الثلاثاء 2 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
دفتر أحوال الناس بين الغلاء والكهرباء ودور الحكومة

دفتر أحوال الناس بين الغلاء والكهرباء ودور الحكومة

دعونى أقرأ لكم ما سجلته فى دفتر أحوال خاص، وجهة نظر فى بضعة موضوعات متفرقة، ‏يمكن أن تعتبروها «محاضر» غير رسمية من كاتب مهموم جدا بوطنه وأهله، ونصحته أمه ‏الفلاحة، حين احترف مهنة البحث عن المتاعب: إياك أن تكذب على الناس.‏



ثم أمسكت يده وحدقت فى عينيه وقالت بكل جوارحها: أحب الناس كما هى،  وليس كما تريد، ‏كن طاقة نور وأمل، الناس غلابة يابنى.‏ وهذا ما سجلته فى دفتر الأحوال خلال إجازة قصيرة بالإسكندرية، المدينة التى كانت عروس ‏البحر المتوسط، ولا أجد لها وصفا مناسبا الآن بعد كل التشويه الذى حدث لها، وإن ظللت‎ ‎‏ ‏مغرما بها.‏

- 1 -‏ ‏

‏ ما كل هذا القبح فى حياتنا؟، أو من باب التهذيب فى القول: لماذا قل إحساسنا بالجمال؟

من فضلكم لا تغضبوا ولا تشيحوا بوجوهكم، ولا تتلفظوا ببعض الشتائم التى يعاقب عليها ‏القانون، امسكوا ألسنتكم حتى لا تجنح وتجمح، لكن يمكن أن تتعجبوا: الناس فى ضيقة، ‏والحياة صعبة جدا، كلها لهاث وراء لقمة العيش المراوغة، والأسعار نار والكهرباء تنقطع ‏بالساعات دون أن تكلف الحكومة نفسها بإبلاغ الناس بما سوف يحدث لهم إلا بعد أن تقطعها ‏فعليا على غير الجدول المعلن، فكيف لهم أن يحسوا بالجمال ويستطعموه؟!، أنت عامل مثل ‏الذين يتكلمون عن الديمقراطية والحريّة، وفيه ناس محرومة من مظاهر الحياة البسيطة: عمل ‏وجدران ومستشفى تداوى عللهم ومدرسة جادة تعلم عيالهم تعليما جيدا..إلخ.‏

قد يكون هذا صحيحا مئة بالمئة، لكن ألا يمكن أن نسعى للرزق وتربية العيال وستر البنات ‏دون هذا القبح المحيط بِنَا؟، ضجيج وصخب وعشوائيات وزبالة وفوضى، ليست فى الشارع ‏فقط، بل حتى فى فنوننا من أغنيات وسينما وأدب..إلخ، والفن قرين المتعة، فكيف نستمتع ‏بأعمال أقل ما توصف به أنها قبيحة وليست ركيكة فقط؟، ما هذا الهبوط الحاد فى التّذوق ‏والذوق؟

لكن السؤال الأهم وهو لب القضية: هل يلعب هذا القبح دورا فى تخلفنا وعدم قدرتنا على ‏النهوض والنمو والخروج إلى شمس الحضارة والتقدم؟

هل الجمال مجرد ترف يمكن الاستغناء عنه وربما دهسه بأقدامنا من أجل لقمة العيش؟

دعونى أقص عليكم حكاية واقعية، ونحن صغار بنيت أول مدرسة ابتدائية نموذجية فى قريتنا ‏بالمنوفية، فصول واسعة، حوش كبير، صالة ألعاب رياضية، ثلاثة ملاعب كرة: قدم وسلة ‏وطائرة، ولم نكن نعرف ما هى كرة السلة..وحديقة مزروعة ورد بلدى على قيراطين فى ‏مدخل المدرسة.. تخيلوا أن روائح الورد البلدى كانت تهل علينا قبل أن نصل إلى المدرسة ‏بنصف كيلومتر، ونمضى ست ساعات ونصف الساعة فى العبق الجميل، تخرج من هذه ‏المدرسة: أطباء وصيادلة ومهندسون وضباط جيش وشرطة ومحامون ووكلاء نيابة، كلهم ‏من أبناء الفلاحين..‏

بعد ثلاثين سنة ربما أكثر، ذهبت إلى عشوائيات إمبابة أتابع ظاهرة أمراء التطرّف والعنف، ‏واستفحالها وخضوع الناس لها، وجدت أكواما من الزبالة، وبيوتًا غارقة فى مياه المجارى ‏والنَّاس تنام بينها، رأيت مصريين غلابة يعبرون داخل بيوتهم على أحجار موضوعة ‏ليصعدوا ويناموا على سراير بلدى.. وعموما النظافة عامة مشكلة تبدو بلا حل.‏

شىء طبيعى أن يتخرج من هذه البيئة مجرمون ومتطرفون وحاقدون على المجتمع، فالقبح ‏ليس مجرد «أشياء» نمر عليها ونمضى فى حال سبيلنا كأن شيئا لم يكن، القبح «وحش»، ‏فيروسات شرسة تتسلل من عيوننا وأنوفنا إلى داخلنا، تنهش فى وجداننا ومشاعرنا ونفوسنا ‏وتجرفها أو تجفف رقتها وتخشن إحساسنا بالوجود، فيسهل أن تنجرف هذه النفوس إلى ‏العنف، أو على الأقل إلى التصرفات العشوائية الفوضوية.‏

وذات مرة سألت أستاذا فيلسوفا فى علم الجمال، أجاب بأسى: اعتياد القبح والتعايش معه ‏بمنطقه وشروطه خطر حقيقى،  قبح فى الشارع، قبح فى المبانى، قبح فى العشوائيات، لأنه ‏ببساطة وسهولة ينقلب إلى قبح فى السلوك والتصرفات، فى الفهم، فى العلاقات الإنسانية، فى ‏المعاملات المالية، فى السياسة، فى كل شىء، القبح حالة سلبية تصبغ الحياة المحيطة بها ‏بطبيعتها، القبح حالة سكون ونمطية، بينما الجمال حالة حركة وإبداع، والسكون فى النهاية ‏هو التراجع والتخلف.‏

القبح نزيف لا يتوقف من طاقة المجتمع وقدرات أفراده، والنزيف تبديد للثروة المادية ‏والبشرية، الصخب والفوضى والعشوائيات ليست مجرد ملوثات سمعية وبصرية فقط، وإنما ‏حالة عقلية، والفجاجة فى الفن ليست أعمالًا هابطة ومشاهد وقحة وحوارات بذيئة وانتهى ‏الأمر، هى صور وقيم تنسحب بالضرورة على سلوكيات البشر المستهلكين لها، فصار ‏الاستعجال والاستسهال سمة سائدة، وهما نقيض التفكير والإتقان، فانزلق المجتمع هابطًا إلى ‏أسفل دون أن يتوقف ويراجع نفسه، متعلمين وأنصاف متعلمين وجهلة، كبار موظفين ‏وعامة الناس، مؤسسسات وأفراد.وهذا جوهر المأزق الذى نعيشه فيشكل جوانب حياتنا، ‏اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وسياسيا.‏ ‏ وقال الأستاذ الفيلسوف: الكون نفسه يخضع لنفس المنطق؟

سألته: بأى معنى؟

أجاب: انظر إلى الكون ستجد إبداع الجمال، وقد وضعه الله ألوانا وأشكالا وتكوينات وأحجاما ‏وصوتا وضوءا، كلها لها قانون واحد هو التوازن والتناغم، وإذا حدث وأختل هذا التوازن تقع ‏الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات والأعاصير، وهذا بالضبط ما حدث للشخصية ‏المصرية، فقدت تناغمها مع ذاتها أولا، ثم مع الآخرين، مما أدى إلى صراع بين الأنساق ‏النفسية وهو ما يعنى اضطرابا وارتباكا وحيرة وإهمالا، والأهم فقدان الخيال..‏

سكت محدثى ثم قال: خطأ أن نتصور أن الجمال يخص الأثرياء والنخب المثقفة، فأغلب ‏مبدعى الجمال فنانون من الطبقة الوسطى: أدباء ورسامون وموسيقيون وشعراء وغيرهم، ‏وبعضهم من طبقة أقل، وهدفهم تغيير الواقع، لأنه بخياله قادر على اكتشاف إمكانات هذا ‏الواقع، ونقله إلى المتلقى،  وحين نقتل إحساس الفقراء بالجمال، نأخذ منهم سلاح إدراك ‏الواقع، فيصعب عليهم تغييره، وهذا ما حدث فى ثورتين، قمنا وهتفنا وأبعدنا رئيسين عن ‏السلطة بالقوة، وتحركنا وعملنا وأنجزنا ولم نستطع أن نتجاوز كل مشاكلنا، لأننا لا ندرك هذا ‏الواقع على النحو الصحيح.‏

الجمال ليس ترفا والقبح هو جوهر أزمتنا.‏

 - 2 -‏

وقفت أمام كشك خضراوات حكومى من التى تحاول أن تفرمل الأسعار الجنونية، اشتريت ‏على قدر ما فى جيبى،  أخذت الكيس وخرجت، ففوجئت بسيدة فوق الأربعين، ملابس الطبقة ‏الوسطى، تبدو من الذين جار عليهم الزمن، تقف أمام برميل كبير أمام الكشك، يلقى فيه ‏الباعة بقايا الخضراوات المعطوبة، أو التى يظنون أن المشترين لن يدفعوا فيها جنيها واحدا، ‏وجدتها تقلب وتنتقى ما تراه لم يعطب تماما وتضعه فى كيس معلق فى ذرعها الأيسر، حبة ‏طماطم، خيارة، فحل بصل، جزرة، صابع موز، خوخة..إلخ.‏

وقفت أتأملها ويكاد قلبى يخرج من بين ضلوعى وجعا، حاولت الاقتراب، خفت أن أجرحها ‏أو أحرجها، مضيت فى حال سبيلى،  ولم أنم فى تلك الليلة..‏

نعم ثمة هوة مذهلة بين الناس والحكومة، الناس يتوجعون، يتقلبون على نار الأسعار، لا ‏يغادرهم الفكر والهم والترقب، يحسبون ما جيوبهم من فلوس هينة تقل قيمتهم كل يوم تقريبا، ‏بينما الحكومة والرسميون يتحدثون بسعادة عن عمليات الإصلاح الاقتصادى الجرئ ‏وشهادات الصلاحية المستوردة من مؤسسات أجنبية على «كفاء» ما يصنعون من خطوات فى ‏الاتجاه الصحيح؟

الناس لا تفهم فى الاتجاهات الصحيحة والاتجاهات الغبية، وإنما يعيشون حياتهم، يذهبون إلى ‏الأسواق، يشترون أكل أولادهم واحتياجاتهم، فيصدمهم واقع صعب، ويشعرهم بالعجز عن ‏العيش الكريم.‏

هم لا يفهمون فى النظريات الاقتصادية ولا روشتات البنك الدولى ولا صندوق النقد ولا فلسفة ‏تعويم الجنيه، ولا فاتورة دعم الطاقة، ولا تضخم الدين العام، هم فقط يريدون أن يعيشوا ‏مستورين، لقمة وهدمة وبيت يسترهم وعيال تتعلم وتتعالج.‏

هل تعرف هذه الحكومة شعبها وكيف يعيش فى هذه الأيام؟

- 3 - ‏

قطعا نعلم أن 90 ٪‏ من اقتصاد أمريكا قطاع خاص، وكذلك فى ألمانيا وبريطانيا، لكن ‏الأسعار لا تجن هناك ولا يسمح القانون بوجود محتكرين للسلع والخدمات، ومن يخرج على ‏هذه المنظومة يقطع القانون رقبته ويعلقها على أعمدة الطريق العام، ولى صديق يعيش فى ‏بريطانيا أرسل قائمة بأسعار السلع الغذائية فى عشرين سنة، كى يغيظنى ويرفع من ضغط ‏دمى،  ما بين 5 إلى 15 ٪‏ مقدار الزيادة فى عشرين سنة كاملة.‏

لا نريد تسعيرة جبرية..نريد حكومة جبرية فى تنفيذ القانون والدفاع عن معيشة شعبها.‏