الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حضرة المحترم «نجيب محفوظ»

حضرة المحترم «نجيب محفوظ»

ليس من الجديد أن نقول إن «نجيب محفوظ» موهبة فذة قلما أن يجود بمثلها الزمان.. وتتجاوز فى عطائها الوفير والعميق موهبة كل من كتبوا الرواية على مَرّ تاريخ الأدب العالمى كله فى استشراف المستقبل والتنبؤ بمعطياته واتجاهاته وتحولاته مثلما هو قادر على أن يكون دائمًا مرآة لعصره وشاهدًا عليه.. بالإضافة إلى براعته الفائقة من خلال السرد القائم على تعدد مستويات الطرح والرؤية، فالمعنى الظاهر على السطح فى الرواية الذى يتضح فى تفاصيل الحدوتة التى يستمتع القارئ بشغف أحداثها المثيرة ما يلبث أن يكتشف المستوى الثانى للأبعاد الاجتماعية والسياسية والنفسية.. وصولًا إلى المستوى الثالث وهو البُعد الفلسفى الذى يمثل عند «نجيب محفوظ» ضالته المنشودة التى أمسَك بزمامها فى رحلته الإبداعية العظيمة كما نرى فى روايات «الطريق» و«اللص والكلاب» و«أولاد حارتنا» و«حضرة المحترم» و«الشحاذ».



وقد أسعدنى الحَظ فى تجسيد ذلك البُعد الفلسفى فى كتابتى السيناريو والحوار لمسلسل «حضرة المحترم» الذى قام ببطولته «أشرف عبدالباقى» و«سمية الخشاب» و«سوسن بدر» وأخرجه «سيد طنطاوى» وعُرض منذ عدة سنوات ولاقى استحسانًا من قِبَل النقاد والمتلقين وكان منتجه قد تعاقد معى لكتابته وهو يتصور أننى سأكتب عملًا فكاهيًا هزليًا ضاحكًا يصلح لأن يكون مسلسلًا رمضانيًا ترفيهيًا يمثل وجبة خفيفة لتسلية المُشاهد.. ولم يعلم أن الرواية ذات مضمون فلسفى عميق وتشمل معانى تتجلى فيها حكمة الموت وعبث الوجود.. وأظنه لو علم ذلك ما كان يتحمس لإنتاج المسلسل.. لكنى خدعته ووافقته على تصوّره ووعدته أننى سوف أُضحك الملايين من خلال سيناريو الحلقات الطريفة المُسلية المليئة بالمغامرات والقفشات والمواقف الفكاهية.. ذلك أنى كنت توّاقًا إلى كتابة سيناريو وحوار تلك الرواية البديعة محتفظًا بأبعادها الفلسفية والإنسانية العميقة.

المدهش فى الأمر أننى لم أخدع المنتج فقط ولكنى هذه المرّة - دون أن أقصد - خدعت أيضًا الرقيبة المسئولة عن إجازة المسلسل التى توقفت فى سيناريو الحلقات عند حدود البُعد الاجتماعى أو الدرس المستفاد من المحتوى الأخلاقى للعمل الذى لا يعدو أن يكون - من وجهة نظرها - متمثلًا فى أهمية مثابرة الفرد وكفاحه من أجل تحقيق آماله.. فمَن جَدَ وَجَد ومن زرع حصد.. ولم تنتبه إلى البُعد الفلسفى المتصل برحلة البطل فى بحثه عن الله واليقين ومعنى الوجود والعدم ولغز الموت وعبثية الحياة من خلال البطل الموظف البسيط الفقير,فهو ابن سائق كارو عانَى من شظف العيش وقسوته ويطمع فى أن يصير مديرًا عامّا للمصلحة الحكومية التى يعمل بها.. وهو منذ أن دخل الإدارة يتطلع إلى المثال القوى القابع وراء المكتب الفخم فى الحجرة الزرقاء المقدسة «حجرة المدير العام» ذلك الذى يحرك الإدارة كلها من وراء «بَرَفان» فى نظام دقيق وتتابُع كامل يُذَكر الغافل بالنظام الفلكى وبحكمة «السماوات» وتمثل درجة المدير العام لديه مقامًا مقدسًا فى الطريق الإلهى اللا نهائى.