الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
روزاليوسف ضمير وطن معارك المجد والكبرياء والحرية

روزاليوسف ضمير وطن معارك المجد والكبرياء والحرية

مع سبق الإصرار والترصد وعزيمة لا تعرف الاستسلام وإرادة جبارة قررت السيدة «روزاليوسف» تحويل مجلتها من صحيفة أسبوعية أدبية مصورة، إلى جريدة سياسية انتقادية مصورة.



كان قرارًا من أخطر وأصعب القرارات، ورغم معارضة الأستاذ محمد التابعى وباقى أسرة تحرير المجلة، إلا أنها أصرت على قرارها ونفذته بالفعل!

وكانت كلما تفاتح الأستاذ التابعى فى هذا الموضوع كان يقول لها:

- لا يا ستى، أنا لا أحب السياسة ولا السياسيين!

وفيما بعد كتبت «روزاليوسف» دوافعها لذلك القرار فتقول:

«فكرت فى أن تصبح «روزاليوسف» مجلة سياسية فالمجلات الفنية سوقها محدود، وقد بدأت منذ سنوات أهتم بالسياسة وأسعى إلى حيث يخطب «سعد زغلول» لأسمعه، وكان «سعد زغلول» قد تحول من شخصية ممتازة إلى فكرة، ومن فكرة إلى عقيدة وطنية، وكانت السياسة المصرية مسرحًا عجيبًا تقدم فيه «أفكه» المهازل وأعجب المآسى، وكنت أحس بكل ما يجرى حولى وأتأثر به، وكنت كفنانة قضت عليها الظروف بأن تقف متفرجة على العجيب المدهش مما يمثل على «مسرح السياسة» أحس برغبة قوية فى أن أعتلى هذا المسرح الجديد وألعب دورًا فيه بحكم «غية التمثيل»!

وكانت الفترة التى قررت فيها تحول «روزاليوسف» إلى مجلة سياسية من أيام مصر العصيبة، كانت الحياة البرلمانية فى مصر تتعرض لأول نكسة عنيفة تصيبها، فقد انتهز الإنجليز فرصة مصرع «السردار» وأخرجوا سعد زغلول من الوزارة ووضعوا فى مقعد الرئاسة بدلا منه «زيور باشا» وأعلن «زيور باشا» حل مجلس النواب الأول الذى لم يتم من العمر إلا دورة واحدة، وجاء بإسماعيل صدقى وزيرًا للداخلية ليجرى انتخابات جديدة، ولما اجتمع البرلمان الجديد تبين أن الأغلبية فيه لا تزال وفدية تؤيد سعد زغلول، فأعلن حل البرلمان الجديد بعد انعقاده بساعات وعاشت مصر بلا دستور ولا برلمان ولا حريات»!

وذهبت السيدة «روزاليوسف» إلى وزارة الداخلية تطلب الموافقة على تحويل مجلتها من فنية وأدبية إلى سياسية ورفض «حسن رفعت» وكيل الوزارة طلبها وكان يظن أنها مجلة يتستر الوفد وراءها، ولم تيأس «روزاليوسف» وذهبت مباشرة إلى رئيس الوزراء «أحمد زيور باشا» الذى اندهش عندما علم أن وزارته تمنع الترخيص بإصدار صحف سياسية، فقام باستدعاء حسن رفعت وقال له: أعطوها ترخيصًا خلوها تاكل عيش!

وعن شخصية زيور باشا تقول «روزاليوسف»: كان رحمه الله طيبًا جدًا من طراز لم تشهد المناصب مثله، كانت الدنيا تثور من حوله وهو لا يهتم، قد تهتف المظاهرات باسمه وتطالب الجماهير بدمه، تنسب إليه الصحف أعنف الاتهامات، ولكنه يظل فى عالمه الخاص لا يشهد المظاهرات ولا يهتم بالجماهير ولا يقرأ الصحف قط، وكان إذا قيل له إن جريدة تهاجمه قال: خليها تاكل عيش!

وذات صباح يوم 24 مارس سنة 1926 خرجت «روزاليوسف» تزف للقراء الخبر قائلة: «رخصت لنا وزارة الداخلية بإصدار جريدة سياسية أسبوعية تحمل اسم «روزاليوسف» وإدارة المجلة توالى الآن إعداد المقرات للقسم السياسى، وتريد أن تلفت نظر حضرات القراء إلى أن صبغة المجلة الفنية الأدبية باقية كما هى وأن القسم السياسي لا يؤثر بحال من الأحوال على أبواب المجلة ولونها الحالى».

وهكذا أصبحت «روزاليوسف» مجلة سياسية دخلت ميدان السياسة وحيدة لا يسندها حزب ولا يمولها حاكم ولا يدبج لها المقالات كاتب سياسى قديم!

بهدوء شديد دخلت مجلة «روزاليوسف» مسرح السياسة، وكان أول مقال سياسى تنشره هو مقال السيدة «روزاليوسف» فى محكمة الجنايات ملاحظات ممثلة وصحفية، بتاريخ 21 أبريل سنة 1926 وفيه تصف محاكمة أحمد ماهر والنقراشى المتهمين بقتل السردار الإنجليزى!

وتنفرد «روزاليوسف» بنشر صفحات من مذكرات سعد زغلول التى انفرد بها الأستاذ «محمد التابعى» وأقامت الدنيا وأقعدتها خريف سنة 1927.

وتنشر «روزاليوسف» أول كاريكاتير سياسى للسياسى البارز حسن نشأت أحد المقربين للقصر الملكى مصحوبًا بأبيات من الزجل وتصف عودته إلى مصر بعد زيارة للخارج بأن عودته «نحس وشؤم»!

وشاءت الصدفة أن تتقابل السيدة «روزاليوسف» معه فابتسم قائلاً لها:

- بقى أنا وشى نحس يا ست؟!

فضحكت السيدة «روزاليوسف» قائلة: بالعكس ده توزيع المجلة زاد على وشك يا باشا!

لكن الأزمة الكبرى وقعت عندما كانت السيدة «روزاليوسف» فى باريس وتقول:

جاءتنى فى باريس أنباء خطيرة عن المجلة، فقد كتب الأستاذ التابعى سلسلة مقالات بلا توقيع عن الحياة الخاصة لملوك وملكات أوروبا تحت جنح الظلام، وثارت الصحف المعادية لـ «روزاليوسف» وثارت الدوائر الأجنبية وألقت النيابة القبض على الرجل الذى أنبته فى رئاسة التحرير أثناء سفرى «إبراهيم خليل» وهذا معناه توقف المجلة عن الصدور وفعلا توقفت!

ولم يكن لإبراهيم خليل فى الواقع شأن بالتحرير فاعترف فى التحقيق بأن كاتب هذه المقالات هو الأستاذ «محمد التابعى» الموظف بالحكومة، ولم تطلق النيابة سراح «إبراهيم خليل»، بل قبضت على التابعى وأنزلتهما معًا فى زنزانة السجن!

وأحيلت القضية إلى المحكمة، ونظرت فى جلسات سرية وصدر الحكم عليهما بالحبس ستة شهور مع إيقاف التنفيذ!

وكان لهذه القضية فضل الكشف عن الأستاذ التابعى ككاتب سياسى، إذ كان حتى ساعة القبض عليه يكتب فى المسائل السياسية مستترًا بلا توقيع!

وتوقفت المجلة عن الصدور لمدة أسبوعين!

لم تترك السيدة «روزاليوسف» فرصة أو مناسبة إلا وتذكرت بكل فخر واعتزاز المعارك التى خاضتها مجلتها أو المجلات الأخرى التى أصدرتها فى حال تعطيل المجلة عن الصدور.

فى إحدى هذه المقالات المهمة تقول السيدة «روزاليوسف»:

«إن حياتى كلها فى هذه الصفحات التى تؤلف مجموعة «روزاليوسف» خلال ثلاثين عامًا، وعندما أقلب صفحات هذه المجموعة، وهو ما أفعله فى كل أوقات فراغى، أحس أنى أقلب ألبومًا يضم صورى فى جميع أدوار عمرى!

ولكن الصورة ليست صورتى والقصة ليست قصتى، إنها صورة مصر وقصة مصر منعكسة على الصفحات، لم تضطهد مصر يومًا إلا واضطهدت «روزاليوسف» ولم تختنق مصر يوما إلا واختنقت معها «روزاليوسف»، ولم تجع مصر يوما إلا وجاعت معها «روزاليوسف»، ولم تثر مصر إلا ومهدت لثورتها «روزاليوسف» إنه التاريخ نفسه سجلته الأقلام على هذه الصفحات!

ولكن التاريخ الذى سجلته «روزاليوسف» فيه بعض الثغرات التى تبدو فى الأعداد الناقصة من المجموعة، أعداد لم يرها القارئ أبدًا، لأن يد البطش امتدت إليها فصادرتها، ويد البطش هى يد كل الحكومات التى مرت على مصر، لا فرق بين حكومة دستوريين أو حكومة وفديين أو حكومة سعديين أو حكومة مستقلين!

ولم تكتف السيدة «روزاليوسف» بهذه السطور، بل قدمت للقارئ شهادتها الموثقة بالأرقام، فكتبت تقول: وهذه هى إحصائية مسجلة فى دفاتر «روزاليوسف» وفى دفاتر الدولة:

«فى 30 يونيو 1928 صادرت حكومة محمد محمود «3000 نسخة» من العدد 134، ومنعت طبع الكمية الباقية بسبب صورة لمحمد محمود وهو يدوس على الدستور!

وفى 15 سبتمبر 1928 صادرت نفس الحكومة «2800 نسخة» من العدد 144 ومنعت طبع باقى الكمية بسبب صورة استعراض رجال الأحزاب المؤتلفة!

وفى 16 سبتمبر، أى فى اليوم التالى للمصادرة السابقة، أصدرت الحكومة قرارًا إداريًا بتعطيل المجلة لمدة أربعة شهور!

وكنت أواجه هذا التحدى بإصرار، كلما عطلت الوزارة المجلة أصدرت مجلة أخرى با سم جديد.

أصدرنا مجلة الرقيب التى كان يملكها المرحوم «جورج طنوس» وشم الناس رائحة «روزاليوسف» بين صفحاتها فأقبلوا عليها، وصادر البوليس «3000 نسخة»، من العدد رقم 76 ومنع طبع باقى الأعداد دون إبداء أسباب، وفى اليوم التالى عطلت الرقيب نهائيًا.

وعادت «روزاليوسف» إلى الظهور بعد انتهاء مدة تعطيلها، أربعة أشهر، وفى 27 يناير 1929 صادر البوليس «3000 نسخة» من العدد رقم 146 ومنع طبع باقى الكمية، وقد صادر البوليس هذه المرة كل الأعداد المطبوعة بما فيها الأعداد ا لخاصة بالمجموعة التى تحتفظ بها الدار.

وفى 23 فبراير عام 1929 أصدرنا مجلة «صدق الحق» فصادر البوليس «1000 نسخة» من عددها الأول ومنع طبع باقى الكمية، ثم صدر أمر بتعطيل هذه المجلة نهائيًا.

وأصدرنا بعد ذلك مجلة «الشرق الأدنى» وفى 20 يوليو 1929 صادر البوليس «16000 نسخة»، من العدد رقم 86 ومنع طبع باقى الكمية، ثم صدر أمر بتعطيل «الشرق الأدنى» نهائيًا، ولم تعرف أسباب المصادرة أو التعطيل!

وكانت كل مجلة يُكتب على صدرها تشترك فى التحرير السيدة «روزاليوسف»، وهكذا اضطررنا إلى الصدور بأربعة أسماء مختلفة فى أقل من عام.

وتروى السيدة «روزاليوسف» هذه الواقعة الطريفة:

«فى غمرة هذا الصراع العنيف أرادت الوزارة أن تجرب مع «روزاليوسف» سلاحًا آخر، فزارنى يومًا موظف كبير فى الداخلية يعرض على أموال الحكومة فى نظير تخفيف الحملة على «محمد محمود» وحكمه المطلق، ولكننى رفضت ثم تبين أن الموظف الكبير ظل يقبض مبلغًا شهريًا بدعوى أنه يوصله إلينا، وكان «محمد محمود» يعجب حين يعرف أن النقود تدفع فى حين أن المجلة ماضية فى عنفها حتى اكتشف أخيرا أن النقود تذهب إلى جيب الموظف الكبير فطرده شرد طردة!

وقد التقيت يومًا بالمرحوم «محمد محمود» وهو رئيس للوزارة سنة 1939 قبل وفاته بعام واحد فذكرنى بهذه القصة ضاحكًا!

وتستمر السيدة «روزاليوسف» فى كشف أسرار معاركها فتقول:

كان لهذا الكفاح ثمنه الباهظ الذى دفعته المجلة من المصادرة والقضايا، يكفى أن تذكر أن «روزاليوسف» فى السنتين الثالثة والرابعة من عمرها، من أكتوبر عام 1927 إلى أكتوبر سنة 1929، كان المفروض أن يصدر منها 104 أعداد باعتبار أن السنة 52 أسبوعًا، ولكن «روزاليوسف» لم يصدر منها فى هذه المدة إلا 42 عددًا وصودر 62 أى أن ما صودر منها كان أكبر مما صدر!

وعادت «روزاليوسف» إلى الظهور بعد سقوط حكومة «محمد محمود» وتولية «إسماعيل صدقى» وفى 3 أغسطس 1930 صادر البوليس «30٫000 نسخة» من العدد رقم 184 ومنع طبع باقى الكمية بسبب صورة لإسماعيل صدقى وهو يستعين فى حكمه بالعناصر الرشيدة: الحديد والنار!

كنت بالإسكندرية عند ظهور العدد المذكور، فلم يمض يومان حتى جاءنى الخبر أن دولة «صدقى باشا» ألغى رخصة المجلة إلى أجل غير مسمى، وكانت هذه أول مآثر يد الباشا علىّ!

وانصرفت أبحث عن رخصة أخرى أصدر المجلة باسمها حتى عثرت على رخصة باسم «الصرخة» اتفقت مع صاحبها على أن يعيرها فى نظير 12 جنيهًا شهريًا وحتى يعرف الناس أن المجلة الجديدة هى «روزاليوسف» كتبت على غلافها «روزاليوسف ومحمد التابعى ومحمد على حماد يحررون هذه المجلة» فعرف الناس فيها مجلتهم الأصلية، وأقبلوا عليها إقبالاً شديدًا وقد صدر منها 42 عددًا قبل أن تعود «روزاليوسف» إلى الصدور»!

وسقطت حكومة إسماعيل صدقى وعادت «روزاليوسف» إلى الظهور فى عهد حكومة «توفيق نسيم» وفى 23 نوفمبر سنة 1935 صادر البوليس «20٫000 نسخة» «عشرين ألفًا» من العدد 405 ومنع طبع باقى الكمية بسبب صورة للمصرى أفندى وهو يحمل لوحة مكتوبًا عليه: «لا تنسوا شهداءكم»!

ومن الوقائع الطريفة الخاصة بتوفيق نسيم باشا تروى «روزاليوسف» قائلة:

«أذكر يوم صادر «توفيق نسيم» «روزاليوسف» لأنها رسمته يدوس الدستور، وكنت جالسة فى المطبعة أنتظر حضور البوليس بين لحظة وأخرى لتنفيذ قرار المصادرة والاستيلاء على النسخ المطبوعة، وإذا بى أسمع هتافات تملأ الطريق وأخرج لأرى مظاهرة ضخمة من الطلبة تمر بالشارع هاتفة بالدستور صارخة بالاحتجاج على تدخل الإنجليز داعية إلى ائتلاف الأحزاب وتوقفت المظاهرة قليلاً عند مطبعة «روزاليوسف» تحيى الجريدة التى تدعو إلى نفس المبادئ.

وفجأة خرجت إلى المتظاهرين وأخذت أقذف إليهم بأعداد المجلة المصادرة فتهافتوا عليها، وتجمع حول المتظاهرين جمع آخر كبير من الناس والعابرين وأنا واقفة أقذف إليهم بالمجلة المصادرة وهم يتخاطفونها، ويحاول كل واحد منهم أن يظفر بأكبر عدد من نسخها، أليست النسخ مصادرة؟! إذن أعطيها للناس بلا ثمن خير من أن يأخذها البوليس ويضعها فى المحافظة، حيث تأكلها الفيران بغير رقيب وهى تسمن ولا تبالى بأصول النحافة والرشاقة حتى أصبحت مثل العجول!

وتولت حكومة الوفد ووقعت معاهدة 36 وفى 22 فبراير صادر البوليس «30٫000 نسخة» من العدد رقم 469 ومنع طبع باقى الكمية بسبب مقال عنوانه «وظائف الدولة يسرح بها الأنصار»!

وفى 15 مارس 1936 صادرت حكومة الوفد «20٫000 نسخة» من العدد 473 ومنعت طبع باقى الكمية، بسبب مقال بعنوان «اهتفوا معى أيها الصغار ليسقط الخائن»!

وفى 23 نوفمبر 1936 صادرت حكومة الوفد «20٫000 نسخة» من العدد رقم 507 بسبب صورة للوزارة أمام القضاء وقد حكم عليها بإحالة الأوراق إلى المفتى ولا يوجد من هذا العدد أى نسخة فى المجموعة!

ولم يكن الأمر أمر مصادرات فقط، بل تحقيقات وقضايا ووقوف فى ساحات المحاكم، ورحلات يومية إلى مبنى النيابة، وكلما فكرت فى هذه القضايا وجدت ذاكرتى تنوء بها وتعجز عن حصرها، فإذا رويت طرفًا منها فليس ذلك إلا من قبل المثال لا الحصر»!

لست أعرف مكانًا ترددت عليه أكثر من منزلى، ثم إدارة مجلتى، ثم ولا تستعجب أو يأخذك الدهشة، النيابة العمومية، ولست أدرى شغفى بالنيابة وولعى بالتحقيق والمحاكمة وغرامى بالوقوف فى قفص الاتهام، وكلما أتحفتنى النيابة بدعوة منها كان اغتباطى، فقد كان اليوم الذى أتوجه فيه إلى النيابة هو اليوم الذى أظل أترقبه فى لهفة وشوق كما يترقب الطفل يوم العيد ليحصل على الهدية المنتظرة!

هكذا كتبت السيدة «روزاليوسف» وذكرت عشرات الحكايات عن وقوفها أمام النيابة للتحقيق معها حول ما تنشره المجلة سواء خبرًا أو مقالاً أو كاريكاتيرًا.

وتقول السيدة «روزاليوسف»:

«ذات يوم من أواخر شهر مايو 1928 وصلنى إخطار من نيابة مصر بدعوتى للحضور إليها لإجراء تحقيق معى بناء على شكاية الزميل سليمان فوزى «صاحب مجلة الكشكول».

كانت دهشتى عظيمة وكان زهوى أعظم، دهشت أن أرى الرجل الذى لم ينج أحد - كبيرا كان شأنه أم صغيرا - من لسانه، الرجل الذى يجرح الكرامات ويثير الغبار فى كل وجه يتأثر أخيرًا من جرح كرامته وما أثرته فى وجهه من غبار!

وزهوت إذ رأيته يلقى السلاح ويلتجئ إلى النيابة، وهكذا سرت إلى النيابة للمرة الأولى فى حياتى، يتملكنى زهو وإعجاب ذهبا بكل ما كان يصح أن يتولانى من خوف ورهبة!

وبكلمات ساخرة تقول: اعتقد رؤساء التحرير يومًا ما أن قانون العقوبات أخف وطأة على السيدات منه على الرجال، وأن من بين حضرات رجال القضاء من يعتقد أن السيدة «روزاليوسف» سيدة، فتنحوا لها عن رئاسة التحرير، ولكن القانون لم يرحم، فحكم عليها مرة بالسجن ستة أشهر، ومرة بالسجن أربعة أشهر وكان الحكمان مع إيقاف التنفيذ، إلا إن كانت وزارة النحاس باشا عام 1937 فأمر بإدخالها السجن، وكانت أول رئيسة تحرير فى تاريخ الصحافة تدخل السجن!

إن أبرز خط فى شخصيتى هو الكفاح، والكفاح فى حياتى لم يغطه أحد بالأسفلت، وقد مشيت الطريق كله، لقد عشت مع «روزاليوسف» أنصهر فى فرن السياسة، اهتزت الأرض من تحتى مرات ولم أهتز.

وضعت أمامى مبادئى ومضيت العمر أحميها من غربان السياسة وفئران القصر، صادروا مجلتى حتى كانت تصدر عددًا وتصادر خمسة وقاومت أغرونى بالمال وعذبونى بالتهديد وقاومت».

ولم يكن الكاتب الكبير الأستاذ «محمد التابعى» بعيدًا عن معارك وأزمات «روزاليوسف» طوال فترة عمله منذ العدد الأول وحتى اختلفا وترك المجلة.

كتب التابعى يقول: «كان اسمى يظهر إلى جوار اسمها فى عشرات المجلات التى أصدرناها، فى قضايا الصحافة، فى محاكم الجنايات، فى معارك الحرية التى خضناها. «روزاليوسف» بالنسبة لى لم تكن صديقة فحسب، وإنما كانت شريكة الشباب، كانت رفيقتى فى الكفاح الطويل الشاق، كانت جزءا من صراعى فى الحياة وكنت جزءًا من حياتها المليئة بالعرق والدم والدموع».

وعن قصة سجن التابعى تقول «روزاليوسف»:

كتب التابعى تعليقًا ساخرًا فى «روزاليوسف» وأرسلت النيابة تحقق معى بوصفى رئيسة التحرير المسئولة، ولكن المقال كان يحمل توقيع التابعى، فقدم إلى المحاكمة أيضا، فصدر الحكم على التابعى بالحبس أربعة أشهر وعلىَّ بغرامة خمسين جنيها، ولم يصدر الحكم فى نفس الجلسة وحين صدر كان الأستاذ التابعى فى الإسكندرية فعاد ليسلم نفسه»!

ومن ذكريات التابعى التى لا تنسى وكان ذلك أثناء وزارة «محمد محمود باشا» الذى قام وقتها بتعطيل «روزاليوسف» عن الصدور لمدة أربعة شهور، ويقول:

«بعد انتهاء مدة التعطيل ذهبت إلى رمل الإسكندرية لأمضى عطلة الأسبوع، وأقمت فى فندق سان ستيفانو، وكان محمد محمود باشا يقيم فى جناح خاص فى نفس الفندق، وبينما أنا فى طريقى ذات مساء إلى غرفتى، وكانت فى نفس الدور الذى يقيم «محمد محمود باشا» قابلنى صديق المرحوم والدى «إبراهيم الطاهرى بك»، رحمه الله، وكان عضوا فى حزب الأحرار الدستوريين، وأخذنى من ذراعى وسحبنى رغم إرادتى إلى باب الجناح الخاص بمحمد محمود باشا، وفتح الباب ودفعنى أمامه وهو يقول: «أنا جبت لدولتك فلان «أى أنا»!

وقام محمد محمود باشا ورحب بى وأجلسنى إلى جانبه، ثم نظر إلىَّ طويلا وقال:

- باين عليك إنك ذكى ونبيه، وإزاى بقى واحد نبيه زيك يؤيد النحاس باشا؟!

وسكت ولم أجب، وعندما وقفت مستأذنا فى الانصراف قال لى رحمه الله:

- وأنا تحت أمرك فى أى حاجة تطلبها!

وكان المعنى واضحا وهو أنه كان مستعدا لأن يعطينى من المصاريف السرية أى مبلغ أطلبه، وعدت إلى القاهرة وطلبت من «صاروخان» رسام الكاريكاتير أن يرسم صورة غلاف عدد «روزاليوسف» القادم وفيها ساق آخر حذاء ضخم والحذاء يركل محمد محمود باشا فى ظهره وتحت الصورة هذه العبارة، هذا ما تريده مصر!

ويحكى الأستاذ التابعى عن أغرب شرط طلبه رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا لكى يتوقف عن تعطيل أو مصادرة «روزاليوسف» فيقول:

«تحملت المرحومة فاطمة اليوسف، وأنا من الخسارة المالية ما لا طاقة لنا باحتماله، وذهبت إلى «توفيق دوس باشا» شقيق «وهيب دوس باشا»، وكان وزيرا فى وزارة إسماعيل صدقى باشا وسألته أن يتوسط لدى رئيس الوزراء لكى يكف عن مصادرة أعداد المجلة أو على الأقل ما دام رجال البوليس السياسى السرى يراقبون المطابع، فإن فى إمكانهم أن يحصلوا على بروفات المقالات ويرسلوها إلى دولته لكى يطلع عليها ويحذف منها ما لا يعجبه، ثم يعيد إلينا البروفات ونبدأ الطبع بعد ذلك، أما أن يتركنا نطبع المجلة وقد بلغ عدد ما يطبع منها أربعين ألف نسخة فى الأسبوع، وكان هذا رقما قياسيا فإنها عقوبة قاسية!

واقترح علىَّ «توفيق دوس» أن يجمعنى بإسماعيل صدقى باشا فى داره برمل الإسكندرية، وفى عطلة الأسبوع سافرت فعلا وذهبت فى الساعة المعينة فى يوم الجمعة وقابلت «صدقى باشا» فى حديقة داره.

وقال لى بعد أن تبادلنا التحية: أنا وجهى لا يصلح للكاريكاتير، ولكن وجه النحاس باشا هو اللى يصلح للكاريكاتير! وقلت له: إذا كانت الحكاية كلها وجه دولتك فأنا أعدك بأن أمتنع عن رسم وجهكم فى أى صورة كاريكاتيرية!

لقد كان كاريكاتير الفنان «صاروخان» ورسومه هى أكثر ما يضايق رجال الأحزاب والسياسة، بل الحكومات المتعاقبة، بل إن أكثر القضايا التى أقيمت ضد «روزاليوسف» وأسفرت عن تعطيلها أو مصادرتها كانت بسبب كاريكاتير صاروخان الذى يضع له أفكاره وتعليقاته الساخرة الأستاذ التابعى.

ولعل أكبر معركة خاضتها السيدة «روزاليوسف» كانت مع حزب الوفد، ولم تأبه لأى تهديد أو وعيد وجّهه لها. وقررت «روزاليوسف» أن تخوض المعركة التى فرضت عليها، رغم أن الوفد فى ذلك الوقت كان على درجة من القوة يستطيع بها أن يقتل أى جريدة بمجرد إعلانه أنها خرجت عليه!

تقول السيدة «روزاليوسف» فى أول عهد دخول المجلة فى عالم السياسة ومناصرة حزب الوفد ورجاله جاءنى من يحمل إلىَّ أن الوفد معجب بالمجلة وخطتها، ولكنه لا يود أن يعترف بها ضمن الصحافة الوفدية لأنها تحمل اسم سيدة، وبعد أن قام النحاس باشا - زعيم الوفد - فى حفلة وذكر المجلة باسمها واضطر تحت ضغط الحوادث إلى الاعتراف بانتمائها إلى الوفد!

وقد بلغ من نجاح «روزاليوسف» أن جريدة السياسة التى كانت تنطق بلسان الأحرار الدستوريين وتناصب الوفد العداء، أطلقت على الوفد اسم «حزب روزاليوسف»، ولم يجد مصطفى النحاس فى هذه التسمية غضاضة، بل وقف مرة يخطب فى حشد من أنصاره فقال أنه يفخر بأن يكون الوفد حزب «روزاليوسف» المجلة المجاهدة الشجاعة التى لا تبالى بالاضطهاد».

وقع الخلاف بين «روزاليوسف» والوفد فى أعقاب تولى «توفيق نسيم باشا» رئاسة الحكومة وإعلانه أن هدفه هو إعادة الدستور والحياة النيابية، وبمرور الوقت لم يتحقق هذا الوعد فبدأت معركة «روزاليوسف» الجريدة والمجلة فى مهاجمة الوزارة التى كان الوفد والنحاس باشا يساندها، وهو ما كان يعترض عليه الوفد ورجاله، ومضت «روزاليوسف» فى طريقها!

ويجتمع الوفد فى بيت الأمة يوم 28 سبتمبر سنة 1935 ليصدر بيانًا أن «روزاليوسف» لا تمثل الوفد فى شىء ولا صلة له بها!

وتكتب «روزاليوسف»: كان خروجى على الوفد وليس على مبادئ الوفد، حدثا اهتزت له الدوائر السياسية، وطلع على الناس بالعجب والدهشة بعد أن وقفت هذه المجلة وعلى رأسها صاحبتها تدافع عن الوفد وتذود عنه فى وقت كان يعوزه المدافع الحق الذى يرخص فى سبيل دفاعه القلب والمال»!

كل سنة و«روزاليوسف» طيبة وبخير فى ظل مبادئها وضميرها.