الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ع المصطبة.. الأنبا «يوحنا قلتة» حامل مشعل التنوير

ع المصطبة.. الأنبا «يوحنا قلتة» حامل مشعل التنوير

أن يكون الإنسان رجل دين ومفكراً ثائراً فى الوقت نفسه، أمر نادر الوجود فى مجتمعاتنا الشرقية، وبقدر ندرة مثل هذه الشخصيات الروحية المؤثرة فى حياتنا بقدر شعورنا بالحزن الشديد على فقدانها، وإن كان عزاؤنا فيما تتركه من إرث روحى وفكرى وإنسانى خالد.



فقدت مصر برحيل الأنبا الدكتور يوحنا قلتة، المعاون البطريركى بالكنيسة القبطية الكاثوليكية، رمزاً وطنياً تنويرياً يصعب تعويضه، فهو الإنسان الساعى لنشر قيم الحرية، بقوة وصلابة القادم من عمق أرياف الصعيد «الجوانى»، كان خلال سنوات خدمته الكهنوتية مثالاً لسعة الصدر والهدوء والذهن المتفتح، لم يتخلّ عن دوره فى دعم قيم الحوار والعيش المشترك، بمشاعر وطنية حقيقية.

ومن بين مؤلفاته الكثيرة بالغة العمق، لعل كتاب «الإنسان هو الحل» يلخص فكر الأنبا يوحنا قلتة، إذ شخّص بعين ثاقبة أزمة العالم العربى، فى أنها بلدان تحتقر الإنسان خاصة الفقير والضعيف.

كما كان الأنبا يوحنا قلتة خير مثال على ثورة التجديد التى أحدثها المجمع الفاتيكانى الثانى (1962-1965) فى الكنيسة الكاثوليكية، حيث جاءت سيامته كاهناً عام 1960 مواكبة لهذا المجمع، بل كان من أبرز المبشرين بمخرجاته التى غيرت وجه الكنيسة.

أوجه شبه عدة تجمع بين الأنبا يوحنا قلتة وأستاذه عميد الأدب العربى د. طه حسين، فلقد تأثر كثيراً بفكر عميد الأدب العربى، حيث حصل على ليسانس الدراسات العربية والإسلامية عام 1965 والماجستير عام 1972 فى أثر الثقافة الفرنسية فى أدب طه حسين، وحاز على الدكتوراه من جامعة القاهرة حول دراسة المستشرقين الفرنسيين للأدب العربى عام 1981، ولقد انشغل الأنبا يوحنا قلتة كما انشغل أستاذه طه حسين، بالإنسان والدين وحرية الفكر وقضية البؤس.

كتب سيرته الذاتية بأسلوب أدبى راقٍ منقطع النظير فى (مذكرات كاهن فى الأرياف)، حيث النشأة فى قرية «القطنة» بمحافظة سوهاج ولم يبارح مخيلته ووجدانه مشهد البؤس والفقر فى القرية، ثم استكملها فى (مذكرات كاهن فى العاصمة)، فجاء انحيازه إلى الإنسان (المهمش) بأسلوب هادئ عميق.

لقد وضع الأنبا يوحنا قلتة يده على أصل الداء فى مجتمعنا الشرقى، وفى ذروة المد الأصولى كان صوته الهادئ يصرخ لإيقاظ الضمائر وإنارة العقول، فهو كان يرى أن السيادة يجب أن تكون للقانون المدنى، كن ما شئت، راهبًا أو وليًا أو ناسكًا، ولكن دع الحياة للقانون الذى ينظمها، الدين لا يدير حياة الناس اليومية، الدين يدير الضمير البشرى.

ومن مقولاته أيضاً: «فى وجداننا ما زلنا نعيش عصر العبودية والعصور الوسطى، فتلك العصور التى سميت بحروب الدين، فليس من حق أحد أن يدعى أنه خليفة الله على الأرض، وليس من حق المسلم أو المسيحى أو أى أحد أن يدعى أنه خليفة الله، فمن يظن أن الجنة محجوزة للبعض فهو مخطئ ومازال يعيش فى عقول العصور الوسطى».

ومن مقولاته أيضاً: «إذا تدخّل الدين فى السياسة فسدت وإذا تدخلت السياسة فى الدين وقع التخلف».

ونحن نودع الأنبا يوحنا قلتة بالجسد، فإننا ندرك أن أفكاره وفلسفته، التى طالما بشر بها من أجل قيام مجتمع متسق مع صحيح عقيدته، متصالح مع ذاته، ستبقى خالدة.