نبيل عمر
جريمة أكثر إثارة من مسلسلات رمضان! ما شكل الجريمة فى شهر رمضان المبارك؟
شهر صوم وإيمان وورع، تتسلسل فيه الشياطين وتقيد حريتها فى الزن على آذان الإنسان، فهل يستجيب الإنسان للخير وينفض عن نفسه أغلال الشر، ويأخذ إجازة سنوية من فعل الجريمة؟
وهو أيضا شهر مسلسلات بالزوفة، تتسمر فيه العيون أمام شاشات التليفزيون تتابع أحداثا
وصورا ملونة بالساعات ومما قد يوحى بأن وقت الجريمة انتشلته أحداث الدراما..
لكن.. دوما الدنيا أكثر صخبا من الدراما، وأحيانا الواقع أشد سخونة من الخيال، وفى الغالب الحوادث أدق تصويرا لطبائع الإنسان من الأحداث.
أولا.. فى الدنيا الصراع حاد لا يهدأ لحظة واحدة ويمتزج فيه الخير والشر كامتزاج الماء العذب بالماء المالح ومفاجأته مذهلة وصادمة ومتقلبة ومتجددة وبلا ضوابط، بينما الدراما الصراع فيها محكوم بنظرة المؤلف لشخوصه وثقافته وموهبته ولا يمتزج فيه الخير بالشر، فالخير فى ركن من الحلبة والشر فى الركن الآخر ثم يتقاتلان فى جولات مرسومة النتائج سلفا، ومفاجأته مخططة ولها حدود منطقية لا يعبرها خيال المؤلف.
ثانيا.. الحوادث هى لحظة تصادم بين الإنسان والإنسان تحت خلفية معقدة من بيئة وظروف وتعليم وأخلاق ومشاعر وقانون ومصالح شخصية وسلطة، والإنسان الفرد هو البطل، لكن الأحداث فهى خطط عميقة يحفرها صدام أعلى محليا أو إقليما أو دوليا بين تنظيمات ارتضاها الإنسان لتسيير حياته العامة داخل مجتمعه أو مع المجتمعات الأخرى، وتحكمها سياسات ومصالح استراتيجية وموازين قوى، والإنسان الفرد مجرد كومبارس!
وأنا من هؤلاء الذين يميلون إلى الدنيا والواقع فتكون الحوادث إشارات قوية لفهم حقائق الحياة.
وقد استوقفتنى الحوادث التى وقعت فى شهر رمضان، بقدر يفوق مائة مرة مسلسلاته، فالمسلسلات أحداثها مصنوعة حسب مقاس النجوم والنجمات، ولا يعنيها سواهم لتظل الكاميرا أغلب الوقت على وجوههم التى هزمت الزمن، ومن المؤكد أن الشيطان فيها لن ينتصر على الخير الكامن فى الإنسان، والزوج الغاضب سيتصالح مع زوجته ويعود إلى أولاده بطريقة ما، والبطل سيهزم خصومه، والنجمة الفاتنة سوف يعشقها كل الرجال سواء الذين يلعبون أدوارهم فى الحلقات أو الذين يتابعونها على الأرائك فى البيوت، فهى امرأة لا تقاوم وسحرها يقفز من الشاشة إلى الجمهور.
وبالرغم من هذا لا أظن أن ثمة مسلسلا أكثر إثارة من واقعة شروع فى قتل بالطريق العام، فالجانى الزوج طبيب والمجنى عليها الزوجة مدير عام، والاثنان فى سنوات العمر الأخيرة، تركا خلفهما سنوات الطيش والانفعال والغضب الجامح وذهول العقل وغيابه، ودخلا فى طور الحكمة والهدوء والتدبر والتصرف برزانة وتفكير مستقيم إلى حد كبير، فكيف حدث أن حاول الطبيب قتل زوجته فى الطريق العام بالرصاص والسكين معا ثم عاد إلى مسكنه لينتحر؟
كيف والزوج يتمتع بسمعة طيبة ولم يعتد على زوجته أبدا منذ أن اجتمعا تحت سقف واحد لأكثر من ثلاثين سنة؟
هل يعقل أن يكون الاعتداء الأول شروعا فى قتل؟
ما هى نوعية الخلاقات التى يمكن أن تسحب العقل إلى أعماق الكهف فتطمس سطوته وتُعتم خلاياه، وتُطلق سراح غريزة العدوان من عقالها هائجة متوحشة لا يردعها أخلاق أو ضمير أو تحضر؟، كيف حل المسدس محل الحوار والسكين محل التفاهم بين الزوج الطبيب والزوجة المديرة؟
عند كل جريمة يقول المثل الفرنسى الشائع «أبحث عن المرأة»، وهو مثل لا يمت للثقافة الغربية بصلة، وأقرب إلى الثقافة الشرقية التى تحاول أن تلبس المرأة كل نقيصة، والأهم أن الجريمة بلا جنس أو لون، ولا يوجد دافع ثبا نحمله التحريض على الجرائم، ولو صاحب المثل يعيش بيننا الآن لعدله على الفور «ابحث عن الفلوس»!
صحيح أن أول جريمة فى تاريخ الإنسان لم تكن على ثروة أو سلطانًا، لكن منذ عرف الإنسان التملك والملكية تراجعت معظم الدوافع إلى الصفوف الخلفية وتقدمت الثروة والسلطة إلى الأمام، فهما واقع البذخ والرفاهية أو حلم الهروب من الفقر.
ومن غرفة العناية المركزة قالت الزوجة: نعم كانت بيننا خلافات مالية.
إذن نحن نتحدث عن الفلوس، ليست أى فلوس، فالزوج والزوجة من عائلات ثرية، تملك وتسكن على نيل القاهرة، بالقرب من وسط المدينة، أى نتحدث عن فلوس القدرة، لا فلوس النفقة، فلوس الفائض لا فلوس العوز، فلوس العز لا فلوس الفلس!!
وقد نفهم جريمة دافعها أو سببها فلوس النفقة والفلس والعوز، فالحاجة أم الاختراع حتى لو كان هذا الاختراع هو سفك الدماء، لكن الوفرة والاكتناز يصعب جدا أن يكونا دافعا للقتل فى وسط متعلم وعلى قدر من الثقافة وتهذيب نوازع الطمع، إلا إذا كانت منظومة القيم مصابة بعطب شديد أجلس الفلوس منفردة على عرش الوجود والأخلاق والرغبات، وبالطبع لا يمكن أن ننكر قيمة الثروة فى التكوين الطبقى والثقافى والأخلاقى والنفسى أو يقلل من دورها فى جعل الحياة أكثر سهولة ومتعة، لكن إذا تربعت منفردة على عرش الحكم، فنحن أمام كارثة فردية ومجتمعية.
ويبدو أن هذا هو ما حدث فعلا..
الزوج عمل لسنوات خارج مصر، فهو كان ماهرا فى مهنته، وعند عودته اشترى شاليه فاخرا فى الساحل الشمالى، ويقال أن زوجته شاركت بجزء من الملايين المدفوعة، وكتب الشاليه باسم الزوجة منفردة، يبدو أن الزوج من هؤلاء الطيبين، الذين يتركون حبل حياتهم فى يد زوجته، تدير أمور المعيشة وتتصرف فى كل كبيرة وصغيرة تخص تربية الأولاد وتعاليمهم وشئون البيت عموما، كثير من الرجال يفعلون ذلك من باب إراحة البال وتكبير الدماغ وتقليل المشاحنات العائلية التى تبدو ركنا فاعلا فى عقد الزواج.
فجأة تمرد الزوج أو فاق من حالة الرحرحة لسبب مات معه بانتحاره، ربما طقت فى دماغة فكرة أن يختبر زوجته بعد هذه العشرة الطويلة والطاعة الاختيارية، فطلب منها أن تعدل ملكية الشاليه إلى اسمه، صعقت الزوجة ولم تصدق أذنها، ودارت رأسها كأن الأرض راحت تلف عكس دورانها الطبيعى، هل جن الرجل؟، هل أصابته أزمة منتصف العمر بعد نهاية العمر فتعلق بفتاة كانت سببا وراء الطلب المذهل؟، اختصرت الطريق على نفسها، وقالت له بصوت حاسم قاطع: لا!
لكن الزوج، الذى أكد أصدقاؤه والمقربون منه أنه كان يختبر زوجته، أحس بالإهانة والخيانة معا، فركبه العناد وصعب عليه نفسه: كيف بعد أن مكنها من كل شىء فى حياته لا تستجيب لطلبه؟
بالطبع مواقف تضارب المصالح تشبه المرآة الكاشفة للنفوس، وفيها تمتحن العلاقات الإنسانية عن لحظة التصادم بين مصلحتى ومصلحتك، فالناس تمضى بهم الحياة رائقة صافية منسجمة إلى حد ما، وقد يعلو فيها حديث الوفاء والحب والإخلاص والصداقة والأخلاق الحميدة، لكن عن مفارق الطريق بين المصالح تنضح الوجوه بحقيقيتها؟، وتشى إدارة الصراع بين ما يريده الإنسان وما يريده الحبيب والصديق والأخ والزوجة والأخت والأب أو حتى الأم؟، هل قاعدة «أنا ومن بعدى الطوفان»، أم بعض التضحية وصولا إلى نقطة اتفاق مقبولة؟
إن تضارب المصالح هو أعظم اختبار للمشاعر الإنسانية، الحبل المشدود بين جنة صدقها ونار كذبها.. وخسر الطرفان الرهان..
وحين يحدث هذا فى العلاقات الزوجية أو العاطفية يتحول الورد إلى شوك، والنسمة إلى عاصفة، والدفء إلى جليد، والتواصل إلى قطيعة والحب إلى حياد أو عداء.
وهنا طلبت الزوجة الطلاق، فرفض الزوج، كيف يقبل وهى لم تقبل أن تعيد إليه الشاليه، وانفصلا عن بعضهما عامين، يسكنان فى نفس العمارة، لكن فى شقتين كأنهما غرباء، وبينهما نزاع فى محكمة الأسرة، ونزاع قضائى على شقة الزوجية.
المدهش أن الزوجة لم ترفع قضية خلع، وإنما قضية طلاق، فالخلع تنازل، والطلاق حقوق.
ازداد إحساس الزوج بالغبن، كان الشريك المطيع فى شراكة خاسرة، قدم السبت والأحد والاثنين، ولم يجد الشاليه يوم الثلاثاء، وقد يتحمل خسائر إضافية لو خسر القضيتين.
جن جنونه، قرر أن يختصر المسافات، ويفاوض زوجته مباشرة دون محاكم، نزل غلى الشارع، انتظرها على باب العمارة، طلب منها أن يدخلا إلى الشقة يتكلمان سويا، رفضت، حايلها، أصرت على رفضها، أخرج مسدسه وأطلق عليها طلقتين، ثم أخرج سكينا وطعنها ثلاث طعنات، تجمع الناس، أسرع أولادهم من الشقة على صوت الرصاص والصراخ، جرى الأب على شقته، وأطلق على نفسه الرصاص ومات. ما هو الحادث الأكثر إثارة فى أى مسلسل رمضانى من هذا الواقع؟