الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
غزة والغرب.. وحشية وانفصام فى الشخصيـــــــة

غزة والغرب.. وحشية وانفصام فى الشخصيـــــــة

اليوم سوف نتحدث عن الحرية، المفهوم الجميل، الذى يتيح لك أن تقول ما تشاء فى أى مكان عام، دون أن تشعر بالتوتر، لكن خذ حذرك، فقد تجد نفسك «ملغيًا» أو محظورًا، أو فاقدًا للمصداقية، لا نؤمن بالعنف الجسدى، فالرعب النفسى والمعنوى أكثر حسمًا، أنت حر، حتى إسرائيل فيما ترتكبه من أعمال، فهى مبررة، دفاع عن النفس، لكن إذا كنت تعتقد شيئًا مختلفًا، قد تفقد وظيفتك أو يقبض عليك أو تمنع من السفر على الخطوط الجوية الأمريكية.



 

 وتجد نفسك متعصبًا معاديًا للسامية، أنت حر فى اختيارك، الأطفال يقتلون فى غزة، فلا تصدق المصادر القادمة من هناك، عليك أن تصدقنا نحن، أخبارنا حقيقية، حتى لو فنَّدها موقع كشف الأخبار الكاذبة، لا تسأل أى أسئلة، سوف نعطيك «بن شابيرو»، وهو سيقنعك بأن رأس 40 طفلًا قُطعت، وإذا كنت لا تريد حريتنا، سوف نرسل إليك طائرات «إف 16» لتنشر هذه الحرية.

هذا ملخص ما نشرته الفنانة الرومانية الساخرة «نيكول جينيس» على اليوتيوب فى فيديو مدته سبع دقائق.

 إذن لا معنى أن يتعجب البعض ويندهش ويرتبك ويصف السياسة الأمريكية والأوروبية بأنها غير عادلة وغير إنسانية بالمرة، عادى جدًا أن تدعم جيش الإبادة الإسرائيلى وهو يستمتع بأعمال القتل والتدمير والتجويع والعطش فى غزة، ولا داعٍ أن يضرب مثقفونا من عشاق الديمقراطية على النمط الغربى كفًا بكف، وهم لا يفهمون: كيف يقضى الساسة الغربيون المتحضرون من مسئولين وبرلمانيين وأعضاء فى أحزاب ومؤسسات اجتماعية ونشطاء فى منظمات حقوق الإنسان لياليهم الشتوية الطويلة، عقب مشاهدتهم الخراب الذى ضرب فى كل ناحية، وجثث الأطفال الممزقة والنساء المدفونة تحت ركام البيوت أو العجائز وهم ينامون جوعى فى العراء تحت المطر والبرد، أو المرضى والمصابون وهم ممدون فى خيام بلا قرص دواء أو لملمة نزيف، أين ذهبت ضمائرهم وأخلاقهم وأحاديثهم عن حقوق الإنسان وعدد الضحايا يقترب من مئة ألف شهيد ومصاب فى أقل من ثلاثة أشهر؟ هل من حقوق الإنسان أن يُشرد الفلسطينيون ويجوعون ويشوهون ويحاصرون وتفترس إسرائيل آدميتهم على مرأى ومسمع من هؤلاء القاعدين فى مراكز صناعة القرار فى المؤسسات الدولية دون أن يصدوا عنهم هذا العدوان الوحشى؟

عمومًا هذه تساؤلات ساذجة لا تبصر ما تحت جلد الحضارة الغربية الحديثة من وحشية مختزنة كما أبصرتها «نيكول جينيس»، وحشية تعيث فى الدنيا حروبًا متتالية، عالمية وإقليمية، أو تحريضًا على حروب أهلية، حتى بدا كوكب الأرض كما لو كان منقلبًا جحيمًا على نفسه، أكثر من 150 حربًا كبيرة وصغيرة منذ بداية القرن العشرين فقط، فى قارات العالم القديم: أورويا وآسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، أُزهقت فيها مئات الملايين من الأرواح البريئة وغير البريئة، ربما يكون هذا العدد أكبر مما قتل فى جميع الحروب التى أشعلها البشر منذ بدء التاريخ حتى عام 1900.

وإذا كانت المئة سنة الأخيرة من تاريخ البشرية هى الأكثر تقدمًا فى العلوم والفنون والمعارف عمومًا، فهى الأكثر دموية ودمارًا، كما لو أن وجهها الحضارى من رأس حكيم وأنياب مفترسة، مزيج متكافئ من الأوتار والمخالب، النبيذ والدم، السمو والانحطاط، الملائكة والشياطين.

لم يتصور مفكرو النهضة الحديثة هذا الجانب القبيح للحضارة الحديثة وهم يعملون على نثرها ورعايتها ومدها بالجديد من الأفكار، حتى إن فلاسفة القرن التاسع عشر انغمسوا فى أحلام رومانسية للغاية، ورسموا عالمًا جديدًا ورديًا يعمه السلام وتنيره المعرفة وتحكمه القيم العليا، وكتب الروائى الإنجليزى الشهير «هربرت جورج ويلز» تفسيرًا لهذه الرؤية، بأن التاريخ الإنسانى فى مجمله كان سباقًا محمومًا بين التعليم والنكبات، وأن المعرفة قادرة على تغيير هذا التاريخ المؤلم ودفعه نحو السلام، فالمعرفة هى الحكمة والرؤية والبصيرة والعدل، لكن جنون الساسة ونهمهم اللا محدود إلى الثروة والسلطة لم يأت أبدا على قدر أحلام المفكرين والفلاسفة والأدباء، فلم تصد آفاق المعرفة جحافل الوحشية الكامنة عند هؤلاء الساسة والدائرين فى أفلاكهم، على العكس تمامًا، كلما توسعت المعرفة ازدادت الوحشية وجرت الدماء المسالة أنهارًا، بدليل أن الألمان الذين كانوا أفضل شعوب الأرض تعليمًا هم من أوقدوا بركان الحرب العالمية الثانية، واليابانيون الذين بدوا أكثر شعوبًا الأرض أدبًا أنزلوا الفظائع بجيرانهم فى الصين وكوريا، والأمريكيون الأغنى فى ثروات الطبيعة ألقوا قنبلتين ذريتين على اليابان.

وعمومًا إذا قلبنا فى تربة الحضارة الغربية الديمقراطية الحديثة لن تفاجئنا أعداد الجماجم المدفونة فى جذورها منذ عصر الاكتشافات الجغرافية وإلى الآن، من هنا يمكن أن نفهم سر غياب الضمير لدى الرئيس الأمريكى وهو يمد إسرائيل بالأسلحة لارتكاب جرائم حرب فى غزة باسم الدفاع عن النفس، وكذلك تأييد ساسة بريطانيا، وكندا وإيطاليا وفرنسا لها، حتى لو تخففت بعض عباراتهم ، دون أن تصل إلى إيقاف «جيش الإبادة الإسرائيلى» عن أعماله الوحشية.

لكن ما زال الفنانون والكتاب يحلمون بهذا العالم الأقل وحشية، فكتب مئات الفنانين - ومنهم يهود - رسالة إلى الرئيس الأمريكى جو بايدن يطالبونه - بصفته الراعى الرسمى لحرب الإبادة فى غزة- بوقف إطلاق النار، قالوا فيها: نجتمع نحن كفنانين ومدافعين، والأهم كبشر يشاهدون الأهوال والخسائر الهائلة فى الأرواح فى إسرائيل وفلسطين، ونطلب منكم بصفتكم رئيس الولايات المتحدة ومن الكونجرس الأمريكى الدعوة إلى وقف إطلاق النار فورًا فى غزة وإسرائيل، قبل أن يفقد المزيد من البشر حياتهم. لقد قتل أكثر من خمسة آلاف شخص فى العشرة أيام الماضية، وهو رقم كارثى يهز أى إنسان لديه ضمير، ونعتقد أن الحياة كلها مقدسة، بغض النظر عن العقيدة والعرق، وندين قتل المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين، ونحث إدارتكم والكونجرس وكل قادة العالم على تكريم جميع الأرواح فى الأراضى المقدسة والدعوة إلى وقف إطلاق النار، ووضع حد لقصف غزة والإفراج الآمن عن الرهائن.

نعتقد أن الولايات المتحدة يمكن أن تلعب دورًا حيويًا فى إنهاء المعاناة، أن إنقاذ الأرواح واجب أخلاقي، إذ ألقيت 6000 قنبلة على غزة فى الـ12 يومًا الأخيرة، مما أدى إلى مقتل طفل كل 15 دقيقة.

لقد وصلت الحالة الإنسانية إلى أدنى مستوياتها المميتة، ومع ذلك تشير التقارير إلى مزيد من الهجمات.

إننا مدفوعون بإرادة لا تنحنى للدفاع عن إنسانيتنا المشتركة، ونرفض إخبار الأجيال القادمة بقصة صمتنا، وأننا وقفنا مكتوفى الأيدى ولم نفعل شيئًا.

لكن يبدو أن الرئيس الأمريكى لم يقرأ هذه الرسالة جيدًا، أو بمعنى أدق قرأها ولم ينبض ضميره السياسى بما فيها من وجع إنسانى، فأصرت الإدارة الأمريكية على موقفها الرافض لوقف إطلاق النار، ويبدو أن استمتاعها بالقتل والخراب لا يقل عن استمتاع جيش الإبادة الإسرائيلى.

فى الوقت نفسه تحركت إنسانية «تال ميتنيك»، مع أن عمره 18 عامًا فقط، وخبراته فى الحياة لم تتجاوز بضع تجارب محدودة، والأخطر أنه «إسرائيلى»، لكن «صهيونيته أقل من صهيونية الرئيس الأمريكى.. وفضل تال أن يدخل السجن ولا يذهب إلى التجنيد فى جيش الإبادة، وحسب تصريحاته هو ضد منطق الذين يعتقدون أن مزيدًا من العنف سيجلب الأمن، وكتب بيانًا قال فيه: أرفض المشاركة فى حرب انتقامية.

وخطورة موقف تال أن «التجنيد» فى الجيش الإسرائيلى هو رمز الهوية الوطنية الجماعية، وحجر الزاوية فى مجتمعه، ورفضه بمثابة رصاصة فى مفهوم تعمل به إسرائيل منذ 1948 «أن الأمة التى تبنى جيشًا هى أمة تبنى نفسها»!

وتال ليس هو أول من رفض التجنيد خلال حرب عشوائية، هو فرد من تيار نادر، مثل عضو الكنيست «عوفر كاسيف» الذى رفض الخدمة فى الضفة الغربية، ومثل طيارين رفضوا مهام قتالية اعتبروها غير قانونية، ومثل 3 آلاف جندى تظاهروا فى سنة 1983 ضد الحرب الأولى فى لبنان، سجن منهم 160 جنديًا.

الملاحظ أن كل هؤلاء من الطبقات العليا فى إسرائيل، وفى الغالب يصفهم الجيش بأنهم غير مؤهلين عقليًا للخدمة.

أى أن الشاب تال الإسرائيلى لا يتفق مع الرئيس الأمريكى فى توصيف الحرب فى غزة بأنها دفاع عن النفس، وإنما انتقام وفى الحقيقة هى أيضًا ليست انتقامًا، كيف ينتقم الجناة المغتصبون من الضحايا الذين سلب وطنهم؟

فعلًا حضارة الغرب فيها كثير من الوحشية وقليل من الإنسانية، وتبدو مصابة بانفصام فى الشخصية بين السياسيين والرأى العام!