الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مفتاح الحل فى أزمة الأسواق والأسعار أوجاع مصرية من الدولار والتجار الحيتان!‏

مفتاح الحل فى أزمة الأسواق والأسعار أوجاع مصرية من الدولار والتجار الحيتان!‏

كنا جلوسًا على مقهى بلدى، حين نادى عجوز على صبى المقهى سائلاً: كم الحساب؟



رد الصبى: عشرون جنيهًا.‏

اهتز رأس العجوز، كأنه أُخذ على غرة، هو يقترب من السبعين أو تجاوزها، يخب فى جلباب ‏بلدى، ممسكًا بعصى فى يده يبدو أنه يتكئ عليها أحيانًا، وله فيها مآرب أخرى، صرخ فى ‏الصبي: كوب كركديه بعشرين جنيه، ليه؟، هو أنا قاعد فى كافيه على النيل.‏

علق أحد الجالسين: يا عم حسن، لو قاعد على النيل بمئة جنيه على الأقل. 

رد صبى المقهى: أنا عبدالمأمور، صاحب المكان هو محدد الأسعار.‏

دفع الرجل صاغرًا، وهو يكظم غيظه، الذى أضفى على وجهه بعض السواد.‏

قام أحد الجالسين وطبطب على ظهر الرجل العجوز: الدنيا بقت نار يا عم حسن، أنا عازمك ‏المرة الجاية.‏ رد عم حسن: لا مرة جاية ولا مرة تانية، نحبس أنفسنا فى البيت، كل حاجة غليت، وتغلى ‏كل يوم تقريبًا.‏ غادر المقهى منحنى الظهر، مطأطئ الرأس، يجر قدميه جرًا.‏

كانت عبارة العم حسن أشبه بإلقاء حجر ضخم فى قلب بركان يبدو خامدًا، فانطلقت حمم ‏العبارات من كل الجالسين، أعرف أغلبهم، فنحن جيران، نصفهم متعلمون تعليمًا عاليًا، ‏موظفون على المعاش، موظفون فى سنوات الخدمة، رجال أعمال حرة فى المعمار والأدوات ‏الصحية.

وفجأة انتصبت دائرة من الأسئلة الصعبة، أسئلة مليئة بالوجع قادمة من عمق مشاعر قلقة ‏وأفكار حائرة، كانوا مثل قافلة تقطعت بهم سبل الصحراء المترامية، فراحوا يبحثون عن ‏سبل معرفة الاتجاهات.‏

قال أحدهم: لماذا يربطون الإصلاح الاقتصادى بتعويم الجنيه؟، وهل يجب علينا أن نسمع ‏كلام صندوق النقد الدولى أو غيره؟

قلت: مفترض فى أى اقتصاد أن يكون سعر عملته مستقرًا إلى حد كبير، فاستقرار السلع ‏ضرورة للاستثمار والتنمية والتوسع فى أى مشروعات جديدة، والاستقرار غير الثبات، ‏الاستقرار حركة منتظمة لها منطق ومعايير وأدوات وهامش، فأى مستثمر لا يمكنه العمل فى ‏دراسة جدوى لمشروعه دون أن يعرف سعر العملة واحتمالات ارتفاعه وانخفاضه فى المدى ‏المتوسط على الأقل، وأيضًا ليقدر مصروفات التشغيل والتكاليف الثابتة وأسعار البيع، ومؤكد ‏وجود سعرين للعملة فى السوق عائق كبير، ويصعب أن يضخ أموالاً فى سوق الفارق بين ‏السعر الرسمى والسعر فى السودق السوداء كبير ومبالغ فيه، ووجود سعرين معناه أن السعر ‏الرسمى ليس دقيقًا ولا يعبر عن القيمة الحقيقية، فيبدأ الحديث عن التعويم، كحل عادل الهدف ‏منه إزالة الفوارق بين السعرين، وفق قانون العرض والطلب.‏

قاطعنى متسائلاً: ولماذا لا نعوم الجنيه ونرتاح؟

قلت: المسألة ليست بهذه البساطة، لأننا نعانى عجزًا مزمنًا فى مواردنا من العملات الأجنبية، ‏باختصار لأننا ننتج أقل مما نحتاج ونستهلك، ونستورد أكثر مما نصدر، أى سيكون حجم ‏الطلب على الدولار والعملات الأجنبية أكبر من العرض وسيزداد تدريجيًا، لتغطية ما ‏نستورده، وبالتالى ترك الجنيه عائمًا فى سوق حرة تمامًا، يعنى انخفاضات فيه يصعب ‏السيطرة عليها!‏

ودوام انخفاض الجنيه يعنى أمرين: ارتفاعا لا يتوقف فى فاتورة الاستيراد، يعنى لو كنا ‏نستورد سلعًا بـ90 مليار دولار، بسعر 31 جنيهًا للدولار، فإننا ندفع حوالى 2 تريليون ‏و790 مليار جنيه، كانت تساوى 540 مليار جنيه فقط فى سنة 2010، وفى حالة التعويم أو ‏خفض الجنيه ما بين 40 و50 جنيهًا للدولار، حسب توقعات بعض المؤسسات الدولية ‏كصندوق النقد الدولى، هذا معناه أن ترتفع قيمة الفاتورة فى المتوسط إلى أربعة تريليونات ‏وخمسمائة مليون جنيه، فى نفس مجموعة السلع، وهو ما يتسبب فى موجات إضافية من رفع ‏أسعارها.‏

قاطعنى هاتفًا: معقول الجنيه يبقى بـ«2» سنت أمريكى!، لما خرجت على المعاش اشتريت ‏شهادات ادخار تساعدنى على المعيشة كانت تعادل وقتها 40 ألف دولار، بقت الآن تساوى ‏أقل من ستة آلاف دولار بسعر السوق السوداء!!

‏ لم ألتفت إليه وأكملت: ولهذا تتأنى الحكومة المصرية فى اتخاذ القرار، إذ لها حسابات ‏اجتماعية غير الحسابات الاقتصادية البحتة، وإذا فعلت فمن المؤكد أنها ستتخذ مجموعة من ‏الإجراءات وتدابير الحماية الاجتماعية، مثل رفع الحد الأدنى للأجور، وزيادة المرتبات ‏والمعاشات.. إلخ.‏

رد جار كان موظفًا كبيرًا بوزارة المالية وخرج على المعاش قبل سنوات: طول عمر ‏الحكومة فى مصر وهى تعمل بفكرة التعويم المُدار، حتى تضبط توحش سوق مشوهة لا تعمل ‏بقوانين السوق، مثل كل الأسواق فى كل بلاد الدنيا، نحن سوق منفلتة بلا رقابة حقيقية فى ‏أسعار السلع والخدمات والعملات، سوق يحكمها محتكرون وأباطرة، والرقابة لا تعنى أن ‏تفرض الحكومة أسعارًا للسلع والخدمات، وإنما هى العمل بوسائل وأدوات وقوانين ‏لضبط عناصر السوق حتى تعمل بالمعايير الاقتصادية، وتصبح قوانين السوق غير ‏الاحتكارية هى رمانة الميزان فى تحديد أسعار السلع والخدمات وليست رغبات وأمزجة ‏وجشع التجار، كما هو الحال فى الدول الرأسمالية مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا ‏نفسها، ولأن الحكومة تدرك مدى عشوائية السوق تنزل مؤسسات تابعة للدولة إلى السوق تبيع ‏السلع للناس بأسعار معقولة نسبيًا، وبالفعل هى تخفف من حدة الأزمة وتسد بعض ثغراتها، ‏لكن بسبب العدد الكبير للسكان وضخامة الطلب من عشرات الملايين على السلع الاستهلاكية ‏اليومية، فالتأثير لا يعالج كل تشوهات السوق، ويظل المحتكرون الكبار والأباطرة يفرضون ‏أسعارهم، خاصة فى القاهرة والمدن الكبرى.‏

صرخ ثالث: نعم.. لدرجة أنهم يرفعون الأسعار تقريبًا كل يوم أو يومين، هل فيكم أحد ‏اشترى سلعة بسعر ثابت من شهر أكتوبر إلى اليوم، اللبن والبيض والجبن والزيت والبن ‏والعدس والفراخ والأسماك والأرز والفاصوليا البيضاء.. إلخ ولن أتحدث عن اللحوم فقد ‏قررت ألا أقترب منها إلا فى المواسم والأعياد كعادة أهلنا زمان، أكثرها تضاعف سعره فى ‏أقل من شهر، خاصة فى الشهر الأخير.. «هو فيه كده فى الدنيا»!‏

رد موظف حكومى ما زال فى الخدمة: الأسعار زادت فى كل دول العالم بسبب الكورونا ‏والحرب الروسية فى أوكرانيا والأوضاع المضطربة فى العالم.‏

رد عليه: نعم هذا صحيح، الأسعار زادت فى الدنيا كلها لكن بنسبة، وليس كل يوم ودون ‏توقف، اشتريت علبة لبن «........»، كانت بـ34 جنيهًا، بعد يومين فقط ارتفعت إلى 37 جنيهًا، أول إمبارح دفعت 44 جنيهًا، يعنى %30 فى أسبوع واحد، والله العظيم ابنتى كان ‏نفسها فى نوع من الجبنة «.....» أعملها ساندويتشات وهى ذاهبة إلى رحلة مدرسية، اشتريت ‏ثُمن كيلو بـ75 جنيهًا، كان نفسى أعيط!‏

قلت: مؤكد لا توجد رقابة جادة وصارمة على الأسواق، ويبدو المستوردون والتجار وكأنهم ‏فاردين قلوعهم علينا، فرصة للمكسب الحرام، كل قرش زيادة يدفعونه يلمّونه ثلاثة وأربعة، ‏والكلام عن التسعيرة المكتوبة على كل سلعة لا تلتزم به البقالات، سواء الصغيرة ولا ‏الكبيرة.‏

تساءل أحدنا بحرقة: ولماذا لا تضبط الحكومة الأسواق؟

قلت: تراث قديم وتقاليد نشبت أظافرها فى جسد الأسواق المصرية، طول عمر المستوردين ‏أقوياء وأصحاب نفوذ، وإغضابهم يصنع أزمات فى السلع واختناقات، لكن لو تمكنا من إعمال ‏‏«القوانين» المعمول بها فى بريطانيا على سبيل المثال، سيكون تأثيرها كبيرًا على الأسعار ‏والمنتجات.‏

وعاد السؤال الأول: ولماذا نسمع كلام صندوق النقد؟ ‏

‏ قلت: قطعًا ليس علينا أن نسمع صندوق النقد الدولى ولا البنك الدولى، ما دمنا لا نحتاج ‏إليهما، لكن الحاجة إلى تمويل وقروض، تدفعنا إلى التفاوض معهما، ولهما شروط يعملان ‏بها، قد لا تكون عادلة أو غير صالحة لمجتمع ما، لكن بروتوكول يتبعونه فى أى اتفاق مالى.‏

تساءلوا فى نفس واحد: يعنى ما فيش حل؟

قلت: مليون فى المائة فيه حل، هذه الأزمة هى مفتاح الحل، أن نعيد التفكير فى اقتصادنا ‏والطريقة التى نعمل بها، والحكومة تحدثت فعلاً فى مخرج صحيح، وهو أن ننتج وأن نقلل ‏من استيرادنا حتى نسد الفجوة بينهما، نحن نستورد أشياء عيب أن نستوردها بهذه الكميات، ‏ألعاب الأطفال وألعاب نارية وملابس جاهزة وأدوات مدرسية.. حاجات كثيرة يمكن أن ننتجها ‏فى بلادنا، والحكومة دورها أن تسهل عمليات الاستثمار، وتمنح المصنعين والمنتجين ‏والمصدرين «حوافز» جيدة، فى الضرائب والجمارك والإجراءات الإدارية وفوائد القروض ‏البنكية، لا بد من رفع نسبة «التصنيع» من إجمالى الناتج المحلى إلى %40 فى بضع ‏سنوات، نتحملها وفق برنامج معلن حتى تطمئن قلوب الناس، ويتحملوا التكاليف وهم واثقون ‏من النتيجة.‏