الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
بعد نشر مقال بعنوان «الاختلاط بين الطالبات والطلبة فى الجامعة المصرية» معركة عزيزة عباس عصفور!

بعد نشر مقال بعنوان «الاختلاط بين الطالبات والطلبة فى الجامعة المصرية» معركة عزيزة عباس عصفور!

 فى صالة شقة بدور أرضى، من بيت قديم فى منتصف شارع مدرسة التوفيقية الثانوية العريقة، بحى شبرا، تجمع ما لا يزيد على عشرين مصريًا يحيون ذكرى رحيل رجل عظيم، من هؤلاء الذين حاولوا «إزاحة» العتمة عن عقل أمتهم، ويقفون منارة بين أهلهم وشعبهم تضىء لهم السبل للخروج من مستنقع القرون الوسطى إلى ضفاف الحضارة الحديثة، ويرسم لهم «الخطوط والعلامات» الدالة على نور العقل، هكذا عاش طه حسين، ولهذا لم يرحل إلا بجسده فقط، لأن منارته مازالت تضوى.



 

يبدو أن هؤلاء العشرين وهم مصريون عاديون، كتاب وفنانون تشكيليون ومهندسون وأساتذة جامعات وموظفون، كانوا ينوبون عن وطنهم فى الاحتفاء به والحديث عنه فى صالون المحروسة، التى تنظمه «جمعية المحافظة على التراث المصرى»، بعد أن وجدوا إهمالاً أو انشغالاً، فنحن نعيش فى عصر التفاهة على رأى الفيلسوف الكندى «آلان دونو». وفعلاً كانت أمسية رائعة، أهم ما فيها أن زميلنا الصحفى النابه روبير الفارس فتح ملفًا جديدًا عن معركة مجهولة من معارك طه حسين الكثيرة ضد التخلف، ربما لم نعرف عنها كثيرًا أو قليلاً، لأن الطرف الأول فى المعركة وهى فتاة مصرية، لم يُسمع لها حس ولا خبر بعدها، ولم تصبح «سيدة لامعة»، تلعب دورًا رائدًا فى مجتمعها، ومن المحتمل أن أفكارها ومفاهيمها الدينية ورؤيتها لدور المرأة فى الحياة أخذتها إلى الركن البعيد الهادئ من أجل البيت والأولاد.

لكن الكلام عن هذه المعركة طرح سؤالاً فى غاية الأهمية: من الذى كسب المعركة: طه حسين المفكر الكبير اللامع أم هذه الفتاة المجهولة التى لا يذكرها التاريخ؟

الإجابة عن السؤال ضرورية، لنفهم ما يحدث فى مجتمعنا، لكن علينا أولا أن نعود إلى أصل الحكاية.

عزيزة عباس عصفور طالبة فى كلية الحقوق سنة 1936، أى بعد 17 عامًا من ثورة 1919، و15 عامًا منذ خلعت هدى شعراوى النقاب فى استقبال الزعيم سعد زغلول فى عودته من المنفى، وبعد 7 سنوات من دخول أول خمس فتيات إلى الجامعة سرًا بمؤامرة مع طه حسين ليتجنبن معارضة المجتمع، وبعد 4 سنوات من إنتاج أول فيلم ناطق فى السينما المصرية، وهو العام الذى تولى فيه فاروق الأول حكم مصر. 

وكانت عزيزة تنشر فى جريدة الفتح السلفية أفكارا سائدة عن «سيادة» الرجل وتبعية المرأة، «ما أبأسها من حرية وما أقبحها من مدنية»، إذا خالفت المرأة الشطر الثانى من مهمتها الإنسانية، وشاركت الرجل فى الشطر الأول، فى العمل الخارجى وحقها فى مساواة التعليم، وحقها فى تولى الوظائف العامة، وحقها فى الانتخاب وحقها فى الاشتغال بالسياسة، فهى ما خلقت إلا لتكون زوجة وأمًا وشركة للرجل لا أكثر، لأن تلافيف مخ المرأة قليل الثنيات وأقل نظامًا.

المدهش أن كلامها عن المخ لا يمت للعلم بصلة، لا من قريب أو بعيد، ولا أعرف من أين أتت به.

والأكثر دهشة أنها لم تسأل نفسها: من الذى حدد للمرأة الشطر الثانى فقط من هذه المهمة الإنسانية؟، هل السماء فى نصوص مباشرة واضحة لا تقبل تفسيرًا ولا تأويلًا؟، هل المجتمع بعاداته وتقاليده؟.

لكن المقال المعركة لم تنشره فى الفتح، وإنما فى جريدة الأهرام بعنوان «الاختلاط بين الطالبات والطلبة فى الجامعة المصرية»، تطالب فيه بإنشاء قسم جامعى خاص بالفتيات منعا للاختلاط بالفتيان، فالاختلاط به مخاطر ويتنافى مع عادات البلاد ودينها وتقاليد أهلها، ولمن الضرورى صيانة أخلاق المرأة من الزلل.

طبعا هذه عقلية غريبة حقًا، فصيانة شرف الفتيات لا يعود إلى إرادتهن وأخلاقهن وتربيتهن وإنما بإغلاق الأبواب عليهن وحجزهن فى «أماكن خاصة»، حتى لا يقعن فى الرذيلة فور الاختلاط بالرجال، أو أن الاختلاط يسهل عمل الشيطان، فالإنسان رجل أو امرأة جاهز للانحراف السلوكى والأخلاقى حين تتاح له فرصة، والحل هو قطع دابر هذه الفرص حتى نضمن نقاء السلوك، كما لو أن العقل الذى كلفه الله بالمسؤولية لا قدره له على المضى فى الطريق الصائب إلا بشروط «الحجز والمنع والستر»، أى على الإنسان أن يتمتع بالإخلاق مكرها وليس اختيارًا.

من هنا يمكن أن نفهم إجبار الناس على الإيمان بالإكره، والخلافة بالإكراه وسعى الجماعات الدينية إلى السلطة بالإكراه، والإكراه يعنى العنف.. والعنف يبدأ بلفظ!

المهم أن المقال كان أشبه بإلقاء حجر على رأس المجتمع، فراح أعضاؤه يتحسسون رءوسهم، وفى أى جزء وقع الحجر من أفكارهم ومفاهيمهم، ونشبت حرب ضروس، شارك فيها طلبة وكتاب وشيوخ وشخصيات عامة بارزة، لكن حملة عزيزة كانت أكثر تنظيما وأكثر إطلاقا للنيران والصواريخ على فكرة التحديث والمدنية، خاصة أن المجتمع المصرى تقليدى بطبعه عبر تراث طويل وممتد من سيطرة رجال الدين على أهله، ولم تفلح أسئلة من نوع: ماذا تفعل عزيزة بعد أن تتخرج في كلية الحقوق وكيف تعمل محامية؟، هل فى محاكم خاصة لا يختلط فيها الرجال والنساء حتى فى قضايا الزواج والطلاق والنفقة؟، وإذا كانت لا تريد الاختلاط فلماذا لا تهجر الجامعة وتجلس فى بيتها مكتفية بالبكالوريا؟، أو لماذا لم تدخل أصلا معهد التربية العالى للمعلمات الذى أنشئ فى عام 1933، والذى أصبح فيما بعد كلية البنات؟، أو ألا تعرف أن المرأة المصرية هى أول امرأة عاملة فى التاريخ؟، ألا تعلم أن نساء الفلاحين يساعدن أزواجهن فى الريف ويختلطن بالرجال دون أن تقع «مصائب أخلاقية» تمثل ظاهرة يجب الحد منها؟

طبعا هذه النوعية من الأسئلة لا يجيب عنها أصحاب تلك العقول القديمة، وإنما يتحركون تلقائيا إلى المربعات التالية، إذا كتبوا مذكرة إلى مدير الجامعة نشروها فى الفتح، يطالبون بإدخال الدراسة الدينية فى جميع الكليات، وتوحيد زى الطلبة والطالبات، وتحديد دراسة خاصة بالطالبات فى كلية الآداب بعد أن كثر عددهن، وهنا نادى الشيخ مصطفى المراغى شيخ الجامع الأزهر بتعميم التعليم الدينى وفصل البنين عن البنات، وفتحت جريدة الفتح صفحاتها أمام برقيات التأييد والمناصرة، وبلغ تأثيرها أن عميد كلية الآداب وعدد من الأساتذة أيدوا تلك الأفكار.

هنا تدخل الدكتور طه حسين بعد تسعة أشهر من العراك الفكرى، وقال لا أعرف فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله نصًا يحرم اجتماع الفتيان والفتيات حول أستاذ يعلمهم العلم والأدب والفن، ولا أعرف أن شيئًا حدث فى الجامعة يخيف الفتنة ويدعو إلى الاحتياط بالتفرقة بينهما فى قاعات الدرس، وأعلم أن سيرة الجامعيات والجامعيين حسنة لا غبار عليها، والطالبات والطلاب فى الجامعة منصرفون إلى الدرس والتحصيل، ولا سبيل إلى مقاومة كل ما يقتضيه التحول الحديث فى حياتنا على اختلاف فروعها.

وهاجت الدنيا على طه حسين، وردوا عليه بعنف وأنه هو الذى لا يعرف دينه جيدًا، ورد عليهم طه حسين بقسوة..وختم كلامه: فليترك الأزهر الجامعة المصرية وليُعن بإصلاح أمره، وليعلموا أنه لا نفع بحال من الأحوال من إثارة تلك المشكلات، وإتعاب الأمة بما لا ينبغى أن يتعبها أحد.

لفتت المعركة أنظار توفيق الحكيم وبقلمه الساخر اللاذع كتب تحت عنوان «يجب غلق الجامعة والاكتفاء بالأزهر»، وقال: نعم إن الجامعة المصرية برهنت اليوم على أنها لا محل لها فى مصر، وأنها تكرار للأزهر، وإنها إذا ألغيت وأحيل طلبتها إلى أروقة الأزهر، وسرحت طالباتها بالحسنى إلى بيوتهن فإن البلد لا يخسر شيئًا، فلقد كان المفهوم عن إنشاء الجامعة أن يقام فى مصر هيكل للفكر الحر يُعنى فيه بشئون العلم والفكر مطلقة من كل قيد.. إن إقصاء المرأة عن مجتمعنا كما يقى الحيوان الحقير جريمة فظيعة، هى القتل المعنوى لا أكثر ولا أقل، إذا ذبل عقل المرأة ومات فقد ذبل عقل الأمة كلها ومات.

وبالطبع لم تنجح عزيزة ولا مؤيدها فى مسعاهما فى عزل الفتيات بالتعليم الجامعى، لكن أفكار عزيزة ومؤيدها مازالت تخيم على فضاء المجتمع، وإذا كان طه حسين ومن معه قد نجحوا على مستوى القضية المباشرة، فلم ينجحوا على مستوى القضية العامة، فالسفلية سائدة والعقول القديمة سائدة وإن تغير شكل المجتمع نسبيا، لكن فى شريحة بينما التيار العام يقف خلف عزيزة عباس عصفور، التى اختفت بعد تخرجها فى كلية الحقوق، وانقطعت أخبارها وكتاباتها أيضًا، لكن لم تنقطع أفكارها.

وهذه هى معركة التحديث الحقيقة.