الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حرب غزة قلبت الحسابات حقائق وأوهام فى صناعة الشرق الأوسط الجديد!

حرب غزة قلبت الحسابات حقائق وأوهام فى صناعة الشرق الأوسط الجديد!

 لم يتوقف الغرب أبدًا عن الكلام والتخطيط والتنفيذ والتقسيم وإعادة التشكيل فى منطقة الشرق الأوسط لأكثر من مئة وأربعين سنة، منذ اخترع الإنجليز العبارة بعد احتلالهم مصر فى 1882، ثم راج معناها السياسى دوليًا مع اتفاقية «سايكس - بيكو»، أو بمعنى أدق مع المؤامرة البريطانية - الفرنسية فى عام 1916، التى ألصقته عنوة وصفًا لمجموع الولايات الواقعة تحت النفوذ العثمانى من غرب آسيا إلى مصر، واتفقتا فيها على احتلال هذه الولايات وتقسيمها بينهما.



 

فعلًا يتصرف  الغرب تفكيرًا وتخطيطًا، كأن هذه المنطقة بلا أصحاب، أو أن أهلها نفضوا أيديهم منها وتركوا أمرها إلى القوى الاستعمارية فى العالم تفعل فيها ما تشاء وقتما تشاء، بريطانيا وفرنسا حتى عام 1956، ثم الولايات المتحدة من بعدهما وحتى الآن، يغزون بعضها، يغيِّرون أنظمة، يؤسسون جماعات سياسية متطرفة ومعتدلة، يدبرون مؤامرات وثورات، يفتتون دولاً، حتى إن بعضًا من دوله انقسمت على نفسها وتعددت أنظمتها، كاليمن والعراق وسوريا والسودان ولبنان، بالإضافة إلى ليبيا التى لم تكن ضمن الخريطة فى عام 1916.

وعندما شمت إسرائيل أنفاسها، ورأت أن فرصتها قد حانت لـ«ينوبها من الحب جانب سمين»، أعادت استخدام التعبير بطريقتها، وكتب السياسى الإسرائيلى البارز شيمون بيريز، كتابه السام «الشرق الأوسط الجديد»، يحلم فيه بأن يحقق بالسلام ما لم تحققه إسرائيل بالحروب، وهو قيادة الشرق الأوسط، من خلال تطبيع علاقات قوية ووثيقة بالدول العربية، مقابل فتات من سلام هش لإسكات أصوات الفلسطينيين، فلا يعترضون على تسلل إسرائيل إلى فراش العرب وبناء صداقات ومصالح ممتدة، تتيح للكيان الصهيونى تنفيذ الحلم على أرض الواقع.

صدر الكتاب  فى عام 1994، وكاد الحلم يقترب من الاكتمال فى عام 2023، ودون فتات من دولة للفلسطينيين، فالعرب جميعًا يتصورون أن «الأمن القومى» مسألة شخصية، وليس فعلًا إقليميًا مشتركًا قائمًا على تعاون فعال وصحى، فنشب صراع نصف مكتوم ونصف معلن على المكانة والدور والمركز، ورأى بعضهم أن تعديل المراكز المكتسبة بالتاريخ والجغرافيا والقدرات الكامنة يمكن أن تتعدل بمعاونة الولايات المتحدة وإسرائيل الراغبين فى هذا التعديل، وأن اللعب حسب أفكارهما هو أكبر ضمانة لدور أعظم إقليميًا ودوليًا، والمدهش أنها نفس الأفكار التى تحكمت وعششت فى هذه المنطقة من العالم فى زمن الحروب الصليبية، فتمكن الصليبيون من «السطو» على العديد من الثغور والممالك حتى التى تحالفت معهم، وسيطروا على بعضها لأكثر من 300 سنة.

لكن يبدو أن الخصومة بين العرب والتاريخ تفسد عليهم التعلُّم من الصفحات القديمة.

نعود إلى الحلم الإسرائيلى، الذى عبر عنه بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء قبل ثلاثة أشهر تقريبًا: إن الشرق الأوسط الجديد يعاد بناؤه الآن، متباهيًا بإعلان مشروع  الممر التجارى من الهند بحريًا وبريًا إلى حيفا.

لكن هجمات 7 أكتوبر على إسرائيل، ثم الحرب الإجرامية الانتقامية من الفلسطينيين فى غزة دخلت على الخط، ومسحت خطوطًا وخططًا وأفكارًا  يكاد يبتلعها أهل المنطقة بالإكراه!

ولو طرحنا سؤالًا بسيطًا للغاية: لماذا منحت الولايات المتحدة «تأييدًا أعمى» لإسرائيل أن تفعل ما تريد فى غزة وتثأر لنفسها بالطريقة التى تفضلها بما فيها تهجير أهلها إلى سيناء قسرًا، ثم جاءت بالأسطول السادس عتادًا كاملًا وقيادة مركزية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وعرقلت أى قرار فى مجلس الأمن لوقف إطلاق النار؟

لا تربطوا بين الهدنة المؤقتة التى عملت أمريكا عليها ودخول المساعدات الإنسانية إلى أهل غزة المكدسين فى أضيق مساحة على وجه الأرض فى جنوب القطاع بلا طعام ولا دواء ولا ماء ولا كهرباء، ولا بخروج  خمسين رهينة محتجزين منذ 47 يومًا مع حماس فى الملاجئ، فهذا أمر ثانوى يبرر شكل الصورة!

قطعًا .. ثمة حاجة  ضرورية  للقوات الإسرائيلية البرية أن تلتقط أنفاسها، وتعيد تقييم أوضاعها ومعاركها على الأرض، قبل أن تبدأ المرحلة التالية من جرائم الحرب ضد الفلسطينيين.

نعود إلى السؤال، والإجابة أيضًا فى بساطة السؤال، لأن الولايات المتحدة هى أكبر خاسر من هجمات 7 أكتوبر، فهذه الهجمات نسفت كل تدابيرها للمنطقة، وقلقلت علاقاتها بدول المنطقة بشكل ما، لا أقول أضرتها أو أفسدتها، وإنما أحدثت فيها متغيرات، تستلزم علاجًا ومراجعات، ربما تنجح فيها، ربما لا، أو ربما تواصل طريق العناد إلى نهايته، وإن كان الملعب الدولى بوجود الصين وروسيا وإيران لا يحتمل عنادًا، قد ترتفع خسائره إلى المستويات الاستراتيجية، فأمريكا مغروزة فى معارك متعددة ومعقدة اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا فى آسيا وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط.

والأهم لأمريكا فى الشرق الأوسط علاقتها المتوترة بإيران، عفريت العلبة الذى يهدد أهل المنطقة، وتقف لها الولايات المتحدة بالمرصاد منذ إعلان دولة الملالى فى عام 1979 وتبنيها  أفكار تصدير الثورة والقلاقل إلى دول الجوار الخليجية، حماية لهذه الدول الحلفاء لها.

وحتى الساعة السادسة من صباح السابع من أكتوبر، كانت الولايات المتحدة على يقين تام بأن رؤيتها للشرق الأوسط الجديد قد باتت قريبة من التحقق، والمسألة بضعة أشهر قد تزيد إلى سنيتن على الأكثر..

1 - علاقتها بإيران تمضى فى طريق التهدئة مؤقتًا، بعدما أبطأت طهران من تطور برنامجها النووي، وفى المقابل خففت واشنطن من عقوبتها المالية نسبيًا.

2 - تهدئة العلاقات الأمريكية - الإيرانية، ساهم بشكل غير مباشر فى تحسين العلاقات السعودية - الإيرانية، التى أدت إلى وقف الهجمات الصاروخية للحوثيين فى اليمن على مواقع سعودية، وربما يمكن الاستفادة من هذا التحسن تكتيكيًا بأن تلعب الرياض دورًا فى اتفاق نووى بين واشنطن وإيران مستقبلًا. 

3 - جرت مفاوضات جادة بين الولايات المتحدة والسعودية على توقيع اتفاقية دفاع مشترك مقابل أن تطبع المملكة علاقاتها بإسرائيل مثلها مثل دول عربية لا تهتم بما تفعله حكومة الليكود الإسرائيلية المتطرفة من توسيع مستوطناتها فى الضفة الغربية، ولا بهجماتها العقابية المتكررة على قطاع غزة، على أن يأخذ هذا التطبيع شكلًا عمليًا واسعًا، بالمشاركة فى مشروع الممر التجارى الهند- حيفا، ضربًا لنفوذ الصين المتصاعد فى بعض بلدان المنطقة، وهو ما يعنى خمود الصراع العربى - الإسرائيلى إلى حد التلاشى، وإن ظل البركان الفلسطينى - الإسرائيلى نشيطًا.

4 - العمل مستقبلًا على إعادة إيران إلى وضع الدفاع عن النفس، بتأسيس تحالف عربى - إسرائيلى، يقلل من تأثير إيران على المنطقة.

هكذا كانت تفكر أمريكا وتحسبها بغض النظر عن أفكار وحسابات أهل المنطقة أنفسهم.

لكن الهجمات الشرسة المنظمة على إسرائيل فى 7 أكتوبر كشفت عورات هذا التفكير، وأن الإدارة الأمريكية غرقت فى الخيال إلى مدى أبعد من خيال مؤلف سينمائى يكتب فيلمًا أسطوريًا.

أول  خطأ  هو  يقينها بوفاة القضية الفلسطينية وخروجها من حسابات المنطقة، فلم تعد مهتمة بحل الدولتين أو الضغط على إسرائيل لوقف التوسع فى بناء المستوطنات والحصار المفروض على قطاع غزة حتى الخنق، وفجأة اصطدمت بصخرة هائلة، أن القضية تسكن تحت جلد المنطقة وقلبها حتى لو بدا أن أهلها مشغولون بأنفسهم ومهرجاناتهم ومشكلاتهم المزمنة.

ثانى الأخطاء..أن وكلاء إيران فى المنطقة على درجة من القوة التى يمكن أن تزلزل قواعد يرتكن عليها الحليف الإسرائيلى الاسترتيجي..وهؤلاء الوكلاء يقولون بكل قوة أن إيران طرف لا يمكن استبعاده، مع أنها لا تنطق بأى حرف، فهى مثل الرجل الخفى تظهر آثاره دون رؤيته المباشرة.

ثالث الأخطاء.. إذا كانت الولايات المتحدة تلعب على أوتار «تنافس حاد على النفود الإقليمى» بين دول فى المنطقة، إلا أن تعقد العلاقات والمصالح الاقتصادية بين دول المنطقة يصحح أحيانًا تداعيات هذا التنافس، دون أن يزيله.

رابع الأخطاء..أن مصداقية الولايات المتحدة فى المنطقة راسخة ولا يمكن المساس بها، فإذا ببعض دول المنطقة تتمرد، وتوجه عبارات مناهضة للسياسة الأمريكية، وهم  حلفاء تقليديون دون أن يذكروا اسم واشنطن صراحة، خاصة بعد  فظائع الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين فى غزة، وبات على الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل لوقفها، والتخلى عن التهجير القسري، وأن تعود غزة بعد الحرب إلى السلطة الفلسطينية، وأن تقبل حل الدولتين. لكن ماذا سيحدث فى المستقبل؟

المفاجأت ما زالت مستمرة، وما زال أهل المنطقة بين التقدم والتراجع فى إمساك زمام أمورها فى أيديهم.