الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
نيلسون مانديلا ما زال حيًا جنوب إفريقيا تدافع عن «الإنسانية» وليس عن الفلسطينيين فقط!

نيلسون مانديلا ما زال حيًا جنوب إفريقيا تدافع عن «الإنسانية» وليس عن الفلسطينيين فقط!

بعيدا عن تساؤلات محرجة ومؤلمة تحلق على رؤوس 57 دولة فى منظمة التعاون الإسلامى، منها 22 دولة عربية، لا يستطيع المرء إلا أن يقف احترامًا وتبجيلاً ومحبة لدولة جنوب إفريقيا، الدولة التى ذهبت إلى محكمة العدل الدولية فى لاهاى، ليس دفاعًا عن الفلسطينيين ضد حرب إبادة تشنها إسرائيل ضدهم فحسب، وإنما دفاعًا عن كفاح رجل عظيم أنقذ شعبه من براثن الفصل العنصرى وانتشل وطنه من عاره، ودفاعًا عن «إنسانية» المجتمع الدولى كله، الذى يبدو أن ضميره وأخلاقه وقيمه سقطت فى غزة، بل يمكن القول إن إرثًا عظيمًا لمفكرين وفلاسفة غربيين عن العدالة والمثل العليا وقيم الحق والخير والجمال ، فقد «الوهج» الذى كان الغرب المتحضر يتباهى به، وكيف لهم أن يتباهوا وقد مسخه سياسيون أمريكيون وإنجليز وفرنسيون وألمان وطليان، بمواقف وقرارات تدعم وحشية إسرائيل فى «إبادة» أهل غزة، الأطفال قبل الكبار، النساء قبل الشباب، العجائز قبل المقاتلين!



وتمادت ألمانيا ذات التاريخ المشين مع الإنسانية، فى عملية المسخ والتشويه، وقفزت إلى هيئة الدفاع عن الإبادة أمام المحكمة، غافلة عن فارق هائل بين موقف سياسى تؤسسه المصالح والتوازنات والتحالفات، وكلها مساحات مفتوحة دون معيار يمكن القياس عليه، وموقف قانونى يستند إلى أدلة وبراهين وقرائن لها معيار منضبط بمواد القانون، وقرينة ألمانيا الدفاعية أن حرب إسرائيل بكل تفاصيلها وما جرى فيها من قصف وقتل وتدمير وتهجير قسرى هى رد فعل على ما حدث لها فى 7 أكتوبر وليس فعلاً أساسيًا منها.

 يا له من تفسير همجى!

لا يتجاوزه إلا تفسير دافيد كاميرون وزير خارجية بريطانيا المعلق فى رقبتها جذور المأساة كاملة، إذ قال فى لقاء تليفزيونى: إن ما فعلته جنوب إفريقيا خطأ، وما كان يجب أن يحدث أصلاً، أنا لست محاميًا، لكنهم يتحدثون عن إبادة جماعية، وعليهم أن يثبتوا ذلك، فإسرائيل تدافع عن نفسها ضد هجمات مروعة، وهى دولة ديمقراطية لها قوات مسلحة ملتزمة بقواعد القانون الدولى، وليس لديها النية فى ارتكاب جرائم إبادة، ومن الهراء القول إنها انتوت ارتكاب جرائم إبادة.

هنا لا يستطيع المرء إلا أن ينحنى تقديرًا وإعجابًا بالعقلية القانونية التى صاغت الدعوى التى رفعتها جنوب إفريقيا أمام المحكمة.. أيًا كانت نتيجة المحاكمة، فالمحكمة فى النهاية هى جزء من «الأمم المتحدة»، مؤسسة يمكن أن تسيّرها السياسة لا الحقوق، المصالح لا العدل، الضغوط من الدول التى ينتمى إليها القضاة لا الحقائق الدامغة فى الأوراق.

تتشكل الدعوى من ثمانية عناوين رئيسية، فى أربع وثمانين ورقة من القطع الكبير، يقترب عدد كلماتها من 45 ألف كلمة، مفصلة فى 151 بندا.

فى سطور الدعوى الأولى تثبت جنوب إفريقيا أنها تدافع عن الإنسان أيًا كانت جنسيته أو ديانته، ولهذا قالت بوضوح إن جنوب إفريقيا بشكل لا لبس فيه تدين جميع انتهاكات القانون الدولى، التى ترتكبها جميع الأطراف، بما فى ذلك الاستهداف المباشر لإسرائيل، مدنيين ومواطنين واحتجاز رهائن من قبل حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة!

عبارة عرّت حجم الغباء السياسى الذى يتمتع به بنيامين نيتانياهو، غباء يغذيه العنصرية والتطرف والكراهية للعدالة، ودفعه إلى تهام جنوب إفريقيا بأنها الذراع القانونية لحماس!، كأنه يصفها بالإرهاب، لكن دون أن يقصد منح حماس حقًا قانونيًا يمكن أن تقف به أمام أى محكمة دولية تدافع عما فعلته فى إسرائيل فى 7 أكتوبر، بينما هو طول الوقت يحاول أن يحرمها حتى من حق الوجود، وليس الدفاع عن وطنها المغتصب، وأهله المحاصرين فى غزة والضفة.

ثم فسرت جنوب إفريقيا أسباب دعواها فى عبارة قانونية دقيقة: لا يمكن أن يكون هجومًا مسلحًا على أرض دولة، مهما كانت خطورته، حتى لو انطوى على جرائم فظيعة، مبررًا محتملاً لانتهاكات اتفاقية عام 1948 بشأن حقوق الطفل، واتفاقية منع العقاب بجريمة الإبادة الجماعية، سواء من الناحية القانونية أو الأخلاقية.

وربطت جنوب إفريقيا ما يرتكب فى غزة من جرائم، مع ما يحدث فى الضفة الغربية، كوحدة واحدة لتبين ما تسعى إليه إسرائيل بما ترتكبه من فصل عنصرى وطرد وتطهير عرقى وضم أراضٍ واحتلال وتمييز، وإنكار مستمر لحق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره.

واستعانت الدعوى بوصف 28 دولة فى الأمم المتحدة أفعال إسرائيل فى غزة بأنها «إبادة جماعية»، منها سبع دول عربية: الجزائر ومصر والأردن والعراق وليبيا وسوريا وتونس، وست دول من أمريكا الجنوبية: البرازيل وبوليفيا وكولومبيا وكوبا وفنزويلا وهندوراس، والبقية من آسيا وإفريقيا، ولا دولة أوروبية واحدة.

ثم أوردت جنوب إفريقيا بياناتها إلى المجتمع الدولى، سواء التى دعت فيها إلى إيقاف إسرائيل عن انتهاك القانون الدولى، أو التى حذر فيها وزير العلاقات الدولية من جريمة إبادة جماعية على وشك الحدوث، وقد أبلغت ذلك إلى سفير إسرائيل فى جنوب إفريقيا، ولم ترد إسرائيل عليها، رافضة أى إشارة إلى أنها انتهكت القانون الدولى فى حملة جيشها على غزة.

ولخصت جنوب إفريقيا الموقف: إن الهجمات العسكرية على غزة تتفق والتعريف القانونى للإبادة الجماعية، لأن قتل الأبرياء وتدمير سبل العيش ليس سوى عمل ممنهج لتفريغ غزة من شعبها.

ثم راحت تستعرض تفاصيل وأد سبل الحياة بدقة، بشرًا ومبانى، البشر كأساتذة الجامعات والعلماء، والأطباء والصحفيين وأطقم الرعاية الصحية، وموظفى المنظمات الدولية، سواء الذين صفّتهم جسديا بالقصف المباشر أو اعتقلتهم إلى أماكن غير معلومة، والمبانى كالبيوت والمدارس والمستشفيات والجامعات والمحاكم والمساجد والكنائس ومراكز الإغاثة والمكتبات العامة والمتاحف والمؤسسات الحكومية!

وفى ثمانى صفحات كاملة أفردت جنوب إفريقيا «الأدلة الدامغة على نية الإبادة الجماعية»، تصريحات من أكبر رأس فى الدولة إلى أصغر متحدث رسمى، مع التصريحات الشعبية، أدلة بمثابة اعترافات واضحة، لكن ألمانيا وبريطانيا وقبلهما الولايات المتحدة ينكرونها بوقاحة عجيبة!، ومنها:

- فى 13 أكتوبر، قال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى خطاب تليفزيونى: نحن نضرب أعداءنا بقوة غير مسبوقة، وفى 23 أكتوبر، اقتبس قصة العماليق من الكتاب المقدس وتحدث بها إلى قواته وهى تستعد لغزو غزة، «تذكروا ما صنع بكم العماليق وما عليكم أن تفعلوه»، أى طلب منهم حسب النص: اذهب الآن، وهاجم العماليق، واحرمهم من كل ما لهم، لا تبقى على أحد، اقتلوا الرجال والنساء والرضع والرضيع والغنم والإبل والحمير»!، وكررها فى 3 نوفمبر.

- فى 12 أكتوبر قال الرئيس الإسرائيلى إسحاق هرتزوج فى مؤتمر صحفى مع وسائل الإعلام الأجنبية: إن إسرائيل لن تميز بين المسلحين والمدنيين فى غزة، هناك أمة بكاملها مسئولة، ليس صحيحًا أن المواطنين الذين ليسوا على دراية غير متورطين، سنقاتل حتى نكسر عمودهم الفقرى.

-أفاد وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت: إسرائيل تفرض حصارًا كاملاً على غزة، لا كهرباء، لا ماء، لا طعام، لا وقود، نحن نقاتل حيوانات بشرية، ونتصرف وفق ذلك.

-أوضح إيتمار بن جافير وزير الأمن الوطنى موقف الحكومة فى خطاب تليفزيونى: لكى نكون واضحين، عندما نقول إن حماس يجب أن تدمر، فهذا معناه أيضا هؤلاء الذين يحتفلون، ويدعمون، ويوزعون الحلوى، كلهم إرهابيون ويجب تدميرهم.

- فى 31 أكتوبر كتب إسرائيل كاتز وزير الطاقة والبنية التحتية تويتة: كل السكان المدنيين فى غزة عليهم أن يغادروا فورا حسب الأوامر، سنفوز، ولن ينالوا نقطة ماء أو حجر بطارية واحد حتى يتركوا الدنيا.

1 - نوفمبر كتب وزير التراث أميشاى إلياهو على الفيسبوك: شمال قطاع غزة أكثر جمالاً من ذى قبل، كل شىء جرى تفجيره وسوى بالأرض، إنه متعة للعين، نحن نضع تصميمًا جديدًا لنكبة غزة.

وتتوالى مئات التصريحات الدامغة على نية إسرائيل الرسمية والشعبية على الإبادة الجماعية، ولا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، خاصة بعد أن وصلت عنصريتها ووحشيتها إلى حد الرغبة فى إلقاء قنبلة ذرية على القطاع!

باختصار، تثبت الدعوى أن ما ترتكبه إسرائيل هو جريمة ضد الإنسانية مع سبق الإصرار والترصد، وليس دفاعًا عن النفس.

وسواء صدر قرار من المحكمة بوقف إطلاق النار فورًا، وهو سيكون بمثابة إدانة مبطنة لإسرائيل دون إعلان، أو أدانتها المحكمة بقرار مباشر، أو نجحت ضغوط الدول الغربية فى عرقلة عمل المحكمة، فالدعوى فى حد ذاتها عمل عظيم، وثيقة سوداء غليظة معلقة فى رقاب إسرائيل والذين يدعمونها!