
هاني لبيب
مصر أولا.. أفكار تشارلى كيرك وصفقات دونالد ترامب..
المسيحية الصهيونية اللاهوت يتحول إلى سلاح سياسى!
فى مشهد عبثى بالدرجة الأولى.. لا يخلو من الكوميديا السوداء، يقف شاب مسيحى فلسطينى أمام تشارلى كيرك (أحد رموز اليمين الدينى الأمريكى) ليؤكد عليه بأن المسيحيين عليهم أن يحبوا البشر جميعاً، وليس فئة بعينها، ليرد كيرك عليه بإصرار مبالغ فيه أنه من الواجب على المسيحيين «محبة اليهود بشكل خاص».
وبعد أيام، تعرض كيرك للاغتيال، ورثاه بنيامين نتنياهو «رئيس وزراء إسرائيل» بصفته الصديق الشجاع لإسرائيل.. فى إشارة لكونه مدافعاً عن الحضارة الصهيونية - المسيحية.
الدين يتحول إلى دبابة..
بغض النظر عن مدى دقة الرواية السابقة، يجب التوقف هنا فى مشهد مضمون تلك الفكرة الخطيرة، والتى يتم فيها اختطاف العهد القديم من الكتاب المقدس.. ليتحول مضمونه الأخلاقى والقيمى فى استغلال واضح لصالح تحقيق فكرة «إسرائيل الكبرى» من جهة، ومسيح منتظر.. ليس كرسالة خلاص بل كأداة سياسية من جهة أخرى.
فهل نحن فعلاً أمام حضارة صهيونية - مسيحية، أم أمام كذبة أيديولوجية صنعتها المصالح ليتحول الدين فيها إلى دبابة؟!
لم يكن نتنياهو يرثى شخصاً بقدر ما كان يعلن – صراحة وبلا مواربة – عن عمق الارتباط بين المشروع الصهيونى فى إسرائيل وبين تيار دينى – سياسى قوى فى الولايات المتحدة الأمريكية.. هو «المسيحية الصهيونية».
ولعل المشهد بحد ذاته يلخص مأساة كبرى فيما يحدث من تأويل لآيات العهد القديم وتوظيفها لتبرير الحرب والاستيطان.. باعتبارها أوامر إلهية تمنح الشرعية للسياسات الاستعمارية، وهو طرح يتجاهل أن جوهر المسيحية هو «المحبة» و«التسامح» التى ترتبط بكرامة واحترام كل إنسان دون أى استثناء بسبب انتمائه العرقى أو هويته الدينية أو مكانته الحضارية.
ما يستحق التوقف أمامه، هو رد الشاب المسيحى الفلسطينى الذى اختزل الرد فى عبارة بليغة هى «المسيحيون يجب أن يقدروا كل الناس ويحبوا البشر جميعاً».. فى إشارة واضحة بعدم التمييز والإقصاء والاستبعاد لأى إنسان.
جملة صغيرة وبسيطة.. لكنها تفضح حالة تزييف المبدأ كله، فما يتم تقديمه باعتبار أن «تحالف الحضارات» ليس سوى تحالف للمصالح، وما يوصف بأنه «قدر إلهى» ليس سوى قراءة متطرفة لنصوص دينية من العهد القديم.. تم تحويلها إلى دستور سياسى لتبرير الاستعمار والاستيطان والإبادة.
المسيحية الصهيونية..
بداية، المسيحية الصهيونية ليست مذهباً مسيحياً تقليدياً، ولا هى تيار فكرى لاهوتى له جذور راسخة فى تاريخ الكنائس الكبرى وعقيدتها، بل هى قراءة أصولية خرجت من رحم البروتستانتية فى القرن التاسع عشر، وتحديداً عبر العالم اللاهوتى القس جون داربى (الإيرلندى الجنسية)، والمعروف عنه أنه صاحب «المدرسة التدبيرية»، والتى تعتمد على التفسير الحرفى لسفر «رؤيا يوحنا اللاهوتى» بالعهد الجديد لربطه ببعض نصوص العهد القديم.. رغم أن دارسى الكتاب المقدس وعلمائه يعلمون جيداً أن هذا السفر هو من أكثر أسفار العهد الجديد رمزية.
ضمن أهم المقولات للقس جون داربى أن «معركة هرمجدون ليست مجازاً بل حرب حقيقية ستقع فى فلسطين، وعلى اليهود أن يعودوا إلى هناك حتى تقوم الساعة».
هذه القراءة، التى رفضتها الكنائس الرسولية الكبرى على غرار الكنيسة الأرثوذكسية المصرية والكنيسة الكاثوليكية «الفاتيكان» باعتبار تلك الأفكار انحرافاً عن العقيدة.
وقد وجدت تلك الأفكار.. أرضاً خصبة فى الولايات المتحدة بعد اكتشافها بعدة قرون لكونها بدأت كمجتمع زراعى، وأمى نسبياً، ومهووس بالأساطير، ويبحث عن هوية كونية فى أرض جديدة.. وصفها البعض بأنها الجنة والأرض المختارة.
وحتى يكتمل مشهد تكوين المسيحية الصهيونية، نذكر دور سى. أى. سكوفيلد (تلميذ القس جون داربى) الذى نشر ما يعرف بـ «الكتاب المقدس المرجعى لسكوفيلد»، والذى تميز بوجود أفكار وهوامش تتطابق مع أفكار القس داربى.
وهو ما رسخ تفسيرا واحدا منتشرا عند غالبية الشعب الأمريكى عبر الأجيال المتعاقبة بأن دعم اليهود وعودتهم إلى فلسطين أمر إلهى، بل هو شرط لخلاصهم فى طريق السماء، ومن هنا بدأت الحكاية.
من هامش الدين إلى سطور السياسة..
ترتب على ما سبق، أن ما بدأ فى البداية كوعظ دينى.. سرعان ما تحول سريعاً إلى عقيدة سياسية. ومع بدايات القرن العشرين، أدركت الحركة الصهيونية الناشئة أن هذه الأساطير ستكون كنزاً سياسياً كبيراً، والدعم لم يعد يقوم على حجج «التاريخ» أو «المظلومية اليهودية» فحسب، بل بات جزءاً من عقيدة دينية عند شريحة كبيرة جداً من الشعب الأمريكى.
وعلى سبيل المثال للدلالة، نجد شخصيات مثل القس وليم بلاكستون الذى أسس «البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل»، حتى قبل قيام دولة إسرائيل. والرئيس الأمريكى الأسبق وودرو ويلسون (ابن قس بروتستانتى)، وكان متأثراً بهذه الأفكار.
وفى سنة 1942 تأسست «الرابطة الإنجيلية الوطنية» فى مؤتمر سانت لويس لتشمل آلاف الكنائس البروتستانتية الأصولية تحت مظلة واحدة. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد المسيحية الصهيونية مجرد تيار دينى، بل لوبى قوى استهدف أن يكون جماعة ضغط سياسى متكامل.
وخلال سنوات قليلة، تحول هذا اللوبى إلى كتلة انتخابية هائلة لا يستطيع أى رئيس أمريكى أن يتجاهلها، وهكذا صار التحالف أوضح بعد أن نجح اللوبى اليهودى فى واشنطن مع حليف أصولى من اليمين المسيحى المتشدد.
عقيدة سياسية..
لم ينف الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان إيمانه بمعركة هرمجدون، بل صرح فى أحد حواراته: (قد نكون الجيل الذى سيرى نهاية الزمان).
أما جورج بوش (الابن) فقد ذهب أبعد من ذلك بكثير، وبرر حربه على العراق بمنطق لاهوتى حيث تحدث عن «محور الشر» فى خطاب أقرب إلى وعظ كنسى منه إلى سياسة خارجية.
وأخيراً، جاء دونالد ترامب، الذى قدم نفسه باعتباره «المخلص» الذى ينفذ مشيئة الله بدعم إسرائيل بلا حدود، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترف بالجولان المحتل، ورعى اتفاقات التطبيع، وتبنى نشر «اتفاقات إبراهام»، لم يفعل ذلك تودداً وحباً فى اليهود، بقدر ما هو استرضاء لقاعدته الإنجيلية التى ترى فى إسرائيل بوابة السماء.
وهكذا، لم تعد المسيحية الصهيونية مجرد تيار على الهامش، بل تحولت إلى عقيدة دولة تحدد السياسات الخارجية والداخلية على السواء.
ويكفى أن نلحظ أن أى سياسى أمريكى يجرؤ على انتقاد إسرائيل.. يعلم مسبقاً بأنه اتخذ قراراً بالانتحار السياسى، وهو أمر لا يرتبط فقط بقوة اللوبى اليهودى وحده، بل لأن ملايين الناخبين يرون فى دعم إسرائيل.. وصية إلهية.
الرهان على الوهم..
قطعاً، فإن بنيامين نتنياهو أذكى من أن يترك هذا التيار دون استثمار، الرجل يعرف أن مستقبله السياسى، بل وجود إسرائيل ذاته، مرتبط بالتحالف مع المسيحية الصهيونية، لذلك، لا يتردد فى الحديث عن «الحضارة الصهيونية – المسيحية».. رغم أن التاريخ يكذب هذه العبارة تماماً.
ولا ننسى أن الكنيسة الكاثوليكية قد اضطهدت اليهود فى أوروبا لقرون طويلة، واستهدفتهم بعقد محاكم التفتيش لهم.
يدرك نتنياهو أن الكلمات تصنع واقعاً، وأن تكرار كلمات «الحضارة الصهيونية –المسيحية».. قد تتحول تدريجياً إلى حقيقة سياسية، حتى لو كانت وهماً تاريخياً، المشكلة الحقيقية أن قطاعاً واسعاً من الشعب الأمريكى يصدق هذا الوهم، ويربط بين طريق السماء وبين بقاء إسرائيل.
حضارة افتراضية..
لم يكن هناك على مر التاريخ.. حضارة صهيونية – مسيحية، والتاريخ يؤكد ذلك، بل ويجيب بالنفى القاطع.
لم يعرف تاريخ أوروبا شيئاً بهذا الاسم. والواقع يؤكد أن ما حدث هو أن البروتستانتية اللامركزية، المفتقدة لسلطة لاهوتية موحدة، سمحت بانحرافات فردية صارت مع مرور الوقت لتيارات مؤثرة، ومن خلال هذه الثغرة، تسربت الصهيونية إلى داخل مركز العقيدة المسيحية الأمريكية.
يكرر الإعلام الغربى هذه الأيام مصطلح «الحضارة الصهيونية – المسيحية».. كأنه حقيقة تاريخية، رغم أنه كمصطلح لم يظهر إلا فى منتصف القرن العشرين، واستخدم سياسياً لتبرير تحالف ضد «الخطر الإسلامى» فى سياق الحرب الباردة، ثم ضد الإرهاب بعد 11 سبتمبر، نحن إذن أمام صناعة سياسية.. ترتدى عباءة لاهوتية مسيحية.
إسرائيل صندوق اقتراع..
معرفة وفهم قوة المسيحية الصهيونية.. تتجلى فى تفاصيل الخريطة الانتخابية للولايات المتحدة الأمريكية، نجد الولايات الجنوبية والريفية مليئة بالكنائس الإنجيلية، هذه الولايات حاسمة فى أى انتخابات رئاسية.
وبما أن هذه الكنائس تعلم أتباعها أن إسرائيل هى «أرض الموعد»، فإن أى مرشح يتجرأ على معارضة تل أبيب يخسر أصوات ملايين الناخبين.
وهكذا، تحولت إسرائيل إلى مؤثر ثابت قوى فى الحملات الانتخابية، ويتنافس كل مرشح لإثبات ولائه لها أكثر من الآخر. ليس حباً فى اليهود، بل طمعاً فى أصوات المسيحيين، والنتيجة أن القضية الفلسطينية تباع مع كل انتخابات مقابل أصوات صندوق الاقتراع.
المسيحيون العرب..
كتبت كثيراً محذراً، أن وسط هذا المشهد المعقد، يغيب الصوت المسيحى العربى عمدًا، المواطن المسيحى الفلسطينى.. الذى يرى بيته يهدم وأرضه تسرق، يجد نفسه متهماً بخيانة دينه لأنه لا يؤمن بالأساطير البروتستانتية.. بينما الحقيقة أن المسيحية الشرقية.. لا تعترف بهذه القراءة أصلاً.
المواطن المسيحى الفلسطينى هو الشاهد الأكبر على تزييف الخطاب الصهيونى – المسيحى. فوجوده ذاته يفند الشائعة القائلة بأن فلسطين «أرض بلا شعب»، لكنه يهمش فى الإعلام الغربى، لأن الاعتراف به يسقط قناع التحالف كله.
من الإنجيل إلى هوليوود..
لا يمكن تجاهل الدور الإعلامى فى نشر هذه الأفكار، تنفق القنوات الإنجيلية فى أمريكا.. مليارات الدولارات على برامج تبشر بالنهاية، وعلى أفلام هوليوود التى تجسد هرمجدون على الشاشة.. كحقيقة قادمة.
هذا الشكل يسهم فى التأثير على الوعى الجماعى الذى يرى فى إسرائيل مفتاح السماء، ويشيطن الفلسطينى كعدو لله.
الإعلام هنا لا ينقل واقعاً، بل يصنعه، ومعه تتحول الأسطورة إلى سياسة، والسياسة إلى حرب مستمرة طويلة الأمد.
نقطة ومن أول السطر..
حين يتكرر الوهم بما يكفى، يصبح حقيقة فى عقول الملايين، وهنا تكمن خطورة المسيحية الصهيونية.
هى ليست فقط دعماً لإسرائيل، بل هى إعادة تشكيل الوعى الدينى والسياسى لجعل الاحتلال والاستيطان نفسه يبدو جزءاً من خطة السماء الافتراضية.
المسيحية الصهيونية ليست عقيدة إيمانية بقدر ما هى وسيلة سياسية، نتنياهو يعرف ذلك، واليمين الأمريكى يعرف ذلك، والنتيجة أن فلسطين تسحق يومياً تحت جنازير دبابات.. لا تعرف الإنسانية، ونحن لا نعرف، وإذا عرفنا.. لا ندرك، وعندما ندرك.. يكون الوقت قد مضى.