الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
قارئ الجثث

قارئ الجثث

«بدت اللفافة المختومة معتادة المشهد بعد أن قمت بفضها، إذ كانت تحتوى على ثلاث عظام صغيرة، ففى هذا الطقس الحار تتآكل الجثث سريعًا وتتحول إلى عظام، وفى هذا الوقت فى مصر كان كثير من الجثث لا تحصل على دفن طبيعى وتقليدى، وكان طلب الشرطة معرفة هذه العظام التى وجدت فى قاع بئر تخص إنسانًا أم حيوانًا، وبعد أيام من الفحص كتبت تقريرًا أن هذه عظام سيدة شابة قصيرة القامة نحيلة القدّ يتراوح عمرها بين 22 و25 عامًا ومر على وفاتها ثلاثة أشهر، وهذه السيدة حملت أكثر من مرة ومصابة بعرج ناتج عن إصابتها بشلل الأطفال وقتلت ببندقية محشوة بطلقات مصنعة محليًا من على بعد ثلاث ياردات وماتت بعد إصابتها بنحو من سبعة إلى عشرة أيام»، ومنح التقرير خيطًا للشرطة لمعرفة الضحية والوصول إلى القاتل والذى كان والدها، حيث كان ينظف بندقيته فانطلقت منها عدة رصاصات على سبيل الخطأ وأصابت ابنته وأنه حاول إخفاء الجريمة لأن البندقية لم تكن مرخصة، كانت هذه واحدة من الألغاز الجنائية  - وما أكثرها- التى شارك فى حلها الدكتور سيدنى سيمث عندما شغل وظيفة مستشار الطب الشرعى للحكومة  المصرية عام 1917، حيث ساهم فى إنشاء وتطوير مصلحة الطب الشرعى قبل أن يغادر مصر نهاية عام 1927 إلى أيرلندا واسكتلندا وأستراليا وسيلان ليعمل فى المجال الذى أحبه وتفوق فيه وهو الطب الشرعى، كتب سميث مذكراته التى جمع فيها شهاداته عن الجرائم التى شارك فى حل ألغازها بعنوان «على الأرجح قتل» وصدرت عام  1959، ولم نكن نعرف عنها شيئًا حتى قام بترجمتها الكاتب والروائى والباحث المهتم بالتاريخ والمترجم البارع مصطفى عبيد وصدرت منذ أسابيع عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان «قارئ الجثث»، وكان قد سبق له ترجمة مذكرات «توماس راسل حكمدار القاهرة» والذى عاش فى مصر طوال الفترة من 1902 إلى 1946 وكان شاهدًا على كثير من الأحداث السياسية والجنائية، ولأن مصطفى يهوى النبش فى الدفاتر القديمة كما يقول عن نفسه فقد لفت نظره فى «مذكرات راسل» إشارته إلى كبار خبراء الطب الشرعى فى إنجلترا وزياراتهم المتكررة إلى مصر  وذكر أسماء بعضهم ومنهم الدكتور سميث، وهو ما دفع مصطفى للبحث عن مذكرات الأخير وخاصة أن بها جزءًا كبيرًا عما شاهده فى مصر وما مر به من جرائم، واستطاع مصطفى بعد جهد كبير العثور على المذكرات فى أمريكا وبمساعدة بعض أصدقائه حصل على نسخة منها رغم توقف طباعتها هناك  منذ عام 1988، المذكرات بها الكثير من المعلومات وقدم كاتبها من خلالها عالم الجريمة فى مصر فى تلك الفترة وطرق القتل المختلفة من الثأر إلى التسميم وخاصة بالزرنيخ الذى كان منتشرًا فى هذه الفترة بجانب إخفاء الجثث ودفنها فى الآبار والصحراء أو إلقائها فى الترع والنيل لإخفاء معالمها، بجانب كيفية استنتاج المعلومات من خلال تشريح الجثث ودراسة الملابس والمتعلقات والأشياء الموجودة فى مكان وجود الجثة  للوصول إلى كيفية ارتكاب الجريمة والسلاح المستخدم ما يساعد فى الوصول إلى الجانى، مثلما حدث فى الجريمة التى بدأ بها المذكرات والخاصة بالمرأة التى قتلها أبوها خطأ، حيث توصل من خلال ثلاث عظام إلى وصف تفصيلى لها، وبعد ذلك كان من السهل الوصول إلى امرأة بهذه المواصفات اختفت خلال فترة ارتكاب الجريمة، كما تضمنت المذكرات بعض جرائم القتل الشهيرة مثل «ريا وسكينة» و«الحسناء الرومانية إيما» و«السردار لى ستاك»، إلا أن الأهم هو شهادته الإيجابية عن الحركة الوطنية المصرية، وذلك من خلال انحيازه إلى ضميره العلمى فكشف بوضوح كيف حاولت السلطات وقتها تشويه الحركة الوطنية وتلفيق التهم لها بأنها قتلت مواطنين خلال المظاهرات وهو ما أثبت سميث زيفه، حيث تمسك بأن «الرصاص أطلق من عناصر تابعة للحكومة وخاصة الخفر غير النظاميين الذين يعملون مع الشرطة» وكانت السلطة وقتها توظف لصوصًا سابقين فى هذه الوظيفة لاستخدامهم فى قتل المتظاهرين وإثارة الشغب، كما أثبت فى حالات أخرى «أن الرصاص المستخدم فى القتل بريطانى».



«سميث» كان له دور كبير أيضًا من خلال عمله فى الطب الشرعى فى الكشف عن مرتكبى حادث قتل السير لى ستاك سردار الجيش البريطانى فى السودان والذى اغتيل فى القاهرة عام 1924، وهو ما أدى إلى القبض عليهم ومحاكمتهم، وتمتلئ المذكرات بوقائع وجرائم مثيرة فى المدن والريف  ومن خلالها قدم وصفًا دقيقًا لأحوال القرى المصرية فى ذلك الوقت وكيف كانت «مرتعًا للبؤس والفقر والحرمان والمرض وموطنًا للأمراض المختلفة ومركزا للجهل والإهمال»، وهو ما يرد على من يحنون للعصر الملكى ويرون فيه جمالاً لم يكن موجودًا وحياة سعيدة لم تكن إلا بائسة فى الواقع.

الكتاب ممتع وبه حكايات كثيرة عن جرائم ساهم فى حلها بعيدا عن مصر، كما به توضيح لكثير من فنيات عمل الطب الشرعى وكيفية استنتاج المعلومات من أدق التفاصيل، ومن خلال التشريح يصبح الطبيب الشرعى وكأنه «قارئ الجثث» وهو العنوان الذى فضّله المترجم عن العنوان الأصلى للمذكرات «على الأرجح قتل»، ويبقى الاعتذار بأنه لا يمكن الإلمام بجميع تفاصيل المذكرات بسبب المساحة، ولنفس السبب اختصرت من الاقتباسات من الكتاب ونشرتها بتصرف بسيط لا يخل بها، وأخيرًا اعتبر الكتاب دعوة لخبراء الطب الشرعى لكتابة مذكرات مماثلة، وهو ما يكشف  تطور الجريمة فى مصر خلال الفترات المختلفة ما يسهل على الباحثين والدارسين تشريح المجتمع المصرى.