الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
فارس الكوميديا

فارس الكوميديا

«كلفنى المنتج السينمائى بكتابة قصة كوميدية.. فتصورت مدينة يكافح أهلها فى سبيل لقمة العيش ويشقون بما بينهم من خصومات.. ويعانون الأمراض والحوادث.. ثم يجىء بعد ذلك زلزال مدمر فيقضى على البقية الباقية منهم ويمحو من الوجود ذكرياتهم فكأنهم لم يوجدوا.. فضحك المنتج وقال: «حقًا إنك فارس الكوميديا»».



هذا هو الحلم رقم (198) من مجموع مائتى حلم كتبها أديبنا العظيم «نجيب محفوظ» من خلال قصص قصيرة تحت عنوان «أحلام فترة النقاهة» وهى آخر إبداعاته وهو حلم ساخر مرير.. يكشف عن مفارقة حارة ومؤلمة.. تثير ضحكا كالبكاء من واقع متداع يزداد تداعيه.

إذا ظل مداد القلم ينبض بعطاء أخاذ مفعم بعطر الأشواق وسحر الحب ودفء الحياه.. والرغبة الحارة فى معانقة الأوراق حتى الرمق الأخير.. وظل العقل تنضح  قريحته بإبداع ملهم عظيم الشأن قادر دائمًا على الإبهار والتجدد والتطور.. وتجاوز وهن الجسد.. وارتعاشة اليد.. ظل «نجيب محفوظ» يبدع ويتألق ويسطع فى حياتنا الأدبية الراكدة.. وظل قادرًا على إثارة الذهن وتحريك الوجدان وزلزلة الوعى وإشعال الخيال، فـ«الأحلام» هى خلاصة الخلاصة لفكر يحمل رؤية عميقة تمزج الواقع بالخيال.. والمرئى بالميتافيزيقى.. والحلم والحقيقة.. والفانتازيا بالمنطق.. فى إطار من الرمز المباشر أحيانا.. والمغلف فى أحيان أخرى كثيرة مستخدما مفردات لغوية سهلة.. وموشاة بإيقاع موسيقى عذب.. والأقصوصة هى حالة تشبه اللوحة السريالية.. والفيلم «الكابوسى» الذى يذكرنا بأفلام المخرج الإيطالى الكبير «فيللينى» ويقترب من عالم الروائى «كافكا» ومن عبث المسرحيين «يونسكو» و«بيكت».. فإذا ما انتهينا من القراءة أدركنا أن الإحساس أقوى من الفهم والرمز أبلغ من الواقع.. ومعايشة الكابوس غير المنطقى فى تسلسله وتداعياته وإرهاصاته ومضمونه أهم من سرده وتفسيره.. واستخلاص جوهره أبقى من حكيه.. إنه فى أسطر قليلة موجزة سلة خالية من الزخف اللفظى ومن الأطناب عارية من المحسنات البديعية.. فهو يدخل مباشرة فى قلب الوجود الإنسانى.. والغرابة تتوالى وتتكاثر المعانى فى فيض وغنى عجيب.. ومعان موحية بدلالات كبيرة تتصل بقضايا فلسفية عميقة ربما تعجز عن التعبير عنها روايات بأكملها وذلك هو سر عبقرية أديبنا الكبير.