الأحد 20 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. فلسفة «الهجرة» بين العقاد وريبيكا جولد ومصطفى محمود ميلاد «الإسلام الإيجابى»

الطريق الثالث.. فلسفة «الهجرة» بين العقاد وريبيكا جولد ومصطفى محمود ميلاد «الإسلام الإيجابى»

يقول أستاذنا عباس محمود العقاد (رحمه الله) فى كتابه الملهم «عبقرية محمد»: «إنما نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه وموافقًا أحواله وصفاته، فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل، أو إلى علة عوجاء يلتوى بها ذوو الأهواء، فهى أوضح شىء فهمًا لمن أحب أن يفهم، وهى أقوم شىء سبيلًا لمن استقام».



وهذا ما يجب أن يحكمنا، حتى فى حديثنا عن «الهجرة» والتى تمثل حجر الأساس لمنجز المشروع الإسلامى الذى تحقق واستمر طوال أكثر من 14 قرنًا من الزمان، تبلورت الفكرة واختمرت واختبرها النبى فى «هجرة الحبشة» قبل أن تكون «يثرب» هى الملاذ والمستقر، فأصبحت «مدينة منورة» بسطوع شمس نبينا محمد عليه أفضل صلاة وسلام وصحبه أبى بكر على أرضها بعد رحلة شاقة نجيا فيها من الهلاك، بفضل الله الذى سترهما وحفظهما فى الغار، ليصل النبى سالما إلى طيبة الطيبة بأهلها من «الأنصار»، ويشرق بين ربوعها فجر الإسلام، وتمسى «الهجرة» فعل البداية والخطوة الأولى لبناء دولة الإسلام.

ولا أدل على أهمية حدث «الهجرة» ومحوريته أكثر من اختياره لبدء التقويم الإسلامى (الهجرى)، الذى يحدد خارطة مواقيت العبادات الأساسية فى الإسلام ويرسم ملامح الحياة بالأيام والشهور والسنوات، وهو التقويم الذى أُنشئَ فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب وجعل من هجرة الرسول من مكة إلى المدينة فى 12 ربيع الأول (24 سبتمبر عام 622 ميلادى) مرجعاً لأول سنة فيه، وهو يرتكز فى الأساس على الميقات القمرى الذى أمر الله فى القرآن باتباعه وفق ما ذكر تفصيلا فى سورة التوبة.

والهجرة تمثل نموذجاً مثالياً لتأكيد حيوية الفكر الإسلامى وتفاعلية الثقافة المحمدية (الربانية) القائمة على المنهج الإيجابى، إن التعاليم الربانية التى نقلها جبريل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فى آيات من الذكر الحكيم وفى وحى مقدس ترجمت جميعها إلى عقائد وعبادات، يتفق مجملها فى تحفيز الإنسان المسلم على الحركة ومكافحة السكون والاستسلام. وفعل «الهجرة» يمثل ذروة التحرك الإيجابى للتحرر من الظلم والعذاب والاضطهاد، بهدف إنقاذ الدعوة الإسلامية وانطلاقها، فكانت هجرة النبى البداية الحقيقية للمشروع الإسلامى، إنها لحظة الخلاص من عبودية المكان وذل الموطن وأسر الامتلاك، لقد ترك الرسول وصحبه المسلمين وطنهم (مكة) وأهلهم وبيوتهم وأملاكهم، ليفروا بدعوتهم وينقذوا نبيهم ويحفظوا إسلامهم، ليحق عليهم وعد الله فى كتابه الحكيم: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(41)»، سورة النحل.

وقد تساءلت قبل سنوات الكاتبة والمترجمة الأمريكية ريبيكا روث جولد أستاذة الدراسات الإسلامية والأدب المقارن بجامعة برمنغهام، «كيف أفسد داعش مفهوم الهجرة؟»، وهو سؤال أظنه مشروعاً فى ظل الالتصاق (السلبى) بين داعش والإسلام فى النظرة الغربية، وتعرف ريبيكا الهجرة وفق نظرة أكثر شمولية وعمقًا، قائلة: «على مدار التاريخ الإسلامى، أصبحت الهجرة تمثل أكثر من مجرد حركة مادية؛ بل يُنظَر إليها على نطاق واسع باعتبارها وصية وأمر بخلق عالم أفضل فى الأراضى التى يحكمها المسلمون. وفى نظر الملايين من المسلمين، كانت الهجرة بمثابة الدليل الهادى للتعامل مع المأزق العام الذى يواجهه كل المؤمنين: كيف يكون المرء تقياً فى عالم أثيم. وفى أوضح صورها، تمثل الهجرة جسراً يردم الفجوة بين الكيفية التى يرغب المؤمنون أن تكون حياتهم عليها والكيفية التى يعيشون عليها فى الواقع».

وترى الباحثة الأمريكية أن إخراج المسلمين من أسبانيا ومحيطها، بعد سقوط الخلافة فى الأندلس، كانت نقطة تحول فى مفهوم الهجرة لدى المسلمين، حيث اكتسب معنى أكثر عنفاً، وهو ما عجل بارتباطه بالجهاد فى وقت لاحق، والباعث على ذلك قسوة الدول الأوربية واستخدامها شعار: إما أن ترحلوا أو تُذبحوا، ثم فى العصر الحديث أصبحت الهجرة تمثل الحركة الدائمة بين الذكرى والنسيان. وهذا هو ما يفعله المسلمون بعد أن تم تجريدهم من أوطانهم -كما حدث مع الفلسطينيين والشيشان، وبعمق فلسفى تصف ريبيكا رؤيتها للهجرة قائلة: «وأينما وكلما ظهرت فى التاريخ الإسلامى قصص اليأس والخسارة، يبرز مفهوم الهجرة باعتباره الطريق إلى الشجاعة والنصر الروحى. ويمثل هذا بداية أصل القصة، وتوثيقاً للجرح النفسى العاطفى».

وتختم ريبيكا موضحة: «فى ظل تنظيم داعش، اكتسب مفهوم الهجرة دلالة تدفع بها بعيداً عن معانيها السابقة. فتنظيم «الدولة الإسلامية» لا يستطيع أن يفهم الهجرة إلا بوصفها هجرة مادية لغرض الجهاد، فتحولت الهجرة إلى دعوة لحمل السلاح من شكل جديد مفتعل ذاتياً من الخلافة، وتتجاوز الهجرة بأشواط فلسفتهم، والواقع أن المغزى الأصلى للكلمة، كما أدركته جماعة المسلمين الأوائل الذين اضطروا إلى الهجرة، ليس لشن حرب بل من أجل العيش فى سلام».

وفى إحدى حلقات برنامجه الشهير (العلم والإيمان)، والتى خصصها للحديث عن «الهجرة»، يقول الدكتور مصطفى محمود (رحمه الله): «الهجرة حياة.. ومغالبة للطبع وكبح لنوازع الكسل والاستسلام.. وهبة روحية مضادة للقصور الذاتى المادى للإنسان.. ثورة على المألوف.. الهجرة بالنسبة للإسلام نقلة من حال إلى حال.. فقد كان قبل الهجرة «إسلام سلبى» خلال 13 سنة، وبعد الهجرة تحول إلى الضد فأصبح موقفه إيجابيًا من الباطل، فإذا حورب يحارب.. وإذا جوبه بالقوة يصد بقوة أكبر.. وبعد الهجرة بدأ عصر الغزوات ثم الفتوحات.. فكانت الهجرة هى بداية إرادة التغيير».

ونختم من حيث بدأنا من عند العقاد، صاحب العبقريات الخالدة، ودرتها كتاب «عبقرية محمد»، وفصله الأخير «محمد فى التاريخ»، حيث يقول الأستاذ عن الهجرة أو (يوم الغار): «هو أجمل أيام محمد، لأنه أدل الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، وهو يوم التقويم الذى اختاره المسلمون بإلهام لا يعلوه تفكير ولا تعليم. لمَ كان يوم الهجرة ابتداء التاريخ فى الإسلام، ولم يكن يوم الدعوة؟ ولِمَ لم يكن يوم بدر أو يوم ولادة النبى أو يوم حجة الوداع يوم ابتداء التاريخ؟ 

.. كل يوم من هذه الأيام كان فى ظاهر الرأى وعاجل النظر أولى بالتأريخ والتمجيد من يوم الفرار بالنفس والعقيدة فى جنح الظلام. فالرجل الذى اختار يوم الهجرة بدءًا لتاريخ الإسلام قد كان أحكم وأعلم بالعقيدة والإيمان ومواقف الخلود من كل مؤرخ وكل مفكر يرى غير ما رآه. لأن العقائد إنما تقاس بالشدائد».

تختصر الهجرة دروسًا وعظات كثيرة، نسترجعها لعلها تنفع وتدفع إلى التغيير الإيجابى، فالهجرة سنة كونية ضربها الله لنا كى تحفزنا لرفض الاستسلام للظلم أو الهزيمة أو الفشل، وإنه إذا ضاقت بنا السبل يجب أن تهب أرواحنا وتسحبنا إلى فضاءات جديدة وتجارب مختلفة ربما نحصد ما لا نتوقع، وتتبدل مصائرنا نحو الأفضل.