الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
بلا عودة

بلا عودة

لازمتنى تلك البيضاء الملفوفة الملعونة أكثر من ثلاثين عامًا دون أن أتجاسَر على فراقها أو مجرد خصامها خصامًا عابرًا.. وكنت لا أقوَى على إكمال كتابة سيناريو وحوار لمشهد درامى لمسلسل أو فيلم سينمائى، أو إتمام كتابة مقال نقدى دون أن أنفث دخانها فى ارتباط شرطى أتوهمه بين سحرها الجذاب وبين حالة الإبداع.. متصورًا فى سذاجة أن التوتر الانفعالى الذى يحدثه عناقها الجميل يتوحّد فى انسجام هارمونى وتماهى فنّى مع لحظات الإلهام المتوهجة.. إلى أن دعتنى الفنانة الجميلة الراحلة «دلال عبدالعزيز» لمشاهدة مـسـرحـيـة (الأم شجـاعـة) تألـيف «بريخت» التى تقوم ببطولتها على خشبة مسرح الهناجر بالأوبرا.



«دلال»- رحمها الله- كانت فنانة قديرة وموهبة فياضة أسعدنى أن يجمعنى بها الكثير من الأعمال الدرامية التى كتبت لها السيناريو والحوار وجسّدتها من خلال أدوار لا تنسى مثل (دموع صاحبة الجلالة) و(لا» و(ست الحسن) و(الأب) و(الكلام المباح).

جلست فى الصف الأول أتابع بشغف العرض المسرحى القائم على مونولوجات طويلة تؤديها «دلال» ببراعة لافتة.. ورُغْمَ أن «بريخت» صاحب المسرح المَلحمى يَفرض على الممثل فى منهجه الفنّى أن يضع حاجزًا بينه وبين المتفرج يمنع تقمصه واندماجه فى الشخصية التى يؤديها فى أبعادها الاجتماعية والنفسية والإنسانية.. أى يحرمه من «متعة» الاندماج والتمثيل والتشخيص.. أى يلغى أهميته وقيمته ووجوده انتصارًا للمعنَى والمضمون والرسالة التى يقدمها العمل الفنى.. إلا أن «دلال» أجادت وأفلتت من قبضته.. فقد ضبطها متلبسة بالتجسيد والتشخيص والتقمص والتمثيل رُغْمَ أنف «بريخت» وتبنيًا لمَدرسة «آيزنشتاين» فى الأداء التمثيلى.

فجأة انتابتنى موجة من السعال العنيف المتواصل.. واحتقن وجهى بضيق حاد فى التنفس والإحساس بالاختناق.. فقمت مهرولًا إلى خارج القاعة وبقيت خارجها حتى هدأتُ.. وعدت أواصل متابعة العرض.. دقائق وعاودتنى موجة أخرى من ذلك السعال اللعين.. فهرولت مرة أخرى خارجًا.. معانيًا من إحساس قاهر بالخجل لشعورى بأنى أحدثت إزعاجًا للحاضرين وتشويشًا على استغراقهم فى المتابعة.

وعدتُ والإحساس بالذنب يتملكنى مصحوبًا بوساوس قهرية حادة تجاه الفنانة الصديقة التى وجهتْ لى دعوتها الكريمة بحضور العرض.. فإذا بى وكأنى أتآمر عليها وأسعى إلى إفساد العرض بسعالى المتواصل.. مقررًا فى لحظة حاسمة وفارقة ومصيرية أن أتخلص من إغواء تلك العشيقة المارقة الغادرة «السيجارة الملعونة».. أن أودّعها وداعًا نهائيًا لا رجعة فيه.. ابتداءً من الغد..

وهكذا تخلصتُ من سيطرتها الباغية وانتصرتُ لإرادتى التى تداعتْ.. وذلك بفضل الأخ «بريخت» و«دلال عبدالعزيز».