الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
70 سنة ثورة يوليو.. الأب الشرعى للطبقة الوسطى

70 سنة ثورة يوليو.. الأب الشرعى للطبقة الوسطى

تمر علينا هذه الأيام الذكرى السبعون لثورة 23 يوليو 1952 المجيدة، تلك الثورة التى لم تغير فقط وجه الحياة فى مصر، بل فى الوطن العربى وإفريقيا وامتدت تأثيراتها إلى آسيا وأمريكا اللاتينية.



تكمن عبقرية ثورة 23 يوليو فى أنها فطنت مبكراً إلى جوهر التنمية الحقيقية المتمثل فى الثروة البشرية، فأدركت أن قيام طبقة وسطى مثقفة ناهضة هو بمثابة رمانة ميزان استقرار وتقدم المجتمع، ونجحت بالفعل فى تحويل مجتمع إقطاعى يسيطر على 90 % من ثروات ومقدرات الدولة ويهيمن على صناعة القرار، إلى مجتمع تشاركى انتهت فيه العبودية وبزغت خلاله طبقة جديدة خرجت من وحل الفقر مسلحة بالعلم والثقافة والتنوير، ليتبوأ أبناء الفقراء أرفع المناصب فأصبحوا وزراء وسفراء وقضاة.

 

حتى ندرك الفارق الكبير الذى صنعته ثورة 23 يوليو وكيف خلقت الطبقة الوسطى وانتشلت الملايين من حالة الفقر المدقع أعود إلى ما كتبه المؤرخ الراحل الكبير د. يونان لبيب رزق فى 9 أغسطس عام 2007 فى دراسة منشورة بجريدة الأهرام بعنوان «مقاومة الحفاء فى مصر».. قال فيها: «إن المصريين قبل 1952 كانوا شعبًا من الحفاة.. وأن الفلاح المصرى لم يعرف ارتداء الحذاء، إلا عندما كان يتم تجنيده فى الجيش المصرى! حيث إنه لم يكن ممكنًا أن يخوض الجيش حروبه بجنود من الحفاة.. وأنه بعد انتهاء تجنيده، كان الجندى يسلم «الجزمة الميرى» باعتبارها عهدة.. ثم يعود حافيًا إلى قريته مثلما جاء منها حافيًا! لكن الميسورين من أهالى الريف فقد كانوا يرتدون «البلغة».. وكان الفلاحون يذهبون إلى حقولهم شبه عراة.. وكان سكان المدن يسترون أجسادهم بالكاد بملابس مهلهلة.. وعندما أصبح حسين سرى باشا رئيسًا للوزراء، فقد تبنى مشروعًا قوميًا لمقاومة الحفاء.. وتعهد فى خطاب العرش بأن يرتدى المصريون النعال فى أقدامهم مثل الدول المتقدمة! وفى 2مارس 1941 أعلنت الأهرام عن تكوين لجنة مركزية برئاسة عبدالخالق بك حسونة، لوضع الخطط التفصيلية لشكل الحذاء المنتظر.. وأطلقوا عليه اسم «الزنوبة».. وتقرر أن يتم توزيع الدفعة الأولى من «الزنوبة» على تلاميذ وزارة المعارف فى يوم عيد جلوس الملك.. ولكن لم يتحقق أى شىء مما وعد به رئيس الوزراء حسين سرى باشا.. وظل الشعب المصرى يمشى حافيًا فى الشوارع! وفى عام 1950 عندما تولى النحاس باشا رئاسة الوزراء، فقد أعلن هو أيضًا فى خطاب العرش، عن مشروع قومى ضخم لمقاومة الحفاء! وقد علق على ذلك الدكتور محمد عوض بمقال ساخر فى جريدة الزمان بعنوان:  «يا ابن الحافية».

ما كتبه المؤرخ الراحل الدكتور يونان لبيب رزق، غيض من فيض، ونذر يسير عن حالة الشعب المصرى الذى عانى من نظام إقطاعى، ابتلع تماماً الطبقة الوسطى التى باتت محصورة فى فئة محدودة من الموظفين ومعظمهم من حملة الشهادات دون الثانوى، إذ يؤكد المؤرخ الراحل 

د.رءوف عباس فى دراسة بعنوان «الحركة الوطنية فى مصر 1952-1918»، «أن نسبة الأمية بين المصريين تجاوزت 90 %.. وأكثر من 70 % كانوا مصابين بالبلهارسيا.. ونسبة المعدمين فى الريف عام 1937 كانت 76 % ارتفعت إلى 85 % عام 1952، وأن أفلام ذلك الزمان ركزت على جمال ونظافة الشوارع والعمارات الفخمة.. ولكنها كانت بعض شوارع القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية التى كانت حكرًا على الباشوات والجاليات الأجنبية فقط».

فى المقابل فإنه إذا نظرنا لإنجازات ثورة يوليو، وما أكثرها! نجدها تصب جميعاً فى اتجاه رئيسى واحد، وهو تأصيل وترسيخ وتوسيع دائرة الطبقة الوسطى الجديدة التى خرجت من رحم الثورة وكانت حصانها الأسود فى الرهان على دوران عجلة التنمية، فللمرة الأولى بعد سنوات طويلة من الحرمان تمكن الفلاح من امتلاك أرضه التى صودرت منه ضمن مشروع محمد على باشا، ثم أعيد توزيعها كإقطاعيات على الأعيان بعد فشل المشروع العلوى الإمبراطورى.

كما أدركت الثورة أن بقاء وديمومة هذه الطبقة الوسطى، مرهون بثلاثة عناصر أساسية، هى: التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية (تكافؤ الفرص)؛ فأقرت مجانية التعليم العام وأضافت مجانية التعليم العالى، وأنشأت عشر جامعات توزعت على مختلف الأقاليم بما يعكس ديمقراطية وعدالة الحق فى التعليم، كما أنشأت الوحدات الصحية الريفية، التى قدمت خدماتها المجانية لفئات كبيرة ظلت محرومة من أبسط الحقوق الصحية، ورسخت مبادئ تكافؤ الفرص فى التعليم وتولى المناصب.

حملت ثورة يوليو هموم وأوجاع الفلاحين والطبقات الفقيرة والعمال الكادحين، لتشهد مصر بناء مئات قلاع الصناعة التى أدارتها الأيادى المصرية، فتضاعف الإنتاج وارتفعت معه مستويات المعيشة.

كما أنهت احتكار العاصمة للثقافة، فتوزعت المنارات الثقافية فى مختلف الأقاليم والمحافظات، من خلال قصور الثقافة التى تحولت إلى نبع ينهل منه أبناء تلك المناطق المحرومة، لتصبح حاضنات لتخريج العديد من المبدعين الذين أثروا الحياة الثقافية.

وزادت الرقعة الزراعية فى عهد الثورة عن طريق استصلاح الأراضى الصحراوية ولعل مشروع مديرية التحرير خير دليل، كما أن السد العالى الإنجاز الأعظم فى تاريخ مصر خلال القرن العشرين، لم يوفر فقط لمصر الطاقة الكهربائية، بل حماها أيضاً من موجات جفاف متلاحقة أصابت القارة السمراء، وفوق كل ذلك ضاعف من استغلال الرقعة الزراعية، هذا السد العظيم الذى لاقى افتراءات مسمومة لا لشىء سوى كراهية البعض للزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر، ولم يقدم أحد ممن هاجموا هذا الإنجاز التاريخى الاعتذار عن إساءاتهم إليه ولثورة يوليو بعدما أثبت التاريخ أن هذا السد حمى مصر من مجاعات فتكت بالكثير من شعوب القارة ومنها دول المنبع نفسه. 

رغم كل ما أنجزته ثورة يوليو العظيمة، فإنها نالت تشويهاً متعمداً ومتواصلاً على مدار عقود لم تنله أى ثورة فى العالم، فتكالبت عليها قوى مختلفة ما بين شراذم جماعة الإخوان الإرهابية، وبقايا الإقطاع، وخصوم سياسيين، ناهينا عن المتسلقين الذين استفادوا من منجزات الثورة وأول شىء فعلوه هو مهاجمتها.

فهل يمكن أن تحدث كل هذه المنجزات المتمثلة فى مئات المصانع العملاقة، والمدارس والجامعات والمستشفيات، وفوق كل ذلك النهضة الثقافية التى لا نزال نعيش على بقاياها حتى الآن، أقول هل يمكن أن يحدث كل هذا إلا من ثورة عظيمة ومجيدة؟!

آن الآوان بعد مرور 70 عاماً على قيام ثورة يوليو أن يعاد إليها اعتبارها، مع الاعتراف بأنها قبل أى شىء عمل بشرى لا بد أن يشوبه بعض الأخطاء، بل حتى السقطات، لكن هناك من يركزون على تلك الأخطاء وتضخيمها واستخدامها وسيلة لتشويه ثورة حقيقية غيرت وجه التاريخ، لذا لا بد من إعادة تعريف الأجيال الجديدة بحقيقة هذه الثورة العظيمة، فهى تراث إنسانى وحدث تاريخى عظيم يجب أن ينال قدره المستحق من التكريم.