الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
23 عامًا على الرحيل..  فتحى غانم أديب حرفته الصحافة وصحفى بدرجة أديب

23 عامًا على الرحيل.. فتحى غانم أديب حرفته الصحافة وصحفى بدرجة أديب

أتذكر الأستاذ فتحى غانم كثيرا فى الآونة الأخيرة.. ربما لأن المرء كلما تقدم فى العمر يتذكر سنوات الصبا والشباب، والأستاذ فتحى غانم كان شخصية محورية فى صباى وشبابى. يلح على أننى لم أعرفه بالقدر الكافى، مع أننى عرفته جيدا، لسنوات، وكانت علاقتنا تسمح بالمزيد، لكن الخجل (ربما خجلنا المشترك) حال بينى والسعى إلى لقائه دون سبب، وألوم نفسى كثيرا على أننى لم أفعل.



أتذكر الأستاذ فتحى غانم كثيرًا فى الآونة الأخيرة، عندما أفكر فى «روزاليوسف» والصحافة، وما آلت إليه المهنة. كم كانت المجلة (والمجلات والصحف بشكل عام) عنصرا مهما ومبهجا فى الحياة، وكيف كانت جزءا أساسيا من حياة الكثيرين. أمر أحيانا على باعة الصحف، وينقبض قلبى حزنا، فالمكان خاوٍ غالبا ولا أحد يشترى أو يتصفح شيئا، وكثير من أكشاك و«فرشات» الصحف التى كنت أعرفها لم تعد موجودة.. حتى أنا توقفت عن شراء الصحف اليومية ومعظم المجلات منذ زمن.

أتذكر الأستاذ فتحى غانم لأنه كان مثالا حيا على هذا العصر، الذى تزوجت فيه الصحافة الأدب وأنجبا «روزاليوسف» و«صباح الخير». وكانت المجلتان تمتلئان بالصحفيين الأدباء، والصحفيين الفنانين.

كما حدث مع إحسان عبد القدوس ومع متعددى المواهب عادة، تعرض فتحى غانم للظلم كصحفى وكأديب. فتحى غانم كان موهوبا ومتمكنا من الاثنين، ولكن أهل الصحافة حسبوه على الأدب، وأهل الأدب حسبوه على الصحافة، وزاد على ذلك تواضعه وانطوائيته وخجله من الظهور والتباهى، وعدم ميله لإحاطة نفسه بالتلاميذ والمريدين، فبقيت إنجازاته وآثاره كصحفى وكأديب مجهولة ولا تنال ما تستحقه من اعتراف وتقدير.

أستاذ الصحفيين

تقول الدكتورة زبيدة عطا، زوجة الأديب الراحل فى حوار حديث لصحيفة «الدستور» (25 ديسمبر 2019)، إن فتحى غانم كان يحب أن يصف نفسه بأنه «أديب حرفته الصحافة». ويبدو أن فتحى غانم قد امتهن الاثنين معا فى فترة بداية الخمسينيات، بعد تخرجه فى كلية الحقوق بسنوات قليلة، وسرعان ما لمع اسمه فى «روزاليوسف» و«الأخبار» وشغل مناصب صحفية كبيرة، منها رئاسته لمجلس إدارة وتحرير «الجمهورية» وهو فى الثلاثينيات من عمره. والذين تتلمذوا على يديه أو عملوا معه يروون الكثير عن مهاراته كصحفى وقدراته كإدارى.

 كأستاذ للصحافة يمكن الإشارة إلى ما كتبه الصحفى الكبير مفيد فوزى تحت عنوان «درس فتحى غانم» (صحيفة «المصرى اليوم» 4 سبتمبر 2021) عندما قام فى بداية حياته الصحفية باجراء حوار مع مدير حديقة الحيوان بالجيزة، وقدمه إلى فتحى غانم الذى أبدى على الحوار ملاحظات تعد درسا حقيقيا لأى صحفى صغير أو كبير. 

وكرئيس تحرير ومجلس إدارة يروى الناقد السينمائى الراحل سمير فريد كيف أن فتحى غانم أرسله لأول مرة فى حياته إلى مهرجان «كان»، وسمير فريد لم يزل صحفيا ناشئا فى بداية العشرينيات من العمر، بعد حوار قصير بينهما أدرك على أثره الصحفى المخضرم أن الشاب الصغير يملك مقومات ناقد سينمائى متخصص يحتاج إلى الحصول على فرصة.

وكصحفى يمكن الرجوع إلى كتابات فتحى غانم التى تشهد بقدرته على توفير المعلومة وتحليلها وسردها بطريقة مشوقة، وكذلك إلى الفترات التى تولى فيها مناصب رئيس أو مدير تحرير إحدى المجلتين، ومستوى الصحافة الذى كان يقدمه.

التقيت فتحى غانم عقب واحدة من أهم محطات «روز اليوسف» وفتحى غانم الصحفية، عندما تصدت المجلة لأحداث انتفاضة 1977، ورفضت وصف الرئيس أنور السادات لها بأنها «انتفاضة حرامية»، وقد أطيح بكل من فتحى غانم وصلاح حافظ (رئيسا التحرير) وعبد الرحمن الشرقاوى (رئيس مجلس الإدارة) بسبب ما نشرته المجلة آنذاك..وكنت وقتها صبيا فى الاعدادية أشترى أعداد مجلة «روزاليوسف» القديمة من سور كتب السيدة زينب من أجل صفحة الشطرنج التى تنشرها المجلة. وذات يوم، جاء فتحى غانم إلى مقهى «نادى الشطرنج» القائم (إلى الآن) فى ميدان السيدة زينب، حيث كنت أجلس بصحبة بطل مصر السابق وعدد من أبطال اللعبة، وبدأت بيننا صداقة، أو بالأحرى علاقة أستاذ بتلميذه ولاعبى شطرنج فى فريق واحد، امتدت بعد ذلك لسنوات، يمكن الرجوع إلى تفاصيلها فى مقالى «معشوقة فتحى غانم التى لا يعرفها أحد» (مجلة «روز اليوسف»، 2 مارس، 2018).

زواج الأدب والصحافة

أتذكر فتحى غانم كثيرا فى الآونة الأخيرة لأسباب كثيرة، فبين الحين والآخر يتحفنا ماسبيرو ببث مسلسل «زينب والعرش»، الذى أخرجه يحيى العلمى ولعب بطولته محمود مرسى وكمال الشناوى وسهير رمزى وحسن يوسف، والذى يعد واحدا من أفضل المسلسلات فى تاريخ الدراما العربية، وكتبه كل من فتحى غانم وصديقه صلاح حافظ. 

«زينب والعرش»، مثل معظم إنجاز فتحى غانم الأدبى، هو نتاج هذا الزواج الناجح بين الصحافة والأدب، ورغم أن كثيرا من الصحفيين الأدباء والأدباء الصحفيين خرجوا من مؤسسة «روزاليوسف»، وبعض الصحف الأخرى، إلا أن أحدا منهم لم يكتب أدبا عن عالم الصحافة مثلما فعل فتحى غانم، ولا يكاد يوجد فى الأدب العربى، وربما العالمى، من يضاهى فتحى غانم فى روايتيه «الرجل الذى فقد ظله» و«زينب والعرش» عن مهنة الصحافة وكواليسها فى مصر. والذين حاولوا تقليده، مثل موسى صبرى فى «دموع صاحبة الجلالة»، لم يفعلوا سوى أن بينوا تفرد وتفوق كتابات فتحى غانم. وشخصية محفوظ عجب، الصحفى الانتهازى، وهى امتداد لشخصيات مثل يوسف عبد الحميد السويفى فى «الرجل الذى فقد ظله» وحسن زيدان فى «زينب والعرش»، تبدو كارتونية مقارنة بهذين الاسمين أو بمحمد ناجى فى «الرجل..» أو عبد الهادى النجار فى «زينب..»، كما أن الهدف فى أعمال فتحى غانم ليس أبدا إدانة شخص ما ولكن رسم صورة للظروف التى تدفع كل شخصية للتصرف والتفكير بالشكل الذى تفعله.

الأدب الصادق

يقول الفيلسوف وعالم السياسة فريدريش إنجلز (رفيق كارل ماركس وشريكه فى كتابة «البيان الشيوعى») إنه تعلم من كتابات الأديب الفرنسى أونرى دى بالزاك عن المجتمع الفرنسى فى عهد الثورة الفرنسية وما بعدها أكثر مما تعلم من كل كتابات علماء السياسة والاجتماع والمؤرخين. وفى حواره مع الناقد حسين عيد (صحيفة «الحياة اللندنية»، 27 أغسطس، 1998) يقول فتحى غانم «إن أى أدب صادق هو وثيقة يدرسها علم الاجتماع، ليعرف المجتمع، فالنص الأدبى يوضح الكثير من خفايا المجتمع أكثر من أى وسيلة أخرى للحصول على المعلومات».

وأعمال فتحى غانم هى بالفعل وثيقة تاريخية أصدق من التاريخ عن المجتمع المصرى فى الفترة منذ فترة الأربعينيات وثورة يوليو 1952 حتى عهد مبارك.

وهذا حديث يجرنا، ثانية، إلى العلاقة بين الصحافة والأدب.

الصحافة تعرض ما يحدث فى أى مجتمع من الخارج، ولكن الأدب يتسلل إلى أعماق هذا الظاهر ليرصد الدوافع والمحركات والآليات الأساسية التى يتحرك بها هذا المجتمع وأفراده. 

فى «تلك الأيام»، مثلا، تشريح للأفكار والمواقف السياسية التى سبقت 1952، من التطرف لدرجة الاغتيالات، والتفاوض لدرجة الاستسلام.

فى «الأفيال» تشريح للتطرف الدينى الذى ضرب كل بيت فى مصر تقريبا خلال سبعينيات القرن الماضى. وشخصية الشاب الذى يتحول للإرهاب ليس لها مثيل فى الأدب أو السينما. وقد تميزت أعمال فتحى غانم عامة برسمه الدقيق للشخصيات، وقدرته على إعطاء كل شخصية صوتها الخاص، وروايته «الرجل الذى فقد ظله» من أوائل روايات اللغة العربية التى تعتمد على تعدد الأصوات (على طريقة «رباعية الأسكندرية» للورانس داريل) حيث كل شخصية تروى الحكاية من وجهة نظرها. 

لغة سلسة وقلم جراح

فى حواره، سابق الاشارة إليه، مع الناقد حسين عيد يقتبس فتحى غانم مقولة المفكر الفرنسى إرنست رينان التى يقول فيها أن «الفنان الحقيقى هو الذى لا شخصية له»، بمعنى أنه يعيش فى الشخصيات التى يبدعها. وقد لاحظت فى الفترة التى اقتربت فيها من فتحى غانم خلال لقاءاتنا فى نادى الجزيرة قدرته الفذة على الاستماع والمراقبة الهادئة للناس من حوله والتقاط أدق التفاصيل التى تحدد شخصياتها.

مع ذلك فشخصية فتحى غانم موجودة أيضا، وبقوة، فى أعماله، فهو يترك للشخصية مساحتها الكافية فى التعبير عن آراءها، ولكنه قادر أيضا، بحس الصحفى والمحلل النفسى والاجتماعى أن يعريها حتى النخاع من أقنعتها المتعددة. وهو متأثر فى ذلك بأعمال الأديب الروسى فيدور دستيوفسكى، خاصة فى «زينب والعرش» التى تأثر فيها برواية «الأبله» بشكل خاص.

من الصحافة امتلك فتحى غانم لغة سلسة، سهلة، يحول فيها الفصحى إلى ما يشبه العامية، والعامية إلى ما يشبه الفصحى، وعباراته تتسم بالرشاقة والفضفضة والانفعالية لكن تحليلاته علمية وصارمة.

ومن الأدب امتلك أيضا القدرة على الغوص فى أعماق الموضوعات الصحفية التى يكتب عنها، وله، مثلا، مقال عن أهمية السد العالى يعج بالاحصائيات والأرقام التى يمكن أن تبدو جافة بقلم أى صحفى أو كاتب مقال آخر، ولكنها بقلمه تتحول إلى دراما تدب فيها الحياة!

وجوه أخرى

لفتحى غانم كذلك وجها آخر هو وجه الناقد الأدبى والفنى والمعلق الثقافى، لكن معظم هذه الكتابات لم تنشر فى كتب إلا القليل منها الذى ضمه تحت عنوان مثل كتابه «الفن فى حياتنا» أو «معركة بين الدولة والمثقفين»، وهو صاحب عمود أسبوعى شهير يحمل اسم «أدب وقلة أدب»، تميزت فيه كتاباته بمتابعة الجديد فى عالم الأدب من إصدارات وأحداث.

لكن لا أحد يعلم تقريبا أنه كان المحرر المجهول لصفحة الشطرنج الأسبوعية فى مجلة «روزاليوسف» فى السبعينيات مع بطل مصر آنذاك عاصم عبد الرازق.