الإثنين 14 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الغش أزمة مجتمع لا فتنة طائفية!‏

الغش أزمة مجتمع لا فتنة طائفية!‏

توقفت أمام سب مُدَرِّسة منعت الغش فى امتحان الثانوية العامة بالقاهرة، ورحت ‏أتأمل الآراء والكتابات والتعليقات عليها، وقد تدفقت على صفحات التواصل ‏الاجتماعى «كجلمود صخر حطه السيل من عل»، كما قال شاعرنا الجاهلى امرؤ ‏القيس، كانت هذه الآراء والكتابات والتعليقات مثل الصخور الكبيرة التى تلطم ‏وجوهنا من فرط قوة اندفاعها الأهوج، وقد اخترت تشبيهًا من شاعر جاهلى، لأننى ‏أحسست أن هذه الآراء والكتابات والتعليقات هى أقرب للجاهلية منها إلى العصر ‏الحديث، إذ ركزت على أن المُدرسة مسيحية، لأن أهالى الطلبة الشتامون السفلة ‏ذكروا دينها وهم يتطاولون عليها، كما لو أن السب والشتم كان سببه الأول الدين ‏وليس أمانة المُدرسة التى أدت واجبها فى لجنة الامتحان بنزاهة وشرف وأخلاق ‏حرصًا على قيم التعليم وقيمة العلم!‏



أى تركوا الأزمة التى تمثل تهديدًا مباشرًا لعقل المجتمع ومستقبله وأمسكوا فى الفتنة ‏الطائفية التى يمكن أن تهدد أمن المجتمع!‏

ولم يكن هذا أمرًا صائبًا؛ بل كان خطأ يرتفع إلى درجة الخطيئة، فلو فرضنا ‏فرضين..‏

الأول: أن المُدرسة كانت متساهلة جدًا مع الطلبة وسمحت لهم بالغش أو النقل من ‏بعضهم البعض، ماذا سيكون رد فعل أهالى الطلبة حين يخبرهم أولادهم بما فعلته ‏هذه المدرسة معهم؟ بالقطع سوف يصفقون لها ويرفعون إيديهم إلى السماء داعين ‏لها بالبركة والثواب، وربما وصفوها بأنها قديسة أو ملاك فى هيئة إنسان!‏

الثاني: لو أن هذه المدرسة ليست مسيحية، وإنما مسلمة، وتمسكت بقيم الحق والخير ‏والعدل وهى تراقب لجنة الامتحان، وتشددت فى عدم السماح بالغش، ماذا سيكون ‏رد فعل الأهالي؟ شتيمة وإهانة وربما ضرب، وقد تصل الشتيمة إلى وصفها بأنها ‏‏ «كافرة ولا تعرف ربنا»!‏

باختصار لم يكن الدين هو الأصل فى السب والشتم، وإنما كان عنصرًا يضفى على ‏الشتيمة مزيدًا من الوجع والعقاب.‏

وقد حدث هذا الاعتداء الغبى مئات المرات وربما آلاف المرات منذ تحول الغش من ‏نماذح فردية كما الحال فى كل بقاع المعمورة إلى ظاهرة تعليمية فى مصر، والعالم ‏العربى أيضا!‏

ولو أخذنا نفسًا عميقًا وبحثنا على شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة فى مقاطع ‏الفيديو سنجد العشرات منها فى مختلف محافظات مصر، تعرى الواقع التعس لهذه ‏الظاهرة، طالبة فى الإعدادية تصف المراقبين المتشددين فى لجان الامتحانات بأنهم ‏بلا قلوب تعرف الرحمة، ولى أمر تلميذ يعتدى على مُعلم بالضرب أمام المدرسة ‏لأنه منع ابنه من الغش فى امتحانات آخر العام، طالب يصفع معلمًا ثم يكيل له ‏لكمات سريعة عقابًا له على ضبطه وهو يغش، رجال الشرطة وهم يحيطون ‏بـ«مُدرسة» ويدفعون بها إلى عربة الشرطة جريا، ويفرون بها من وسط حالة غليان ‏‏ بين أولياء أمور يتربصون لها على باب المدرسة فى آخر يوم للامتحانات، لأنها ‏كانت متشددة مع أولادهم فى اللجان..إلخ.‏

أى أن اعتداء الأهالى على المدرسين والمدرسات الجادين الملتزمين بالقيم التعليمية ‏فى لجان الامتحانات ظاهرة متكررة، لا علاقة لها بالدين ولا بالملة، فلماذا الصيد ‏فى المكاء العكر وصناعة «فتنة طائفية» فى مسألة متعلقة بالغش!‏

طبعا لا ننكر أن العقل السلفى الذى له غلبة فى المجتمع المصرى، عقل لا يعرف ‏التسامح، ولا يستوعب حرية العقيدة، ولا يفهم فى أن الله خلق البشر شعوبًا مختلفين ‏فى اللون والدم والعقيدة منذ الأزل، ولم يأمر أبدًا أى إنسان أن يفرض عقيدته على ‏الآخرين بالقوة والإكراه، أو أن يسب المخالفين له فى الدين.. والعقل السلفى هو ‏أخطر أعراض أزمة المجتمع المصرى منذ حقب طويلة، لأنه عقل ضد التقدم ‏والتطور والنقد والحقائق النسبية والمعرفة، وقائم على الحفظ والتلقين والرجوع ‏للخلف والحقائق المطلقة والشفاهة!، وهو واحد من أسباب فشل مشروعات الحداثة ‏والنهضة فى المجتمع المصرى.‏

وبالمناسبة العقل السلفى له أشكال مختلفة، دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية، ‏وإن كان العقل السلفى الدينى هو «جلمود الصخر» فى طريق أى مجتمع نحو التقدم ‏والانتقال من ثقافة القرون الوسطى إلى ثقافة العصر الحديث.‏

والمدهش أن المجتمع المصرى يبدو قليل الحيلة أمام ظاهرة الغش فى الامتحانات، ‏وتعبير المجتمع هنا وصف جامع للناس والسلطة، فالناس لأسباب كثيرة، اقتنعت أن ‏الغش بات حقًا مكتسبًا، لا يخترقون به القواعد التعليمية، خاصة أن الامتحانات ‏اتخذت مسارين فى غاية التناقض.‏

الأول: أنها انزلقت إلى قياس مستوى الطالب المتوسط، وأصبح وزراء التعليم ‏يتباهون بأن الأسئلة فى الامتحانات العامة جاءت فى مستوى الطالب المتوسط، ‏والمتوسطون هم أسوأ ما فى حياة أى مجتمع، لأن التعليم بات ينتج كثرة من ‏مهندسين متوسطين وأطباء متوسطين وقانونيين متوسطين ومدرسين متوسطين ‏ومحاسبين متوسطين وعلميين متوسطين..الخ، وهم الذين يصعد منهم مديرون ‏متوسطون، ورؤساء قطاعات متوسطون، ورؤساء أحياء متوسطون ورؤساء ‏مجالس إدارات متوسطون، ورؤساء هيئات متوسطون.. وهكذا، أى صار ‏المتوسطون هم رمانة الميزان فى الأداء، وليس الجيدون والممتازون.‏

الثانى: فإذا «انحرفت» إلى قياس الحالة المعرفية والقدرات العقلية للطالب بأسئلة فى ‏مستوى الطالب الجيد أو الممتاز، فالمصيبة كبيرة وغضب المجتمع جاهز واندفاعه ‏إلى التعبير عن هذا الغضب بكل الوسائل لا يتوقف ضد المتشددين فى لجان ‏الامتحانات الذين لا يسمحون «لهؤلاء المتوسطين» بالغش، وأحيانًا كان بعض ‏واضعى أسئلة الامتحانات ينسون أنفسهم ويصيغون أسئلة تبدو عقابا للطلبة وليس ‏قياسًا لفهم العلوم التى درسوها، فتكون المصيبة أكبر والتعبير عنها أشد وقاحة!‏

باختصار هذه البيئة الخبيثة التى بدأت فى النمو والتكاثر منذ ثمانينيات القرن ‏الماضى صارت «واقعًا» له أعمدة وتقاليد وسلوكيات»، منها الاعتداء البدنى واللفظى ‏على مراقبى الامتحانات المتشددين!‏

والسؤال: هل يمكن أن نأخذ حالة هذه المُدرسة المعتدى عليها بالسب، بعد نسبها إلى ‏دينها، علامة فارقة فى حياتنا، قطعًا لا أقصد علاقة المصريين بعضهم بعضًا فهى ‏علاقة شديدة التماسك والمتانة، وإنما فى التعليم المصرى برمته.‏

التعليم ليس مجرد شهادة من مدرسة أو جامعة، أو تحصيل «شوية» معلومات من ‏معارف متنوعة، التعليم هو تحريض الإنسان على التفكير واستخدام العقل بطريقة ‏صحيحة، فالعقل هو أثمن ثروات الإنسان، لا النفط ولا الذهب ولا المعادن الثمينة ‏ولا العملات الصعبة ولا المدخرات فى البنوك، العقل أثمن منها جميعها، بشرط أن ‏يصونه وينميه ويحسن صقله بالتفكير العلمى المنظم.‏

والعقل أيضا هو كهف الظلمات، وأبخس الأشياء لو أهمله الإنسان وجرجره إلى ‏التقليد والحفظ والنقل والجمود عند نقاط محددة من المعارف.‏

فى الحالة الأولى.. العقل أداة التنمية والتحضر والتقدم بلا حدود.‏

فى الحالة الثانية.. العقل أداة التخلف وتكريس الخرافات ومطية العودة إلى الماضى ‏والعيش فيه.‏

والغش عمومًا، لا الغش فى الامتحانات فقط، ليس نقصًا فى التربية، وإنما نقص فى ‏نظام التربية، النقص فى التربية مجرد سوء تربية، مسؤليته فردية، لكن النقص فى ‏نظام التربية مسئولية النظام العام السائد فى المجتمع، فالإنسان ابن هذا النظام العام ‏الذى يحكم كل أنشطته فى الحياة من أول طريقته فى التعامل مع الطريق، إلى ‏التعامل فى المستشفيات أو مدرجات كرة القدم، وكل هذه التصرفات لها قانون، كلما ‏كان المجتمع جادًا فى تنفيذه بشفافية التزم أفراد المجتمع وحاولوا أن يمشوا على ‏الصراط المستقيم، والغش جريمة يعاقب عليها القانون وليس مجرد فعل أخلاقى قبيح ‏أو مذموم!‏

نعم..نحن فى حاجة إلى إعادة تقييم أنفسنا أولًا!‏