الطريق الثالث.. إعادة قراءة «سلامة موسى» على خُطى «نجيب محفوظ» العلم أساس المُلك.. وبصيرته الصحافة
إن امتلاك مهارة «التفكير الناقد»، والتمرد على «مسيرة القطيع»، والقدرة على الابتكار والإبداع والتميز، تمثل أبرز احتياجات إعادة ترتيب أوراق العقل المصرى المعاصر، الذى بعثرته التكنولوچيا الحديثة وطمست فيه القدرات الفردية لصالح هيمنة تيارات التأثير الجمعى، وبات من الصعب أن تجد من يفكر خارج الصندوق، أو يغرد خارج السرب، أو كما وصف نزار قبانى «يبحر عكس التيار»، وأرى أن يحدث هذا الترتيب العقلى فى سياق علمى حضارى لا يغيب عن العصر؛ بل يتفاعل معه ويجيد استخدام أدواته، بما يخدم الإنسانية.
وقد ساق لى القدرُ مصادفة، اسمَ المفكر الكبير الراحل الأستاذ سلامة موسى (1887: 1958)، فقررت أن أستعين به لعله يرشدنا إلى أول الطريق نحو استعادة مَجد الإنسان الفرد، المفكر، المُجدد، المُتمرد، فهو من أهم المؤثِّرين فى الفكر العربى والمصرى فى القرن العشرين، ويُعد من رموز عصر النهضة التى مهدت الأرضَ لقيام الثورة المصرية العظيمة، ثورة 1919، وتزامنت معها وأثمرت بفعلها مشروعها التنويرى الكبير، وخلقت جيلًا عظيمًا من أهم المفكرين والكُتّاب والأدباء ورجال السياسة والاقتصاد، ورُغْمَ أن عقلى الناقد اليوم يرى شططًا فى بعض أفكاره، لكن هذا لم يمنعنى أبدًا من أن أستمتع بالاختلاف معه أحيانًا والصدمة فى أحيان أخرى من بعض آرائه.
وقد حدث أنه قبل أيام، كنت فى صحبة طيبة مع كتاب زميلنا الصحفى محمد شعير «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة»، وهى قراءة تأخرت لكتاب أظنه من أهم الكتب التى أبحرت فى تاريخ الرواية الأكثر جدلًا فى حياة محفوظ، وفى سيرته أيضًا، والكتاب صدرت طبعته الأولى قبل أربع سنوات عام 2018 عن دار العين للنشر.
وفى ختام أحد فصول كتابه المهم، الذى جاء بعنوان (الأصل البعيد)، يقول شعير: كان سلامة موسى هو الأب الروحى لنجيب محفوظ، القارئ الأول لأعماله الأولى، مرشده أيضًا لما ينبغى أن يقرأ، ثلاثية محفوظ تكشف ذلك بجلاء، وأيضًا حواراته المتناثرة: «وجّهنى سلامة موسى إلى أمرَيْن مهمَّيْن هما العِلْم والاشتراكية ومنذ دخلا مُخى لم يخرجا منه إلى الآن»، «كان أكبر مبشر فى جيلنا بالعدالة الاجتماعية وبالعِلْم وبالرؤية العصرية، وبقدر تطرفه فى الدعوة للعلم والصناعة وحرية المرأة؛ كان فى الجانب السياسى معتدلًا فلم يجنح إلى الديكتاتورية، لذلك أعتبره الأب الروحى للاشتراكية والديمقراطية».
واحتفظ «محفوظ» بتلك الأفكار كما يؤكد صاحب كتاب «الرواية المحرمة»، موضحًا أنه كان مشغولًا بالفعل بدور العلم فى حياة البشر وتقدمهم. حتى إنه قبل شهر على نشر «أولاد حارتنا» عام 1958، سأله محرر من مجلة «الإذاعة والتليفزيون» عن حكمته التى التقطها من الحياة، فأجاب «محفوظ» على الفور: «العِلْم أساس المُلك».
أعادنى حديث أديبنا الراحل عميد الرواية العربية الأستاذ نجيب محفوظ، عن أستاذه الأبرز سلامة موسى الذى بقى يجله ويحترمه إلى آخر عمره، إلى عالم هذا المفكر وكتبه المهمة، أجدّد علاقتى به؛ فلقد أثرى رحلتى الثقافية والفكرية، بعد أن تعرّفت عليه بفضل إصدارات «مكتبة الأسرة»؛ فقد كان من أوائل ما نشرته «سلسلة التنوير» فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، وضمت أعمال سلامة موسى وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم والإمام محمد عبده وفرح أنطون وجمال الأفغانى وشبلى شميل، وكانت أسعار الكتب تناسب عشاق القراءة (الغلابة) فى زماننا؛ حيث إنه لم يكن للقراءة سبيل، سوى الكتاب المطبوع.
وسلامة موسى هو أول مَن دعا إلى الاشتراكية فى الوطن العربى، وقد أتاحت له إقامته فى فرنسا(1906: 1909) أن يتعرف على رموز الفكر والفلسفة فى أوروبا، قبل أن ينتقل إلى إنجلترا لدراسة القانون، وينضمَّ إلى الجمعية الاشتراكية، وفيها تعرَّف على المفكر الكبير «چورج برنارد شو»، ولموسى أكثر من أربعين كتابًا، من أهمها: «أحاديث الشباب»، و«أحلام الفلاسفة»، و«الاشتراكية»، و«المرأة ليست لعبة»، و«حرية الفكر»، و«مصر أصل الحضارة»، و«نظرية التطور وأصل الإنسان»، و«هؤلاء علَّمونى»، وقد أتاحت مؤسّسة «هنداوى» بعضها إلكترونيًا فى نسخة محدثة، يمكن لمن يرغب الاطلاع عليها وتحميلها مجانًا.
وقد توقفت كثيرًا أمام كتاب «الصحافة حرفة ورسالة» من بين كتب الأستاذ سلامة موسى، ربما لأنى لم ألمحه أبدًا فى كل مراجعاتى السابقة لكتبه وعناوينها التى قرأت بعضها فى نسخ ورقية، وربما لأن العنوان نكأ جرحًا فى نفسى، بالحديث عن مهنتنا الغالية التى كنا نحلم بها (حرفة ورسالة)، حتى وصلنا إلى حالها المحزن والمخزى بعد أن اجتمع عليها الماضى والحاضر، وأصبح ينتظرها مستقبل مجهول.
ويقول «موسى» فى أحد فصول كتابه المنشور بعد وفاته فى عام 1963: «كانت الصحافة مهنة محتقرة، كما كانت أيضًا فقيرة»، ويكمل: «وكان موقف العداء الذى كانت تقفه الحكومات الاستبدادية يحرم المشتغلين فيها أى ضمان من الإقالة أو حرمان من المكافأة، وكان هناك من أصحاب الصحف استغلاليون»، ويختم موضحًا: «وكانت خسة الأجور والمرتبات من دواعى الاحتقار عند الشعب للصحفى، فإننا نعيش فى نظام ثرائى اقتنائى يحسب فيه مقام الفرد بمقدار ثروته».
ويناقش «موسى» فى كتابه القديم (الصغير)، حال الصحافة المصرية فى عصره، الذى لا يختلف عن عصور تالية له، وهو ما يكشفه محتوى الكتاب من أفكار ومقالات؛ حيث جاءت بعض عناوينه كالتالى: «يوم ماتت الصحافة فى مصر»، «لما كانت الصحافة محتقرة»، «الصحافة تَلقى عنتًا وعسفًا»، «كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية»، «الإعلانات فى الصحف»، «الأسلوب فى الصحافة»، «رذيلة صحفية: تملق الجماهير»، «الصحافة المصرية فى نصف قرن»، «كفاحى فى الصحافة»، «كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب».
وفى الفصل الأخير من الكتاب اختار سلامة موسى أن يكون عنوانه: «الصحفى كما يجب أن يكون»؛ حيث يقول: «الصحفى مثل الأديب لا يمكن أن يكون متفرجًا يروى الأحداث، ويقتصر على الرواية، غير معنى بما يصيب الأمّة أو الإنسانية من خير أو شر.. لا، ليس هناك برج عاجى سواء فى الأدب أو الصحافة».
وأختم بما قاله فريزر بوند، أستاذ الصحافة والكاتب فى صحيفة «النيويورك تايمز» فى كتابه المَرجع المهم «مدخل إلى الصحافة» الصادر فى بيروت عام 1964 عن مؤسّسة فرانكلين للطباعة والنشر: «إن الصحافة تعيش بنشر المعلومات. وكل ما يدخل فى نطاق حوزتها يصبح جزءًا من المعرفة والتاريخ المعاصرَيْن. إن واجب الصحافة أن تتكلم، وواجب رجال الدولة أن يعتصموا بالصمت»، الصحافة الحُرة هى بصر الأمّة وبصيرة الحُكم، ومن دونها لا تستقيم الحياة ولا تنتظم حركتها، وهى أيضًا من أهم أدوات ترتيب العقل فهى تمتلك قدرة تأثيرية كبيرة، وغيابها أفسح المجال لهيمنة «السوشيال ميديا» على العقول، فأفسدتها.