الجمعة 29 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
جريمة أكثر إثارة من مسلسلات رمضان!‏ ما شكل الجريمة فى شهر رمضان المبارك؟

جريمة أكثر إثارة من مسلسلات رمضان!‏ ما شكل الجريمة فى شهر رمضان المبارك؟

‎‎شهر صوم وإيمان وورع، تتسلسل فيه الشياطين وتقيد حريتها فى الزن على آذان الإنسان، ‏فهل يستجيب الإنسان للخير وينفض عن نفسه أغلال الشر، ويأخذ إجازة سنوية من فعل ‏الجريمة؟



وهو أيضا شهر مسلسلات بالزوفة، تتسمر فيه العيون أمام شاشات التليفزيون تتابع أحداثا ‏

وصورا ملونة بالساعات ومما قد يوحى بأن وقت الجريمة انتشلته أحداث الدراما..

لكن‎..‎ دوما الدنيا أكثر صخبا من الدراما، وأحيانا الواقع أشد سخونة من الخيال، وفى الغالب ‏الحوادث أدق تصويرا لطبائع الإنسان من الأحداث.

 

‏أولا.. فى الدنيا الصراع حاد لا يهدأ لحظة واحدة ويمتزج فيه الخير والشر كامتزاج الماء ‏العذب بالماء المالح ومفاجأته مذهلة وصادمة ومتقلبة ومتجددة وبلا ضوابط، بينما الدراما ‏الصراع فيها محكوم بنظرة المؤلف لشخوصه وثقافته وموهبته ولا يمتزج فيه الخير بالشر، ‏فالخير فى ركن من الحلبة والشر فى الركن الآخر ثم يتقاتلان فى جولات مرسومة النتائج ‏سلفا، ومفاجأته مخططة ولها حدود منطقية لا يعبرها خيال المؤلف.‏

‏ ثانيا.. الحوادث هى لحظة تصادم بين الإنسان والإنسان تحت خلفية معقدة من بيئة وظروف ‏وتعليم وأخلاق ومشاعر وقانون ومصالح شخصية وسلطة، والإنسان الفرد هو البطل، لكن ‏الأحداث فهى خطط عميقة يحفرها صدام أعلى محليا أو إقليما أو دوليا بين تنظيمات ارتضاها ‏الإنسان لتسيير حياته العامة داخل مجتمعه أو مع المجتمعات الأخرى، وتحكمها سياسات ‏ومصالح استراتيجية وموازين قوى، والإنسان الفرد مجرد كومبارس!‏

 

وأنا من هؤلاء الذين يميلون إلى الدنيا والواقع فتكون الحوادث إشارات قوية لفهم حقائق ‏الحياة.‏

وقد استوقفتنى الحوادث التى وقعت فى شهر رمضان، بقدر يفوق مائة مرة مسلسلاته، ‏فالمسلسلات أحداثها مصنوعة حسب مقاس النجوم والنجمات، ولا يعنيها سواهم لتظل ‏الكاميرا أغلب الوقت على وجوههم التى هزمت الزمن، ومن المؤكد أن الشيطان فيها لن ‏ينتصر على الخير الكامن فى الإنسان، والزوج الغاضب سيتصالح مع زوجته ويعود إلى ‏أولاده بطريقة ما، والبطل سيهزم خصومه، والنجمة الفاتنة سوف يعشقها كل الرجال سواء ‏الذين يلعبون أدوارهم فى الحلقات أو الذين يتابعونها على الأرائك فى البيوت، فهى امرأة لا ‏تقاوم وسحرها يقفز من الشاشة إلى الجمهور.‏

وبالرغم من هذا لا أظن أن ثمة مسلسلا أكثر إثارة من واقعة شروع فى قتل بالطريق العام، ‏فالجانى الزوج طبيب والمجنى عليها الزوجة مدير عام، والاثنان فى سنوات العمر الأخيرة، ‏تركا خلفهما سنوات الطيش والانفعال والغضب الجامح وذهول العقل وغيابه، ودخلا فى طور ‏الحكمة والهدوء والتدبر والتصرف برزانة وتفكير مستقيم إلى حد كبير، فكيف حدث أن ‏حاول الطبيب قتل زوجته فى الطريق العام بالرصاص والسكين معا ثم عاد إلى مسكنه ‏لينتحر؟

كيف والزوج يتمتع بسمعة طيبة ولم يعتد على زوجته أبدا منذ أن اجتمعا تحت سقف واحد ‏لأكثر من ثلاثين سنة؟

هل يعقل أن يكون الاعتداء الأول شروعا فى قتل؟

ما هى نوعية الخلاقات التى يمكن أن تسحب العقل إلى أعماق الكهف فتطمس سطوته وتُعتم ‏خلاياه، وتُطلق سراح غريزة العدوان من عقالها هائجة متوحشة لا يردعها أخلاق أو ضمير ‏أو تحضر؟، كيف حل المسدس محل الحوار والسكين محل التفاهم بين الزوج الطبيب ‏والزوجة المديرة؟

عند كل جريمة يقول المثل الفرنسى الشائع «أبحث عن المرأة»، وهو مثل لا يمت للثقافة ‏الغربية بصلة، وأقرب إلى الثقافة الشرقية التى تحاول أن تلبس المرأة كل نقيصة، والأهم أن ‏الجريمة بلا جنس أو لون، ولا يوجد دافع ثبا نحمله التحريض على الجرائم، ولو صاحب ‏المثل يعيش بيننا الآن لعدله على الفور «ابحث عن الفلوس»!‏

صحيح أن أول جريمة فى تاريخ الإنسان لم تكن على ثروة أو سلطانًا، لكن منذ عرف ‏الإنسان التملك والملكية تراجعت معظم الدوافع إلى الصفوف الخلفية وتقدمت الثروة والسلطة ‏إلى الأمام، فهما واقع البذخ والرفاهية أو حلم الهروب من الفقر.‏

ومن غرفة العناية المركزة قالت الزوجة: نعم كانت بيننا خلافات مالية.‏

إذن نحن نتحدث عن الفلوس، ليست أى فلوس، فالزوج والزوجة من عائلات ثرية، تملك ‏وتسكن على نيل القاهرة، بالقرب من وسط المدينة، أى نتحدث عن فلوس القدرة، لا فلوس ‏النفقة، فلوس الفائض لا فلوس العوز، فلوس العز لا فلوس الفلس!!‏

وقد نفهم جريمة دافعها أو سببها فلوس النفقة والفلس والعوز، فالحاجة أم الاختراع حتى لو ‏كان هذا الاختراع هو سفك الدماء، لكن الوفرة والاكتناز يصعب جدا أن يكونا دافعا للقتل فى ‏وسط متعلم وعلى قدر من الثقافة وتهذيب نوازع الطمع، إلا إذا كانت منظومة القيم مصابة ‏بعطب شديد أجلس الفلوس منفردة على عرش الوجود والأخلاق والرغبات، وبالطبع لا يمكن ‏أن ننكر قيمة الثروة فى التكوين الطبقى والثقافى والأخلاقى والنفسى أو يقلل من دورها فى ‏جعل الحياة أكثر سهولة ومتعة، لكن إذا تربعت منفردة على عرش الحكم، فنحن أمام كارثة ‏فردية ومجتمعية.‏

ويبدو أن هذا هو ما حدث فعلا..‏

الزوج عمل لسنوات خارج مصر، فهو كان ماهرا فى مهنته، وعند عودته اشترى شاليه فاخرا ‏فى الساحل الشمالى، ويقال أن زوجته شاركت بجزء من الملايين المدفوعة، وكتب الشاليه ‏باسم الزوجة منفردة، يبدو أن الزوج من هؤلاء الطيبين، الذين يتركون حبل حياتهم فى يد ‏زوجته، تدير أمور المعيشة وتتصرف فى كل كبيرة وصغيرة تخص تربية الأولاد وتعاليمهم ‏وشئون البيت عموما، كثير من الرجال يفعلون ذلك من باب إراحة البال وتكبير الدماغ وتقليل ‏المشاحنات العائلية التى تبدو ركنا فاعلا فى عقد الزواج. ‏

فجأة تمرد الزوج أو فاق من حالة الرحرحة لسبب مات معه بانتحاره، ربما طقت فى دماغة ‏فكرة أن يختبر زوجته بعد هذه العشرة الطويلة والطاعة الاختيارية، فطلب منها أن تعدل ‏ملكية الشاليه إلى اسمه، صعقت الزوجة ولم تصدق أذنها، ودارت رأسها كأن الأرض ‏راحت تلف عكس دورانها الطبيعى، هل جن الرجل؟، هل أصابته أزمة منتصف العمر بعد ‏نهاية العمر فتعلق بفتاة كانت سببا وراء الطلب المذهل؟، اختصرت الطريق على نفسها، ‏وقالت له بصوت حاسم قاطع: لا!‏

لكن الزوج، الذى أكد أصدقاؤه والمقربون منه أنه كان يختبر زوجته، أحس بالإهانة والخيانة ‏معا، فركبه العناد وصعب عليه نفسه: كيف بعد أن مكنها من كل شىء فى حياته لا تستجيب ‏لطلبه؟

بالطبع مواقف تضارب المصالح تشبه المرآة الكاشفة للنفوس، وفيها تمتحن العلاقات الإنسانية ‏عن لحظة التصادم بين مصلحتى ومصلحتك، فالناس تمضى بهم الحياة رائقة صافية منسجمة ‏إلى حد ما، وقد يعلو فيها حديث الوفاء والحب والإخلاص والصداقة والأخلاق الحميدة، لكن ‏عن مفارق الطريق بين المصالح تنضح الوجوه بحقيقيتها؟، وتشى إدارة الصراع بين ما يريده ‏الإنسان وما يريده الحبيب والصديق والأخ والزوجة والأخت والأب أو حتى الأم؟، هل قاعدة «أنا ومن بعدى الطوفان»، أم بعض التضحية وصولا إلى نقطة اتفاق مقبولة؟‏

إن تضارب المصالح هو أعظم اختبار للمشاعر الإنسانية، الحبل المشدود بين جنة صدقها ‏ونار كذبها..‏ وخسر الطرفان الرهان..‏

وحين يحدث هذا فى العلاقات الزوجية أو العاطفية يتحول الورد إلى شوك، والنسمة إلى ‏عاصفة، والدفء إلى جليد، والتواصل إلى قطيعة والحب إلى حياد أو عداء.‏

وهنا طلبت الزوجة الطلاق، فرفض الزوج، كيف يقبل وهى لم تقبل أن تعيد إليه الشاليه، ‏وانفصلا عن بعضهما عامين، يسكنان فى نفس العمارة، لكن فى شقتين كأنهما غرباء، وبينهما ‏نزاع فى محكمة الأسرة، ونزاع قضائى على شقة الزوجية.‏

المدهش أن الزوجة لم ترفع قضية خلع، وإنما قضية طلاق، فالخلع تنازل، والطلاق حقوق.‏

ازداد إحساس الزوج بالغبن، كان الشريك المطيع فى شراكة خاسرة، قدم السبت والأحد ‏والاثنين، ولم يجد الشاليه يوم الثلاثاء، وقد يتحمل خسائر إضافية لو خسر القضيتين.‏

جن جنونه، قرر أن يختصر المسافات، ويفاوض زوجته مباشرة دون محاكم، نزل غلى ‏الشارع، انتظرها على باب العمارة، طلب منها أن يدخلا إلى الشقة يتكلمان سويا، رفضت، ‏حايلها، أصرت على رفضها، أخرج مسدسه وأطلق عليها طلقتين، ثم أخرج سكينا وطعنها ‏ثلاث طعنات، تجمع الناس، أسرع أولادهم من الشقة على صوت الرصاص والصراخ، جرى ‏الأب على شقته، وأطلق على نفسه الرصاص ومات.‏ ما هو الحادث الأكثر إثارة فى أى مسلسل رمضانى من هذا الواقع؟