلى أحداث كانت من الممكن أن تأتى لمصر بالمصائب!

هل هناك أمثلة محددة لما تقول؟

فى أكتوبر عام 1964 قامت ثورة شعبية فى السودان انقضت على حكم عبود، فكتب هيكل عدة مقالات فى الأهرام، كان نتيجتها أن قامت ثورة فى الخرطوم وقام المتظاهرون بحرق العلم المصرى فى السفارة المصرية بالخرطوم، فهل كانت هذه المقالات هى رأى عبدالناصر؟! بالتأكيد لا؛ لأنه عندما بلغ عبدالناصر خبر المظاهرات وحرق العلم المصرى قال: هو العلم ده إيه.. مش قطعة قماش؟!.. نعمل علم تانى! إذن عبدالناصر لم يضخّم المسألة لأنه مدرك أن «هيكل» كتب ما هو مقتنع به شخصيًا؛ لأن ما كتبه هيكل كان فيه معنى الهجوم على الناس فى الشوارع، ورأى عبدالناصر كان مختلفًا، وأنا فى هذا الوقت كنت أعلم تمامًا رأى عبدالناصر فى مساندة الثورة الشعبية فى السودان.

وعندما حصل تغيير فى الجزائر وانتقلت السلطة من أحمد بن بيللا إلى هوارى بومدين كتب هيكل عدة مقالات كادت أن تؤدى إلى قطع العلاقات بين الجزائر ومصر!

وما أريد أن أقوله إنه كان هناك دائمًا خط تمييز بين عبدالناصر وبين هيكل، وكون هيكل الصحفى الأوحد فى عصره، نعم بلا جدال، وهذا كان نتيجة موهبة شخصية.. نتيجة أن «هيكل» صنع لحياته كصحفى «تخطيط كويس»، ولأنه صحفى دءوب ومهتم أن يطور الصحافة، ويتضح هذا فى مؤسسة الأهرام.

على الجانب الآخر عبدالناصر محدش كان يقدر يركبه، ولا أحد يستطيع أن يفرض نفسه ليكون قريبا منه، ولكن عبدالناصر هو الذى كان يختار القريبين منه، وهذه طبيعة أى حاكم فرد يختار من يريد أن يتعاون معه، ومن يريد أن يكون قريبًا منه.

قلت: هل تتصور أن بعض أفكار هيكل ومقالاته كانت بتوجيهات من عبدالناصر؟

أريد أن أقول: لا بد من التفريق بين أن عبدالناصر كان يعطى لهيكل أفكاره كى يحولها إلى خطبة أو بيان، فهذه قضية أخرى، فإذا جاء هيكل وترجم هذا ترجمة جيدة تريح عبدالناصر فمفيش مناقشة، لكن أن يتدخل عبدالناصر فيما يكتبه، أو ما الذى سوف يكتبه، فأنا لا أتصور أن «هيكل» يقبل هذا! ولا أتصور أيضًا أنه كان سيكتب بشكل جيد إذا أوحى إليه بأن يكتب فى كذا وكذا. وأقول عن نفسى إنه لو أوحى إلىَّ بأن أكتب كذا، فلن أعرف، ولكن أنا أكتب ما فى صدرى وما فى ذهنى وما أنا مقتنع به، وعلى الأقل سأكتب ما يرضينى، أما إذا كان ما أكتبه يتجاوب مع أفكار عبدالناصر أو لا يتجاوب.. فتلك قضية أخرى!

ألم يكن هيكل وراء كتابه «فلسفة الثورة» الذى هو ترجمة لأفكار عبدالناصر، وكذلك الميثاق الوطنى وبيان 30 مارس؟

قال حمروش: أنت تؤيد ما أقول.. هل هذه المؤلفات كُتب عليها بقلم محمد حسنين هيكل؟.. لا.. إذن هو ليس مسئولاً عنها.. المسئول جمال عبدالناصر لأنه أوحى بأفكارها وخطوطها العامة إلى هيكل فكتبها ووافق عليها عبدالناصر، ولكن ظهور مقال مكتوب وموقع عليها بإمضاء محمد حسنين هيكل هنا هو المفكر والمسئول عن أفكاره.

قلت: ما الظروف التى صرت فيها مسئولاً عن مؤسسة روزاليوسف؟

- كان ذلك عام 1964، وكانت تلك الأيام فترة عصيبة، لأنه الفترة التى أعقبت مرحلة التأميم، وكذلك فترة انتقال الثورة لمرحلة جديدة، وصدر قانون عدم جواز الجمع بين وظيفتين فى وقت واحد، ولما كنت أعمل صحفيًا فى جريدة الجمهورية وفى نفس الوقت مدير مؤسسة المسرح، آثرت أن أعمل بالصحافة، فذهبت إلى مؤسسة روزاليوسف وقابلت إحسان عبدالقدوس الذى رحب بى جدًا واتفق معى فى نفس الوقت على أن أكتب بضعة مقالات أو أفكار فى مجال الثقافة، وبدأت بالفعل فى الكتابة.

وحدث فى تلك الأيام أن قامت ثورة أكتوبر 1964 فى السودان، وأرسلتنى مجلة روزاليوسف لتغطية أحداث الثورة، فى نفس الفترة حدث تغيير فى قيادة روزاليوسف فتولى رئاسة مجلس الإدارة الأستاذ أحمد فؤاد (رئيس بنك مصر حاليا) وهو صديق قديم وواحد من الذين تعاونوا معنا قبل ثورة 1952.

المهم سافرت إلى السودان وكتبت عدة تحقيقات صحفية عن حقيقة ما حدث. فيما يبدو أن عبدالناصر قرأ هذه التحقيقات عندما نشرت فى روزاليوسف وأعجب بها، وفوجئت به يطلبنى ويبلغنى رغبته فى أن أترك المسرح وأمسك روزاليوسف، وأحرجنى ذلك العرض، ولكنى وجدت إصرارًا وتصميمًا من عبدالناصر فقبلت.

قلت: هل حدث أن اتصل بك عبدالناصر مثلاً لكتابة شىء معين فى روزاليوسف؟

قال حمروش: أؤكد لك أننى منذ توليت مسئولية رئاسة تحرير مجلة روزاليوسف لم يتصل أبى أحد لكتابة شىء معين، أو حتى يوصى بالكتابة فى اتجاه معين، ولم يفرض علىَّ أى التزام خاص، ولم أقابل أى رقيب إطلاقًا على صفحات المجلة، وأعتز ببعض الخبطات الصحفية التى نشرناها فى روزاليوسف، منها مثلا موضوعات «آبار الوادى الجديد» وبعد نشر الموضوع تحركت طائرة فيها 12 وزيرا و8 من أمانة الاتحاد الاشتراكى للتحقيق فيما نشرته روزاليوسف وتبين صدق المعلومات التى نشرتها المجلة. ومرة ثانية أثارت روزاليوسف موضوعًا عن تزوير الميزانيات فى شركات القطاع العام، وكنا نكتب من منطلق حب وتدعيم القطاع العام والرغبة فى إصلاحه، وفهم البعض أننا نهاجم القطاع العام، وذهبت لمقابلة د. عزيز صدقى وزير الصناعة وقتها وشرحت له أفكارى، وقدم لى هو توضيحًا وشرحًا ممتازًا لقضية الصناعة فى مصر.

ومرة ثالثة كتبنا عن «تهريب الأرض» صحيح أن قانون الإصلاح الزراعى كان موجودًا، ولكن فيه بعض الناس يملكون أرضًا أكثر مما ينص عليه القانون وقتها. ولكن مع هذا يجب أن أعترف أن «زهوة» روزاليوسف خلال تلك السنوات لم تكن فى زهوة مجلة «التحرير» لأنه فى الفترة من عام 1964 إلى 1967 كانت سنوات حاسمة. كان الميثاق الوطنى فى صدر، أيده البعض ورفضه البعض وتم تفسيره مليون تفسير، وكانت فترة قلقة بالنسبة للجماهير، فكتب عدة مقالات عن الأربع السنوات الحاسمة.

إنما على الأقل- وأنا أتكلم من وجهة نظرى الصحفية- استطعنا أن نتمسك بشرف الكلمة وأن نجعل من روزاليوسف تعبيرًا عن الرأى الصادق الذى كنا نؤمن به، ولم يحدث أى نوع من التدخل أو الرقابة كما يدعى البعض.

خلال تلك السنوات الحاسمة.. ألم يحدث أن هاجم عبدالناصر أو انتقد أشياء فى مجلة روزاليوسف؛ غلافًا أو مقالاً؟

• ضحك أحمد حمروش وقال:  حدث ذلك، ولم يكن هجومًا بالمعنى المحدد، كان ذلك بعد نكسة يونيو 1967، وكان ينعقد فى الإسكندرية مؤتمر المبعوثين، وكنت حاضرًا هذا الاجتماع، ووقف البعض وقال إنه لا توجد حرية صحافة. فرد عبدالناصر قائلاً: هذا غير صحيح، ففى روزاليوسف تُكتب مقالات ونقد شديد أنا غير موافق عليها، وأعتبر أن فيها مزايدة.. ومع هذا لا أتدخل فيما ينشر أو يكتب. وكان عبدالناصر صادقًا فيما يقول.

لماذا إذن كانت خطوة تأميم الصحافة؟

بهدوء أجاب أحمد حمروش: لو أذنت لى أخرج قليلاً من موضوع الصحافة وتأميم الصحافة وأعود لفترة الستينيات بشكل عام وأنا أسميها «فترة الحيرة والاختيار» لأكثر من سبب، فبعد أن نجحنا فى صد العدوان الثلاثى عام 1956 وبدأت عملية التمصير، هذا جعل توجهًا جديدًا نحو أن الدولة تمتلك كل شىء (مصانع شركات تأمين، بنوك، الشركات الأجنبية) وبدأت الدولة تصبح مسئولة عن هذا القطاع.

حتى هذه الفترة كانت الدولة رأسمالية، بل بالعكس كانت تدعو لمجىء رأس المال الأجنبى، كان يوجد قانون من أيام حزب الوفد يشترط أن تكون نسبة رأس المال المصرى تكون 51 %، قامت الثورة بعمل العكس 49 % لمصر والباقى 51 % لرأس المال الأجنبى، ولم يأت رأس المال الأجنبى.

وحدثت خلافات شديدة بين مجلس الإنتاج القومى الذى كان يضم عبدالجليل العمرى وحسين فهمى وكانوا ينادون بضرورة مجىء رأس المال الأجنبى بدعوى أن هذا يحدث تدرجًا فى الاقتصاد القومى، لم يحدث أيضًا، وعندما حدث التمصير مع عدم مجىء رأس المال الأجنبى وإحجام الرأسمالية المصرية عن الدخول فى عملية الإنتاج حدث نوع من الحيرة والبلبلة! كيف نتقدم بالمجتمع، كيف نحقق التغيير، وهنا بدأ يظهر الصراع الطبقى فى المجتمع، طبقة البرجوازية الصغيرة المتمثلة فى «الضباط الأحرار» وصلت للسلطة ولكنها عاجزة عن القبض على السلطة، لأن القبضة الحقيقية للسلطة كانت فى أيدى الرأسماليين - أى الطبقة القديمة - أى أنهم كقادة كانوا يحاربون بجنود الأعداء، فكانت النتيجة أنهم كلما وجدوا الفرصة سانحة لأخذ شىء من الطبقة المسيطرة، أخذوه.

أيضا بالنسبة للصحافة والصحفيين فقد كانوا يعبرون عن طبقات وانتماءات مختلفة، ورأوا من الثورة خلال السنوات 1952إلى 1960 مواقف عديدة متباينة أرضت البعض ولم ترض الآخرين، مواقف ضد الديمقراطية ومواقف معها، مواقف ضد الاستعمار والأحلاف العسكرية، مواقف مع العمال والفلاحين، ومواقف مع الوحدة العربية.

كانت هناك مواقف كثيرة تلزم كل إنسان أن يبدى رأيه، ويحدد موقفه، فكان لا بد أن تضع الثورة يدها على الصحافة!