الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
عبقرية المسيح.. معركة العقاد والمسيحيين

عبقرية المسيح.. معركة العقاد والمسيحيين

هذه معركة فكرية مهمة، وأفضل ما فيها أنها تعلمنا كيفية الاختلاف باحترام، والترفع عن استخدام ألفاظ جارحة ومسيئة وعدم السقوط فى الابتذال والركاكة والملاسنة، ورغم أنها تتعلق بالعقيدة فإنها لم تخرج عن النقاش الجاد والهادئ والرصين، كما أن وقتها لم يكن هناك هواة الحسبة الذين يترصدون كل كلمة من أجل تقديم البلاغات وإقامة الدعاوى القضائية والمطالبة بحبس المفكرين ومصادرة الكتب، المعركة جرت وقائعها منذ 70 عامًا وكشف عنها الكاتب اللامع والباحث الجاد والروائى روبير الفارس فى أحدث كتبه «عبقرية المسيح.. المعركة المجهولة بين الأقباط والعقاد» والذى صدر منذ أيام عن دار نشر «روافد»، هذه المعركة الفكرية لم يتناولها أحد من قبل رغم أهميتها حتى جاء روبير وجمع وثائقها من الصفحات المتناثرة للمجلات العامة والكنسية والكتب المجهولة، ولكن كيف جرت وقائع هذه المعركة؟



فى عام 1953 أصدر الكاتب الكبير عباس محمود العقاد كتابه المعروف «عبقرية المسيح»، وكان له صدى كبيرًا فى الأوساط الإسلامية والمسيحية، وحسب الوثائق التى ضمها كتاب روبير فإن الكنيسة رفضته، والمسيحيون غضبوا إذ جاء تناول العقاد لشخص المسيح من وجهة نظر إسلامية، ولكن المثير للدهشة هو اختلاف المفكرين المسلمين فى رؤيتهم للكتاب بين الرفض التام والاحتفاء الكبير، فمثلاً الدكتورة نعمات أحمد فؤاد فى كتابها «الجمال والحرية والشخصية الإنسانية فى أدب العقاد» خصصت فصلاً لكتاب «عبقريـة المـسيح» استـعرضت خـلالـه منهج العقاد ومؤيدة ما جاء فيه من رؤى وأفكار، ومشيدة ببحثه التاريخى وتحليله للشخصية، وفى المقابل كان هناك من يهاجم العقاد مثل محمد جلال القصاص والذى نشر مقالاً رفض فيه فكرة العبقريات عمومًا وخاصة «عبقرية محمد» و«عبقرية المسيح» لأن وصف العبقرية ينزع عنهما الوحى، وفيما يخص «عبقرية المسيح» كان الرفض من جانب القصاص لأن العقاد لم يتطرق إلى قضية صلب المسيح بوضوح ويتهمه بالسطحية والبحث عن الغريب، وأنه حسب قوله «لم يعتمد فى هذه القضية على كتاب النصارى ولا كتاب المسلمين وإنما كتب كلامًا مرسلاً»، ويستمر القصاص فى هجومه قائلًا: «إن العقاد كتب هذا الكتاب متأخرًا بعد أن انتشر اسمه وعرف بين الناس بسعة اطلاعه، وكان فى زمن لا يقرأ فيه أحد وحسب أن الناس لن يقرأوا فلن يفتش أحد وراءه، وبالتالى لن يعرفوا أن الرجل يتكلم من رأسه»، على أن هذا الرفض لا يقارن بغضب الأقباط، فشن عدد من الكهنة هجومًا على الكتاب وعلى رأسهم القمص سرجيوس خطيب ثورة 1919 والذى هاجم الكتاب فى مجلة «المنارة المصرية» ونشر على صفحاتها مقالًا تحت عنوان «ملاحظات حول كتاب عبقرية المسيح» وصف فيه الكتاب بأنه «زلة من الأستاذ العقاد» و«أن لكل عالم غفوة ولكل جواد كبوة» وأنه «يبحث عن الرواج والمكسب المادى بعد نجاح كتاب «عبقرية عمر»، ثم أبرز رفض المسيحيين لوصف المسيح بالعبقرية وختم المقال برصد عدد من أقوال فلاسفة ومفكرين عن شخصية المسيح.. وفى نفس المجلة نشر الدكتور «س» مقالًا - لم يستطع روبير التوصل إلى شخصيته- أبرز فيه عددًا من الملاحظات الإيجابية فى الكتاب ووصفه بأنه «أحسن كتاب عن المسيح كتبه كاتب عربى لا يؤمن بالمسيحية لأنه سلم بأشياء كثيرة كنا نحاول أن نقنع بها مناظرينا»، ولكن الدكتور «س» يعود ليبدى ملاحظات سلبية على الكتاب قريبة مما طرحه القمص سرجيوس وأبرزها عدم الإشارة إلى المصادر التى استقى منها العقاد معلوماته، أما مجلة المشرق الكاثوليكية فقد وصفت الكتاب بأنه «لا هو كتاب إيمان وتقوى ولا هو كتاب علم وتاريخ»، كما صدر كتاب بعنوان «ما أغفله كتاب عبقرية المسيح» ولم يذكر اسم كاتبه حيث تم الاكتفاء بتوقيع «و.ج» واصفًا نفسه بـ«الشاهد لحق المسيح»، وهو وصف حسب روبير استخدمه المنتمون للطائفة الإنجيلية، وجاء فى الكتاب «ما أحوج الكاتب إلى دراسة المسيح من جديد وعن قرب وإن فعل ذلك بإخلاص فسيرى غير ما رأى ويحكم بغير ما حكم ويكتب غير ما كتب».

وهكذا اجتمعت الطوائف المسيحية الثلاث على رفضها للكتاب، ولكن ما هو رد فعل العقاد؟ يورد روبير فى كتابه ردود العقاد على الهجوم عليه وأبرزها ما جاء فى كتابه «حياة المسيح وكشوف العصر الحديث» والذى صدر بعد خمس سنوات من نشر «عبقرية المسيح» وفى مقدمة الكتاب رد العقاد على الهجوم على كتاب «عبقرية المسيح» وخاصة عدم ذكره للمراجع التى استند إليها وقال: «عمدنا إلى نخبة من الكتب الثقات التى ألمت برءوس المسائل وخرجنا منها بالخلاصة المطلوبة»، وأضاف «إنه من الإطالة على غير طائل أن نسرد أسماء المؤلفين والمؤلفات فى هذه البحوث النقدية والقارئ لا يفوته من جوهرها شىء».

كتاب روبير به الكثير من التفاصيل المهمة التى لا نستطيع الإلمام بها كلها بسبب مساحة المقال، ويبقى عدة أشياء أن المؤلف أراد من كتابه إبراز قيمة الاختلاف، وبجانب ذلك فإن هناك مقدمة وافية كتبها الدكتور أبو اليزيد الشرقاوى أستاذ الأدب الحديث بدار العلوم عن كتاب «عبقرية المسيح» وتضمنت دراسة نقدية مهمة عن العقاد وتطوره الفكرى والإبداعى، وهى تفتح آفاقًا جديدة أمام المهتمين بالعقاد وأعماله الفكرية والإبداعية والشعرية.