
نبيل عمر
الغش أزمة مجتمع لا فتنة طائفية!
توقفت أمام سب مُدَرِّسة منعت الغش فى امتحان الثانوية العامة بالقاهرة، ورحت أتأمل الآراء والكتابات والتعليقات عليها، وقد تدفقت على صفحات التواصل الاجتماعى «كجلمود صخر حطه السيل من عل»، كما قال شاعرنا الجاهلى امرؤ القيس، كانت هذه الآراء والكتابات والتعليقات مثل الصخور الكبيرة التى تلطم وجوهنا من فرط قوة اندفاعها الأهوج، وقد اخترت تشبيهًا من شاعر جاهلى، لأننى أحسست أن هذه الآراء والكتابات والتعليقات هى أقرب للجاهلية منها إلى العصر الحديث، إذ ركزت على أن المُدرسة مسيحية، لأن أهالى الطلبة الشتامون السفلة ذكروا دينها وهم يتطاولون عليها، كما لو أن السب والشتم كان سببه الأول الدين وليس أمانة المُدرسة التى أدت واجبها فى لجنة الامتحان بنزاهة وشرف وأخلاق حرصًا على قيم التعليم وقيمة العلم!
أى تركوا الأزمة التى تمثل تهديدًا مباشرًا لعقل المجتمع ومستقبله وأمسكوا فى الفتنة الطائفية التى يمكن أن تهدد أمن المجتمع!
ولم يكن هذا أمرًا صائبًا؛ بل كان خطأ يرتفع إلى درجة الخطيئة، فلو فرضنا فرضين..
الأول: أن المُدرسة كانت متساهلة جدًا مع الطلبة وسمحت لهم بالغش أو النقل من بعضهم البعض، ماذا سيكون رد فعل أهالى الطلبة حين يخبرهم أولادهم بما فعلته هذه المدرسة معهم؟ بالقطع سوف يصفقون لها ويرفعون إيديهم إلى السماء داعين لها بالبركة والثواب، وربما وصفوها بأنها قديسة أو ملاك فى هيئة إنسان!
الثاني: لو أن هذه المدرسة ليست مسيحية، وإنما مسلمة، وتمسكت بقيم الحق والخير والعدل وهى تراقب لجنة الامتحان، وتشددت فى عدم السماح بالغش، ماذا سيكون رد فعل الأهالي؟ شتيمة وإهانة وربما ضرب، وقد تصل الشتيمة إلى وصفها بأنها «كافرة ولا تعرف ربنا»!
باختصار لم يكن الدين هو الأصل فى السب والشتم، وإنما كان عنصرًا يضفى على الشتيمة مزيدًا من الوجع والعقاب.
وقد حدث هذا الاعتداء الغبى مئات المرات وربما آلاف المرات منذ تحول الغش من نماذح فردية كما الحال فى كل بقاع المعمورة إلى ظاهرة تعليمية فى مصر، والعالم العربى أيضا!
ولو أخذنا نفسًا عميقًا وبحثنا على شبكات التواصل الاجتماعي، خاصة فى مقاطع الفيديو سنجد العشرات منها فى مختلف محافظات مصر، تعرى الواقع التعس لهذه الظاهرة، طالبة فى الإعدادية تصف المراقبين المتشددين فى لجان الامتحانات بأنهم بلا قلوب تعرف الرحمة، ولى أمر تلميذ يعتدى على مُعلم بالضرب أمام المدرسة لأنه منع ابنه من الغش فى امتحانات آخر العام، طالب يصفع معلمًا ثم يكيل له لكمات سريعة عقابًا له على ضبطه وهو يغش، رجال الشرطة وهم يحيطون بـ«مُدرسة» ويدفعون بها إلى عربة الشرطة جريا، ويفرون بها من وسط حالة غليان بين أولياء أمور يتربصون لها على باب المدرسة فى آخر يوم للامتحانات، لأنها كانت متشددة مع أولادهم فى اللجان..إلخ.
أى أن اعتداء الأهالى على المدرسين والمدرسات الجادين الملتزمين بالقيم التعليمية فى لجان الامتحانات ظاهرة متكررة، لا علاقة لها بالدين ولا بالملة، فلماذا الصيد فى المكاء العكر وصناعة «فتنة طائفية» فى مسألة متعلقة بالغش!
طبعا لا ننكر أن العقل السلفى الذى له غلبة فى المجتمع المصرى، عقل لا يعرف التسامح، ولا يستوعب حرية العقيدة، ولا يفهم فى أن الله خلق البشر شعوبًا مختلفين فى اللون والدم والعقيدة منذ الأزل، ولم يأمر أبدًا أى إنسان أن يفرض عقيدته على الآخرين بالقوة والإكراه، أو أن يسب المخالفين له فى الدين.. والعقل السلفى هو أخطر أعراض أزمة المجتمع المصرى منذ حقب طويلة، لأنه عقل ضد التقدم والتطور والنقد والحقائق النسبية والمعرفة، وقائم على الحفظ والتلقين والرجوع للخلف والحقائق المطلقة والشفاهة!، وهو واحد من أسباب فشل مشروعات الحداثة والنهضة فى المجتمع المصرى.
وبالمناسبة العقل السلفى له أشكال مختلفة، دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وإن كان العقل السلفى الدينى هو «جلمود الصخر» فى طريق أى مجتمع نحو التقدم والانتقال من ثقافة القرون الوسطى إلى ثقافة العصر الحديث.
والمدهش أن المجتمع المصرى يبدو قليل الحيلة أمام ظاهرة الغش فى الامتحانات، وتعبير المجتمع هنا وصف جامع للناس والسلطة، فالناس لأسباب كثيرة، اقتنعت أن الغش بات حقًا مكتسبًا، لا يخترقون به القواعد التعليمية، خاصة أن الامتحانات اتخذت مسارين فى غاية التناقض.
الأول: أنها انزلقت إلى قياس مستوى الطالب المتوسط، وأصبح وزراء التعليم يتباهون بأن الأسئلة فى الامتحانات العامة جاءت فى مستوى الطالب المتوسط، والمتوسطون هم أسوأ ما فى حياة أى مجتمع، لأن التعليم بات ينتج كثرة من مهندسين متوسطين وأطباء متوسطين وقانونيين متوسطين ومدرسين متوسطين ومحاسبين متوسطين وعلميين متوسطين..الخ، وهم الذين يصعد منهم مديرون متوسطون، ورؤساء قطاعات متوسطون، ورؤساء أحياء متوسطون ورؤساء مجالس إدارات متوسطون، ورؤساء هيئات متوسطون.. وهكذا، أى صار المتوسطون هم رمانة الميزان فى الأداء، وليس الجيدون والممتازون.
الثانى: فإذا «انحرفت» إلى قياس الحالة المعرفية والقدرات العقلية للطالب بأسئلة فى مستوى الطالب الجيد أو الممتاز، فالمصيبة كبيرة وغضب المجتمع جاهز واندفاعه إلى التعبير عن هذا الغضب بكل الوسائل لا يتوقف ضد المتشددين فى لجان الامتحانات الذين لا يسمحون «لهؤلاء المتوسطين» بالغش، وأحيانًا كان بعض واضعى أسئلة الامتحانات ينسون أنفسهم ويصيغون أسئلة تبدو عقابا للطلبة وليس قياسًا لفهم العلوم التى درسوها، فتكون المصيبة أكبر والتعبير عنها أشد وقاحة!
باختصار هذه البيئة الخبيثة التى بدأت فى النمو والتكاثر منذ ثمانينيات القرن الماضى صارت «واقعًا» له أعمدة وتقاليد وسلوكيات»، منها الاعتداء البدنى واللفظى على مراقبى الامتحانات المتشددين!
والسؤال: هل يمكن أن نأخذ حالة هذه المُدرسة المعتدى عليها بالسب، بعد نسبها إلى دينها، علامة فارقة فى حياتنا، قطعًا لا أقصد علاقة المصريين بعضهم بعضًا فهى علاقة شديدة التماسك والمتانة، وإنما فى التعليم المصرى برمته.
التعليم ليس مجرد شهادة من مدرسة أو جامعة، أو تحصيل «شوية» معلومات من معارف متنوعة، التعليم هو تحريض الإنسان على التفكير واستخدام العقل بطريقة صحيحة، فالعقل هو أثمن ثروات الإنسان، لا النفط ولا الذهب ولا المعادن الثمينة ولا العملات الصعبة ولا المدخرات فى البنوك، العقل أثمن منها جميعها، بشرط أن يصونه وينميه ويحسن صقله بالتفكير العلمى المنظم.
والعقل أيضا هو كهف الظلمات، وأبخس الأشياء لو أهمله الإنسان وجرجره إلى التقليد والحفظ والنقل والجمود عند نقاط محددة من المعارف.
فى الحالة الأولى.. العقل أداة التنمية والتحضر والتقدم بلا حدود.
فى الحالة الثانية.. العقل أداة التخلف وتكريس الخرافات ومطية العودة إلى الماضى والعيش فيه.
والغش عمومًا، لا الغش فى الامتحانات فقط، ليس نقصًا فى التربية، وإنما نقص فى نظام التربية، النقص فى التربية مجرد سوء تربية، مسؤليته فردية، لكن النقص فى نظام التربية مسئولية النظام العام السائد فى المجتمع، فالإنسان ابن هذا النظام العام الذى يحكم كل أنشطته فى الحياة من أول طريقته فى التعامل مع الطريق، إلى التعامل فى المستشفيات أو مدرجات كرة القدم، وكل هذه التصرفات لها قانون، كلما كان المجتمع جادًا فى تنفيذه بشفافية التزم أفراد المجتمع وحاولوا أن يمشوا على الصراط المستقيم، والغش جريمة يعاقب عليها القانون وليس مجرد فعل أخلاقى قبيح أو مذموم!
نعم..نحن فى حاجة إلى إعادة تقييم أنفسنا أولًا!