الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 أيام جمال أسعد

أيام جمال أسعد

«المنتمى المستقل» لم أجد أفضل من هذا التعبير لأصف به جمال أسعد – مع حفظ الألقاب – فقد كان ومازال منتميا إلى مؤسسات دينية وسياسية وحزبية ومذاهب فكرية ولكنه فى نفس الوقت مستقلا يتخذ مواقف نابعة من رؤيته وأفكاره ومبادئه، هذه السمة والنزوع نحو الاستقلال تتكشف من خلال مذكراته التى نشرها مؤخرا بعنوان «أيامى.. شاهد على خمسة عصور» والصادر عن دار «سما».



جمال أسعد غنى عن التعريف ولكن لمن لا يعرفه هو سياسى بارع ومناضل يسارى وكاتب ومفكر، وهو واحد من الأقباط القلائل الذين نجحوا فى انتخابات برلمانية بإرادة شعبية واختيار حر، ويتجلى الاستقلال والانتماء اللذان يتصف بهما فى المواقف التى مر بها وهى كثيرة، فهو رغم اعتزازه بمسيحيته وبالكنيسة إلا أنه لا يحب أن يطلق عليه سياسى وكاتب قبطى مفضلا أن يوصف بسياسى وكاتب مصرى، وهو هنا لا يبتعد عن معتقده الدينى ولا ينفصل عن كنيسته التى ينتمى إليها رغم انتقاده لبعض سياسات قادتها ولكنه يريد الإصلاح طالما لا يمس صحيح العقيدة، هذا الاستقلال لم يكن فقط عن الكنيسة ولكن أيضا فكرى رغم انتمائه اليسارى، وسياسى رغم عضويته لحزب التجمع فى البداية وحزب العمل الاشتراكى بعدها قبل أن يسيطر الإخوان على هذا الحزب، فقد كانت مواقفه تتسق مع رؤيته ومع ما يراه صحيحا حتى لو كانت لا ترضى القائمين على المؤسسات الدينية والسياسية والحزبية، وهدفه دائما كشف الأخطاء وتصحيح المسار، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الإصلاح من الداخل.

دفع جمال اسعد ثمن هذا الاستقلال طوال حياته ولكنه فى المقابل حظى باحترام وتقدير وحب كل من عرفوه حتى لو اختلفوا معه، ولكن هذا الاستقلال لم يكن يحدث أثرا لولا تمتعه بالإرادة القوية والصلبة والإصرار والصمود، فلم تكن أيامه وردية ولا حياته سهلة وميسرة ولكنه استطاع أن يشق لنفسه طريقا وسط الصعوبات الكبيرة التى كانت يمكن أن توقف طموحاته، فاستطاع أن يخرج من الحارة الصغيرة فى مدينة القوصية بأسيوط ويصبح من السياسيين المعدودين على مستوى الجمهورية، حتى إنه أعتقل فى أحداث سبتمبر عام 1981 فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات ضمن مجموعة من السياسيين اللامعين وقتها، وعندما أفرج عنه فى أول حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك كان ضمن كوكبة صغيرة من الشخصيات العامة والسياسية استقبلهم مبارك فى القصر الجمهورى بينهم فؤاد سراج الدين ومحمد حسنين هيكل وفتحى رضوان وحلمى مراد وعبدالفتاح حسن وميلاد حنا  وغيرهم، وهو ما يكشف المكانة السياسية التى وصل إليها فى سن مبكرة نسبيا قياسا بمن كانوا معه فى المعتقل، ولم يكتف بذلك فوصل إلى كرسى البرلمان عام 1987 بأصوات البسطاء مسلمين ومسيحيين رغم هجوم الكنيسة عليه وقتها لأنه رفض الوصاية السياسية للكنيسة على الأقباط، وذلك عندما أصدر كتابه المهم والشهير «من يمثل الأقباط الدولة أم الكنيسة؟» وهو ما لم يعجب البابا شنودة لأنه اعتبرها محاولة لانتزاع سلطته على المسيحيين فى حين كان جمال يرى أن المواطنة الحقيقية تقتضى خروج المسيحيين سياسيا وليس دينيا من حضانة الكنيسة وأن يمارسوا حقوقهم كمواطنين وليس ذميين، وفى نفس الانتخابات عانى كثيرا من هجوم الإخوان المسلمين عليه حتى إنهم رفضوا أن يرشحوا أحدا منهم فى قائمة تحالف الإخوان وحزبى العمل والأحرار طالما جاء جمال على رأس القائمة فى دائرة شمال أسيوط باعتباره نصرانيات حسب تعبيرهم ولكنه استطاع أن ينجح ويحصل على المقعد، وفى البرلمان أكد جمال استقلاله فعارض الحكومة والحزب الوطنى ورفض ممارسات البرلمانيين الإخوان الذين نجحوا فى نفس الانتخابات رغم أنه من المفترض أن يكون هناك تنسيق بينهم باعتباره ناجحا على قائمة التحالف، وبعد خروجه من البرلمان استمر جمال فى نهجه المستقل فابتعد عن حزب العمل بعد سيطرة الإسلاميين عليه وعن حزب التجمع قبله اعتراضا على ممارسات عدد من قياداته، ولكن ذلك لم يوقفه فأدى دوره الإصلاحى والثقافى من خلال صالون فكرى أقامه فى مدينة القوصية وجذب إليه عددا كبيرا من الكتاب والمفكرين والفنانين وجعل الكنيسة تستضيف الصالون وتفتح أبوابها أمام الشباب المسلم الذين كان معظمهم يدخل الكنيسة لأول مرة، وكان هدفه تقارب الشباب من الدينين بعد أن أثرت عليهم أفعال المتطرفين لسنوات وأبعدتهم عن بعض، لكن الكنيسة بعد فترة ضاقت ذرعا بهذا الصالون وأرادت إغلاقه ولكن جمال الذى لا يستسلم واصل رسالته الوطنية ففتح بيته للصالون مستقبلا الأدباء والمفكرين وجامعا بين الشباب المسلم والمسيحى فى ظاهرة تستحق الدراسة، ما سبق ليس سوى لمحة بسيطة من أيام هذا الرجل الذى بدأ نشاطه السياسى فى الستينات من خلال منظمة الشباب، ولم يمنعه حبه لعبدالناصر من انتقاد الأخطاء فى المنظمة وفى سياسيات هذه الفترة، أما عصر السادات فقد انتهى وهو فى المعتقل، وبدأ عهد مبارك بالإفراج عنه ثم عضويته للبرلمان، كما شهد ما حدث بعد ثورة يناير 2011، حياة حافلة لمواطن عصامى سياسيا وفكريا وليس ماليا، فمن كان يتصور أن ابن البقال البسيط يصل إلى هذه المكانة؟ ويكون شاهدا على عصور خمسة رؤساء اقترب من سياستهم شاهدا ومشاركا وناقدا، ولهذا كانت أيامه وتجربته ملهمة للكثيرين، كتاب جمال جدير بالقراءة خاصة لمن يريد أن يعرف ماذا حدث لمصر وفى مصر سياسيا واجتماعيا وفكريا فى هذه العصور الخمسة؟