عاطف بشاى
التلقين..والتعليمات
حكى لى صديق ما وصفه بأطروفة أن حماه وهو عجوز تجاوز الثمانين من عمره اصطحب زوجته التى يقترب عمرها من عمره لـ«قرية سياحية» بعيدة بغرض الاستجمام بضعة أيام هربًا من ضجيج وصخب القاهرة وازدحامها الشديد وارتفاع درجة حرارتها المتصاعد.. اقترب بخطوات بطيئة مستندا إلى عصاه، بينما تأبطت زوجته ذراعه الأخرى حتى وصلا إلى الاستقبال فأبرز بطاقته الشخصية فطلب موظف الاستقبال بطاقة زوجته التى فتش عنها فى حقيبتها فلم تجدها.. فأخبرهما الموظف أنه لا بديل عنها سوى وثيقة زواجهما.
ذهل العجوز، بينما هتفت زوجته فى دهشة بالغة واستنكار: مش ممكن.. أنت بتقول إيه؟ معقولة؟
قال موظف الاستقبال فى برود وحسم: والله دى التعليمات ولا تنازل عنها.
صاح العجوز فى انفعال بالغ وسخط وسخرية وهو يشير إلى زوجته.
- بالعقل كده.. هو لو أنا عاوز أجيب معايا عشيقة.. كنت جبت دى؟!
واضطرا فى النهاية إلى الانصراف، لكن الزوجة لم تبتلع الإهانة الصادرة عن زوجها وعلقت فى ضيق وتهكم وغمز ولمز.
لا تعايرنى ولا أعايرك.. وأنت قاعد فى البيت بقالك عشرين سنة «بركة» لا بتهش ولا تنش.
قلت لصديقى: هى بالفعل أطروفة تثير الضحك، ولكنها أيضًا تعكس مأساة نعيشها.. هى جرثومة «التلقين» و«آفة» النقل والحفظ والصمم للتعليمات الإدارية الصادرة والمسلمات الثابتة.
واللافتات الملزمة والشعارات الراسخة.. دون إعمال العقل والتفكير والتدبر واستخدام المنطق وهى آفات منتشرة وشائعة فى جميع المجالات.
فى المصالح الحكومية والمؤسسات المختلفة الخدمات والوظائف والملاعب والمصانع والملاهى والبنوك ودور العبادة وامتحانات طلبة المدارس حتى إن طالبة خرجت من لجنة امتحان الثانوية العامة باكية مولولة صارخة: «إحنا ما اتقفناش على كده».. الأسئلة مش مباشرة ومحتاجة تفكير.. والإجابة عنها لا تخضع لملازم الإجابات النموذجية المتبعة التى نحفظها.
قال صديقى: عندك حق.. لقد اتصلت أمس بخدمة العملاء صارخًا فى جزع: الحقونى.. حصلت مصيبة.. فبادرتنى الموظفة: تمام.
صحت باستنكار: بقولك مصيبة تقوليلى تمام؟!
فكررت: تمام
عاودت الصراخ: فقدت بطاقة الـ.. (A.T.M) وأريد..
قاطعتنى بآلية: تمام.
فقدت أعصابى وألقيت بالموبايل فى الأرض هذا وقد فهمت فيما بعد أن كلمة «تمام» التى يلقنونهم إياها فيرددونها كالبغبغانات المقصود بها: سمعتك.. تحت أمرك.
قلت: ناهيك عن التعليمات والمسلمات الثابتة فإن حالة العجوز وزوجته التى حدثتنى عنها تتصل أيضا بثقافة «الحلال» و«الحرام».
التحريم والتجريم وفرض الوصاية الدينية والأخلاقية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى مازالت مسيطرة على العقول رغم زوال حكم التكفيريين والظلاميين.
