نبيل عمر
إيران بين أمريكا وإسرائيل كثير من الأوراق الخفية قليل من الألعاب المكشوفة
سؤال حائر يشبه تلك الأسئلة التى يفاجئ بها عفريت العلبة فى «ألف ليلة وليلة»، كل عابر سبيل يحرضه فضوله على فتح العلبة، وهو يخمن ما بداخلها، فيخرج عليه العفريت غاضبًا بالسؤال، الذى تعد إجابته الصحيحة جواز العبور إلى بر الأمان: هل ستتصاعد المناوشات العنيفة بين إسرائيل وإيران إلى حد مواجهة واسعة أو حتى متوسطة، ترفع من مستوى الاضطرابات والخطر فى المنطقة الملعونة المسماة الشرق الأوسط بضع درجات قد تدفع بها إلى الهاوية؟
ما رأيكم لو وجهنا السؤال إلى برامج الذكاء الاصطناعى لنتعرف على حساباتها الإلكترونية؟
مبدئيًا هى وصفت ضربة إسرائيل الأخيرة داخل إيران بأنها محدودة، وأن الولايات المتحدة علمت بها مسبقًا، دون أن تهز رأسها بالرفض أو تضيء لها الضوء الأخضر، وما زال الشرق الأوسط بؤرة توتر ومركز صراعات جيوسياسية!
إجابة دبلوماسية مفتوحة تصلح لكل الأغراض، ويبدو أن برامج الذكاء الاصطناعى تعلمت النفاق والمداهنة والعبارات الانشطارية، وهو أمر طبيعى، فالغرب هو الذى صممها وعلمها نمطه فى التفكير والحسابات السياسية وانحيازاته فى الشرق الأوسط.
تعالوا نبعد عن العقول الإلكترونية ونرجع إلى العقول البشرية، وطبيعى أن الغرب له انحيازات عمياء فى صراعات الشرق الأوسط، ولاعبه الأساسى فيها هو الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو يرى إسرائيل أولًا وأخيرًا، ثم يحرص على دوام الصراعات واشتعال الحرائق، لعل خططه تكتمل فى تحويل دول المنطقة إلى كنتونات مذهبية ودويلات طائفية وعرقية، توفر لإسرائيل أمرين، الأول: كل أسباب الراحة فى فندق فلسطين الفاخر أيًا كانت مدة الإقامة بالإكراه، الثانى: التحكم فى المنقطة المحيطة بالفندق وإدارة شئونها الاقتصادية والأمنية بالمشاركة والسلام والحب من طرف واحد.
فى هذه الخطط تلعب «إيران» دور أمّنا الغولة التى يجب على أهل المنطقة أن يعملوا حسابها ويلجأوا إلى «أولاد العم» الذين يملكون إمكانات الردع لهذه الغولة، ومن الضرورى أن تظل أمنا الغولة قادرة على التخويف، وفى الوقت نفسه لا تقصص أمريكا ريشها أو تهذب مخالبها، حتى لا تسقط هيبتها، فقط تناوشها حتى لو ببعض الضربات الخاطفة والعقوبات الرحيمة.
لهذا لا يمكن أن نتعجب من صمت الغرب «جمعاء»، على غارة إسرائيل على القنصلية الإيرانية فى سوريا وقتلها 12 إيرانيًا، منهم قيادات عسكرية، كأن العدوان على البعثات الدبلوماسية لا يمثل جريمة كبرى، تهدد «مفهومًا راسخًا» فى العلاقات الدولية، لكن الغرب كالعادة يستخدم القانون الدولى «مطية» يركبها وقتما يشاء وينزل عنها وقتما يشاء.
وأيضًا لا نستغرب الغرب وهو ينهال بطوفان من الإدانات على رأس إيران بسبب ردها على إسرائيل، مع أن الرد كان مجرد حملة إعلامية وضربة اعتبارية معنوية من الطائرات المسيرة وبضعة صواريخ باليستية، تحاول إيران بها أن تسترد بعضًا من كرامتها على مسرحها الداخلى ومسرح دول الجوار العربية التى بها حلفاء مؤيدون لها.
وبالمناسبة لا أصنف هجوم إيران على إسرائيل بأنه «تمثيلية أو مسرحية»، ولا ضربة إسرائيل على مدينة أصفهان كذلك.. هذه سياسة ومصالح وصراعات لها خطوط ومفاهيم وتحركات وعلاقات دولية.
ومن المرجح ألا تقف إيران وإسرائيل على خط النار، استعدادًا أن يطبق كل منهما فى رقبة الآخر، لأن بينهما الولايات المتحدة التى لا تريد أن تخسر إيران، على أن تظل طهران معلقة فى منطقة «البين بين»، التى هى عليها منذ الثورة الإسلامية فى سنة 1979، خاصة أن أمريكا نفسها بعد أن تأكدت من عدم قدرة الشاه على الصمود أمام عواصف الثورة، فلم تعمل ضد وصول الإسلاميين إلى الحكم، حتى لا تسقط إيران فى قبضة حزب توده الشيوعى، وكان الاتحاد السوفيتى قد غزا أفغانستان قبلها بعام (1978)، فكيف تسمح أمريكا بوجود هذه الكتلة الشيوعية شرق دول الخليج النفطية؟، أما الإسلاميون فهم أقل خطرًا، ويمكن أن يلعبوا دورًا فى الحرب على الاتحاد السوفيتى باسم الجهاد، وتكون إيران جزءًا منه.
وإن كانت إسرائيل يهمها تعميق الأزمة، بل وتسعى بخبث تاريخى موروث إلى توسيع دائرة الصراع فى الشرق الأوسط، وتضغط بكل السبل لدفع أطراف عديدة إلى الانخراط المباشر فى صدام مسلح.
تخيلوا قدر المكاسب التى يمكن أن تحصدها إسرائيل لو اشتعلت المنطقة برمتها، بالطبع هى تدرك أن أمنها فى الحفظ والصون إلى حد كبير، ليس بسبب قدراتها العسكرية الخاصة، لكن بقدرات الولايات المتحدة والدول الأوربية الكبرى وحلف الناتو، وأهم المكاسب على الإطلاق أن تجد مخرجًا «للمأزق» الذى دخلت إليه بقدميها فى غزة، ولا تجد منه مخرجًا حتى الآن، لا هى أكملت ما وصفته بأنها مهمتها وهى القضاء على حماس وتصفيتها، ولا بالعثور على صيغة مقبولة إقليميًا ومن الولايات المتحدة «لأوضاع» غزة والقضية الفلسطينية على المدى القريب أو المتوسط.
وطبعًا توسيع دائرة الحرب يعنى أنها ستقتحم رفح كجزء من حرب إقليمية ودولية واسعة وتستكمل أعمال الإبادة والطرد لأهل غزة.
لكن الولايات المتحدة ترفض هذا السيناريو رفضًا تامًا.. ليس حبًا فى أهل المنطقة أو حبًا فى العدالة، فأمريكا لا تعترف بصداقات وتاريخها المكتوب وليس المذاع على صفحات الجرائد الأمريكية وأفلام السينما ونشرات الأخبار وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية لا يفهم قيم العدالة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان مع الآخر، وإنما هى «أدوات ضغط» واستغلال سياسى واقتصادى.
نعم.. سيناريو كارثى على مصالحها.. إذ يطلق «الأوضاع» من عقال السيطرة إلى براح الفوضى غير الخلاقة بكل احتمالات المخاطر.
إيران نفسها حريصة على عدم التورط المباشر فى صراع الشرق الأوسط، هى أجبرت على ردها، وفعلته بدهاء فارسى قديم، بأن أبلغت «الجيران» بنياتها وموعد الهجوم على إسرائيل، وعلى الفور نقل الجيران الرسالة غير المشفرة إلى الولايات المتحدة التى أبلغت بها إسرائيل لتأخذ حذرها والاحتياطات لصيد المسيرات والصواريخ الباليستية قبل أن تصل إلى الحدود، وإذا وصل القليل منها فلا تقع أضرار جسيمة، وبالفعل كانت الأضرار شكلية ولم يسقط قتيل واحد، مجرد إصابة فتاة بدوية فى صحراء النقب.
كانت إيران مجبرة على الرد «الاعتبارى» من باب الحفاظ على الهيبة، مع أن هذه الرد «أضر» أهل غزة ضررًا بالغًا، إذ أبعد عنهم جزءًا مهمًا من الرأى العام العالمى، وجدد دماء بنيامين نيتنياهو السياسية، وأعاد بعض السبب إلى خطاب حلفاء إسرائيل فى الإعلام الغربى بعد أن فقدوا كل حجة وذريعة أمام جرائم الحرب التى يرتكبها جيش الإبادة الإسرائيلى فى غزة.
والأخطر هو بث حرارة فى جسد وليد كان يقترب من التجمد إلى حد الموت هو التحالف العربى الإسرائيلى، الذى تستموت الولايات المتحدة على تأسيسه وتقويته على أسس أقتصادية وأمنية ودينية (الإبراهيمية الجديدة).
بالطبع كان التعاون الغربى العربى فى إسقاط المسيرات الإيرانية فى الأجواء العراقية والأردنية مدعاة لتفاخر إسرائيل، إذ صرح أكثر من مسئول إسرائيلى بأنها (المرة الأولى التى نرى فيها التحالف يعمل بكل قوته مدافعًا عن إسرائيل)!
طبعًا إيران لا يهمها إلا صورتها، وفى الوقت نفسه تحافظ على «الشعرة» التى تربطها بالولايات المتحدة، وتسمح لها بالتفاوض والأخذ والرد وتقليص تأثير العقوبات المعلنة على اقتصادها، فالإيرانيون برجماتيون من الدرجة الأولى، والشعارات الرنانة جزء من الألعاب المكشوفة.
أما أصدقاء إيران فى المنطقة فقد فسروا «إعلانها» لتفاصيل الهجوم على إسرائيل قبل إطلاقه، وقد يكون هو أول هجوم عسكرى مكشوف فى التاريخ، نوعه، مقداره، مساراته، توقيتاته، بأن هذه التفاصيل كانت نوعًا من الخداع، الخداع الاستراتيجى، إذ كانت وسيلة فعالة للغاية لجمع معلومات على الملأ، عن قدرات نظام الدفاع الأمريكى المتكامل، متعدد الجنسيات، وهو النظام الممتد من شمال العراق إلى الحدود الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، ورد فعله فى الرد على هذه الهجمات، سواء على الطائرات المسيرة أو صواريخ الجيل القديم، لأن طهران لم تطلق صواريخ من الأجيال الجديدة، وهو ما يفيدها فى أى هجوم تشنه مستقبلًا، إذا لم تتوقف إسرائيل عن استفزازها عسكريًا.
بينما إيران نفسها أعلنت بوضوح على لسان رئيسها أن انتقام إيران كان متعمدًا ومحدودًا.. أى أنه لا يسعى إلى التصعيد نهائيًا.
لكن إسرائيل تحاول أن تلعب دور شمشون، وما زالت أمريكا تلعب دور دليلة!
ودليلة تكسب دائمًا!