الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
عـام المعجزة المصرية والقضيـة الفلسطينيـة

عـام المعجزة المصرية والقضيـة الفلسطينيـة

بالقطع هو عام ثالث من عشرية صعبة جدًا، قد يصنفها التاريخ فى «صفحات المآسى»، وما أكثر المآسى الإنسانية فى التاريخ، فالبشر- بالرغم مما يتمتعون به من إمكانات عقلية وقدرات فكرية هائلة وما يدعونه من قيم وأخلاق ومثل عليا ينزلون ببنى جلدتهم أفظع الآلام والأحزان والجرائم، كما لو أنهم يستمتعون بتعذيب بعضهم بعضًا، وقهر بعضهم بعضًا، إنهم لا يكتفون بما تفعله بهم الطبيعة الغاضبة من فيضانات وأعاصير وبراكين وزلازل وحرائق غابات، فيمضى الأقوياء منهم فى أعمال «القسوة والقهر» إلى نهايتها، صراعات وحروب إقليمية وعالمية وأهلية وقتل وبتر أعضاء وتجويع.. إلخ.



 

وقد جربت وسألت «السيد جوجل» عن أهم عشرة أحداث عالمية فى رأيه، فإذا باللطمات تنهال من كل جانب، حتى أحسست أن الكومبيوتر قد يذرف الدمع على أحوال البشر، فالحدث الأول فى رأيه هو «ركود ديمقراطى وتراجع فى الحريات عالميًا»، حتى إن حكومة الهند، الدولة التى يصنفها العالم بأكبر ديمقراطية عددًا فى السكان، استخدمت القانون والترهيب لإسكات المنتقدين وتقييد حرية التعبير نسبيًا، علاوة على صعود أحزاب اليمين المتطرف فى أوروبا، حتى الولايات المتحدة التى تتقنع بوشاح أهم ديمقراطية فى العصر الحديث تشارك فى جرائم ضد الإنسانية فى غزة، وتحاصر مواطنيها الذين يرفضون ذلك بالمحاكمات والفصل من الوظائف والتشهير والمطاردات فى الإعلام وفى بيوتهم، بل إن الرئيس السابق دونالد ترامب قبل أن يصدر حكم ضده بمنعه من الترشح فى الانتخابات المقبلة قال علنا: إنه فى حال وصوله إلى البيت الأبيض سيكون ديكتاتورًا ليوم واحد هو اليوم الأول، بأنه سيستغل منصبه فى استهداف أعدائه السياسيين، وطبعًا هو واهم فلا يوجد ديكتاتور ليوم لواحد، الطغيان حالة تلبس لا يمكن الفرار منها فى اليوم التالى.

لكن أغرب ما يصنعه الإنسان بنفسه هو الذكاء الاصطناعى، بالطبع هو فَتَح أفاقًا هائلة فى التقدم لم تعرفها البشرية، لكنه يمثل تهديدًا مرعبًا لها، فالآلة سوف تحل محل الإنسان فى أعمال كثيرة، الزراعة والصناعة والخدمات بما فيها العلاقات، فماذا يفعل الإنسان؟، يتوقع بعض علماء الاجتماع أن المجتمعات المتقدمة قد تصل إلى النقطة الحرجة وهى «مجتمع بلا عمل»، نعم مجتمع دون وظائف للبشر، وسوف يولد ملايين البشر، يتعلمون ويعيشون ويموتون دون أن يعملوا، وهو ما سوف يعرض هذه المجتمعات لأنواع من التعقيدات النفسية والاجتماعية غير المسبوقة، ولم يتنبأ أحد بتداعياتها بعد..

وقطعًا تحدث أشياء إيجابية كثيرة، تجعل الصراع بين الطيب والسيئ مستساغًا أو مقبولًا دون أن يفقد الإنسان الأمل فى مواجهة الشر والقبح والظلم، وربما هذا الصراع هو الذى يمنح الحياة طعمها ويجبر الإنسان على التفكير والعمل على تجاوزها، فيحدث التقدم والتطور.

وإذا أدرنا ظهورنا إلى السيد جوجل، فهو فى النهاية بلا مشاعر ولا عواطف ولا أفكار خاصة، وسألنا: ما الأهم فى هذا العام؟ أتصور أن ثمة حادثين فى غاية الأهمية، يتفوقان على أى أحدث أخرى، واحد مصرى وواحد إقليمى.

المصرى هو إعلان مصر خالية من فيروس سى.

الإقليمى هو تحول فلسطين إلى قضية عالمية وليست إقليمية، بعد فضح الوجه القبيح الدموى العنصرى للدولة الصهيونية.

لم يكن إعلان مصر خالية من فيروس سى لأول مرة فى التاريخ إعلانا حكوميًا رسميًا، وإنما من منظمة الصحة العالمية، وهو ما يمنح المعجزة المصرية رونقها وقيمتها.

ومحاولات التخلص من فيروس سى الشرس قديمة، لكنها كانت بطيئة وأحيانًا متعثرة، إلى أن أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى حملة 100 مليون صحة، كان وقتها عدد المصريين المصابين بالفيروس تجاوز 15 مليون مصاب، هم الأكثر عددًا بين كل بلدان العالم، ويساوون ثلث عدد المصابين فى 22 دولة بإقليم شرق المتوسط حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، يرتفع عددهم بمئة ألف مصاب سنويًا، كان المرض أشبه بـ«وباء» ضرب %15 من أهل مصر، لسوء الثقافة الصحية وانخفاض الوعى بالدرجة الأولى، خاصة أن فيروس الكبد شرس وله قدرات عالية فى الخداع، أخطرها هو غياب الأعراض المباشرة، فلا أصفرار فى العين، ولا تغير فى لون البول، ولا فقدان للشهية، ولا آلام فى البطن ولا قىء مستمر، يتسلل الفيروس فى هدوء عن طريق الدم، ويشتغل فى هدم الكبد على مهل، فلا ينتبه المريض ولا يفتش عن العلاج إلا فى حالات متأخرة، وبعد ظهور مضاعفات خطيرة كالتليف الكبدى ونزيف الدوالى المفاجئ، كحالة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، والفيروسات عمومًا مثل الأشباح عدواها غير مرئية وبلا عوارض سريعة.

باختصار كان قرابة من 15 مليون مصرى واقعين بين براثن فيروس ينهش ويفتك، أشبه بمصاص دماء، يستنزف ضحاياه من أكبادهم قطرة قطرة، وتكاليف علاجه باهظة للغاية، وكانت تقدر عالميًا وقتها بـ64 ألف دولار للمريض الواحد، وتمكنت مبادرات الصحة الرئاسية من انتنشال 98,6 % من المرضى المصريين، وتحررهم من سجن شديد القسوة كان يمكن أن يقضوا فيه كل أيامهم الباقية، هم وعائلاتهم.

كانت منظمة الصحة العالمية تتابع تجربة مصر، ومن فرط نجاحها تعهدت المنظمة بإعلان مصر خالية من الفيروس خلال عام 2024 أو 2025، لكن وتيرة العمل السريع ونتائجها عجلت بالأمر.

وهذه معجزة مصرية بكل المقاييس.

قبل 7 أكتوبر 2023 بدت القضية الفلسطينية كما لو أنها فى الطريق إلى مثواها الأخير، سكنت حركتها، خُفت صوتها، تباعد نبضها وشحب وجهها، صارت مريضًا فى غيبوبة يعيش على أجهزة التنفس الصناعى دون أى أمل، ومد أقاربه من الدرجتين الثالثة والرابعة أياديهم إلى العدو الذى سلب منه رحيق الحياة بالود والأعناق والورود والأهازيج، بل إن بعضهم راح يأخذ البركة من حاخاماته، ويدخل معه فى مشروعات وأعمال واسعة تزيد من قدراته الاقتصادية، إلى الدرجة التى باتت فيها إسرائيل تحلم بالدولة الكبرى، ويتفاخر بها رئيس وزرائها المتطرف بنيامين نيتانياهو وهو يرفع خريطتها فى الأمم المتحدة فى مقارنة متباهية بين حدودها عند اغتصاب فلسطين سنة 1948 وحدودها سنة 2023.

كل هذا انقلب رأسًا على عقب، عادت فلسطين إلى الحياة من مقبرة التجاهل والإهمال والصمت.. ليس هذا فحسب وإنما تحولت من قضية تخص أهلها ودول الطوق حولها إلى مسألة عالمية، وباتت الأجيال الجديدة من سكان الكرة الأرضية يتحدثون عنها كما لو كانت اكتشافًا كبيرًا لجريمة كبرى ارتكبت فى حقها، ويجب أن يعاقب مرتكبوها ويعود لها حقوقها.

وكلما علت أصوات الرأى العام العالمى يجن جنون إسرائيل أكثر وحكّامها المتطرفين إلى الدرجة التى كشفت «عدم إنسايتهم» وانعدام إحساسهم، فارتكبوا جرائم حرب مرعبة، وراح العالم يتداول لأول مرة فيديوهات، يحطم فيها جنود الاحتلال لعب الأطفال فى محال دخلوها فى غزة، أو يركبون درجات صبية بين البيوت المدمرة مبتهجين بجرائمهم، أو يغنى فيها أطفال إسرائيليون أناشيد تدعو إلى قتل الفلسطينيين عن بكرة أبيهم والعرب أيضًا، أو يحقد فيها وزير الدفاع الصهيونى على الفلسطينيين ويصفهم بأنهم حيوانت بشرية، بينما دلائل الغباء الإنسانى تكاد تقفز من عيونهم، أو يتحدث فيها حاخامات ومتطرفون عن «عنصريتهم وسموهم» عن بقية البشر وحقهم الإلهى فى قتل وطرد شعب من أرضه..إلخ.

لم يتوقف الجنون عند إسرائيل، وشاركت فيه الإدارة الأمريكية ومؤسساتها، فنهالوا بالأسحلة الفتاكة على جيش جرائم الحرب، وحاكموا سياسيًا رؤساء ثلاث جامعات بتهمة السماح لطلبة هارفارد وأم أى تى وبنسلفانيا برفع علم فلسطين بشعار فلسطين حرة من النهر إلى البحر، وصنفوا مظاهرات الطلاب بأنها معادة للسامية وتدعو إلى إبادة اليهود، وجمد اللوبى الصهيونى من رجل الأعمال والمؤسسات الكبرى منحه وتبرعاته لهذه الجامعات..ولم تتوقف المظاهرات.

نعم العالم تغير لأول مرة، وأقصد بالعالم الرأى العام، قد لا يظهر دوره فورًا فى القرارات والمواقف الرسمية للحكومات، لكن تأثيره سيرتفع تدريجيًا مع استكمال موقفه فى صندوق الانتخابات فى بلاده.

نعم مزقت القضية الفلسطينية أجهزة التنفس الصناعى وهبت من مرقدها ليصورها العالم أجمع على موبيلات وكومبيوترات وينشرها، فلم يعد ممكنا التخلص منها فى السر.

يبقى أن تعيد السلطة الفلسطينية حساباتها مع نفسها، وأن تعيد فصائل المقاومة حساباتها مع شعبها فى الضفة الغربية، فليس مقبولا هذا الانقسام بأى شكل من الأشكال، فى وقت يرفرف فيه علم فلسطين متحدًا فى كل عواصم العالم تقريبًا!